مع مرور الأيام والأسابيع، تتلاشى الدهشة شيئاً فشيئاً من انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وتحل محلها محاولات تلمس السياسات المتوقعة له خلال السنوات الأربع القادمة، لما لها من تأثير على مختلف القضايا والبلاد، وتركيا ليست في ذلك بدعاً من الدول.
خلفية العلاقات
تعود العلاقات التركية – الأمريكية إلى عهد الدولة العثمانية، لكن التحول المهم فيها بدأ بعد إعلان الجمهورية، وخصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حين دفعت المطامع السوفياتية في المدن والمضائق التركية أنقرة إلى الدخول تحت الحماية الأمريكية (خطة مارشال) والتحالف معها. ترسخت العلاقات أكثر مع دخول تركيا الحرب الكورية وقبولها عام 1952 في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكن العلاقات كانت أبعد ما تكون عن الندية.
فقد خدمت أنقرة الولايات المتحدة طوال فترة الحرب الباردة كقاعدة متقدمة للناتو في وجه الاتحاد السوفياتي السابق، وتعرضت للخذلان من “حليفتها” أكثر من مرة، أهمها أزمة الصواريخ الكوبية (1962) و”رسالة الرئيس جونسون” حادة اللهجة بخصوص قبرص (1964) ووقف المساعدات العسكرية (1964-1974) وتجاهلها في حرب الخليج الثانية (1991).
مع العدالة والتنمية، حرصت تركيا على علاقة أكثر ندية وتعاوناً مع الولايات المتحدة، بيد أن حرب العراق عام 2003 (بعد فوز الحزب بالانتخابات بأشهر فقط) أدت إلى أزمة بين البلدين، لم تخف وطأتها إلا مع أوباما عام 2009. فقد حرص الأخير على علاقة طيبة مع تركيا وقدمها كـ”نموذج” يحتذى به في العالم العربي – الإسلامي في جمعها بين الدين الإسلامي والديمقراطية. بعد فترة أولى سادتها أجواء إيجابية، تعرضت العلاقة الثنائية لعدة أزمات وعقبات في فترة أوباما الثانية سيما مع تأزم القضية السورية.
بين ترامب وكلينتون
خلال الحملة الانتخابية وحتى إعلان النتيجة، لم تشأ القيادة التركية أن تدخل على خط المنافسة بين المرشحَين أو أن تظهر وكأنها تفضل أحدهما على الآخر، لكن أيضاً لا يمكن القول إنها كانت على الحياد التام بخصوصهما.
لقد مثلت هيلاري كلينتون بالنسبة لتركيا خطراً مستمراً ومتفاقماً، أولاً لأنها من نفس حزب أوباما (الديمقراطي) بما يعني استمراراً محتملاً لنفس السياسات الإشكالية مع أنقرة، وثانياً لتصريحاتها المتكررة التي أكدت على اعتماد واشنطن على “الأصدقاء الأكراد” في سوريا وتجاهلت أنقرة تماماً، وثالثاً لتبرع أعضاء جماعة كولن (التنظيم الموازي) في الولايات المتحدة لحملتها الانتخابية رغبة في فوزها لإدامة الحماية الأمريكية والممطالة في تسليمه لأنقرة. بمعنى أنها تموضعت إلى جانب “عدوين” كبيرين لتركيا: الكيان الموازي المتهم بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/يوليو الفائت، والفصائل الكردية المسلحة في سوريا المصنفة إرهابية في تركيا ويشكل مشروع “دويلتها” في الشمال السوري خطراً على الأمن القومي التركي.
أما دونالد ترامب، ولأسباب كثيرة، فقد شكل لتركيا أملاً في سياسات أمريكية مختلفة تجاهها وإزاء قضايا المنطقة بشكل عام. تصريحات كثيرة لترامب وفريق مستشاريه أشارت إلى خطأ واشنطن في عدم تسليم فتح الله كولن – زعيم التنظيم الموازي المقيم في بنسلفيانيا – لتركيا، ودعت إلى تعاون أوثق مع الأخيرة في سوريا تحديداً، فضلاً عن موقفه من الانقلاب الفاشل والذي كان مناسبة لتعبيره عن “تقديره للشعب التركي ولدور الرئيس اردوغان” في إسقاط الانقلاب.
من هؤلاء المستشارين بيتر نافارو الذي كتب منتقداً تبرعات جماعة كولن لحملة هيلاري الانتخابية، ومايك فلين، مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية في الفترة 2012 2014 وأحد مساعدي ترامب الرئيسين،الذي شبه فتح الله كولن بـ”الملا” (إشارة إلى القيادات الإيرانية) واعتبر أن شبكته حول العالم أقرب للمنظمة الإرهابية، مسانداً الخطاب التركي الذي يعتبر أن” كولن بالنسبة لتركيا هو بمثابة بن لادن بالنسبة للولايات المتحدة”.
الجنرال المتقاعد مايك فلين، سالف الذكر والذي عينه ترامب لاحقاً مستشاراً للأمن القومي، كتب أيضاً يوم الانتخابات مقالاً بعنوان “حليفتنا تركيا في أزمة وتحتاج دعمنا”. بينما أيد اثنان من كبار مساعديه، هما نائب الرئيس المنتخب وحاكم ولاية إنديانا مايك بنس ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وأحد المرشحين لوزارة الخارجية بوب كوركر، فكرة المنطقة الآمنة التي تدعو لها تركيا منذ سنوات، هو اتجاه اقترب منه ترامب نفسه في أحد خطاباته.
أكثر من ذلك فإن موقف ترامب الرافض للوجود الأمريكي العسكري في الشرق الأوسط يجعله أكثر اعتماداً على الحلفاء وفي مقدمتهم تركيا، إضافة إلى إمكان تراجعه عن الاتفاق النووي مع إيران (مع صعوبة ذلك وعدم رجحانه)، فضلاً عن اتجاهه – كجمهوري وكفرد- إلى عدم الضغط على الحلفاء في قضايا الحريات والإعلام والحقوق.
هذه الإشارات وغيرها أدت إلى تفاؤل أنقرة بالقادم الجديد للبيت الأبيض، ولعل من دلالات هذا الاستبشار التركي مسارعة الرئيس التركي ليكون من أوائل رؤساء الدول المهنئين له والمتطلعين إلى تعاون وثيق مع إدارته واعتبار المظاهرات التي خرجت ضده رفضاً للديمقراطية وعدم اعتراف بنتائجها.
ترامب الرئيس
لا يغيب عن أنقرة طبعاً أن الحملات الانتخابية شيء وما بعدها شيء آخر قد يكون مختلفاً تماماً حد التناقض، ولذلك فقد انتشرت بعد النتائج مباشرة تقييمات ومقارنات كثيرة بين “ترامب المرشح” و”ترامب الرئيس”. وبالتالي، فإن التوقع باختلاف سياسات الرئيس الجديد عن تصريحاته ووعوده يبدو أمراً منطقياً ومتوقعاً، للأسباب التالية:
أولاً، افتقاره إلى أي خلفية سياسية أو أكاديمية أو خبرة حزبية أو بيروقراطية، وصدور معظم تصريحاته عنشعبوية تدغدغ عواطف الناخبين وتنال من المنافس،وعليه فإن مؤسسات الدولة ورؤية الحزب الجمهوري وفريق المساعدين والمستشارين هم – في الأغلب – من/ماستصوغ الرؤى والسياسات أكثر من ترامب نفسه، وإن كان سيحتفظ لنفسه بجزء من آلية صنع القرار أو “بصمة” مميزة خاصة به.
ثانياً، في الملف الكردي الحساس جداً بالنسبة لأنقرة وخصوصاً في بعده السوري، أبدى الرجل “إعجابه” الكبير بالفصائل الكردية المسلحة داعياً إلى جمعهم مع تركيا في المعركة ضد”داعش”، كما أنه دعا مراراً إلى “التعاون مع روسيا في سوريا ضد داعش” ورفض فكرة تسليح المعارضة السورية (التي قال إن واشنطن لا تعرف من هي) معتبراً أنها بديل “أسوأ من الأسد”.
ثالثاً، إن الكثير من تصريحات ترامب – حتى قبل انتخابه – متناقضة مع بعضها البعض بما يشير إلى افتقار الرجل لرؤية واضحة في سياسته الخارجية، كما في المثال المشار إليه آنفاً عن رغبته في تعاون تركيا مع حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب المصنفين على قوائم الإرهاب التركية، وكما في حديثه عن الاتفاق النووي مع إيران الذي تحدث أحياناً عن إلغائه وأحياناً أخرى عن تعديله.
محذورات وعقبات
أخيراً، في تعاملها مع الرئيس الجديد وتعاونها مع إدارته اختياراً أو اضطراراً، تحتاج تركيا لدرجة بالغة من الحذر. فمن جهة، هو ذو تاريخ يضج بالجدل والفضائح والمواقف غير المتناسقة بما يختلف مع أي رئيس أمريكي سابق ويثير التوجس من المستقبل، ومن ناحية ثانية فهو يمثل أقسى اليمين المتطرف وأدى انتخابه لحالة من الهلع في الأوساط الأمريكية نفسها. لكن، بما يخص تركيا والمنطقة، هناك ثلاث نقاط رئيسة ومهمة تصب في هذا السياق:
الأولى، تصريحاته العنصرية خلال حملته الانتخابية، خصوصاً خطاب الكراهية ضد المسلمين ودعوته لعدم دخولهم الأراضي الأمريكية، فضلاً عن باقي الأقليات.
الثانية، مبالغته – مع فريق مستشاريه – في دعم الكيان الصهيوني، ووعده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو وعد مر على لسان أكثر من رئيس أمريكي سابق دون تنفيذ، لكن المتغيرات في المنطقة قد تشجع ترامب – المختلف عن كل سابقيه – على خطوة مماثلة ستكون كارثية بكل المقاييس إن تمت. وفي هذه الحالة سيكون على تركيا أن تكون في مقدمة المتصدين له، بما تمثله في العالم العربي – الإسلامي سيما رئاستها الدورية لمنظمة التعاون الإسلامي.
الثالثة، تصريحات ترامب العنصرية تجاه عدد من حلفاء وأصدقاء أنقرة وفي المقدمة منهم دول الخليج العربي التي تحدث عنها خلال حملته الانتخابية بكلام بعيد عن الأعراف الدبلماسية والذكاء السياسي.
وفي كل الأحوال، ختاماً، فما زال ثمة وقت قبل أن تتضح رؤية الرئيس الجديد بعد استكماله فريق مساعديه ومستشاريه ووزرائه، ودخوله البيت الأبيض، وبدئه الاشتباك مع حقائق السياسة التي ستبعده إلى حد ما عن التصريحات والمواقف الشعبوية المنفلتة، وستكون حينها تركيا وغيرها من الدول أقدر على تقييمه وتقدير إمكانات التعاون مع إدراته وكيفية ذلك.