العلاقات الأمريكية – التركية ودرع الفرات

بعد سنوات من التزامها بالسقف الأمريكي فيما يتعلق بالعلاقة مع المعارضة السورية، بدا أن تركيا قد تجاوزت في عملية “درع الفرات” ذلك السقف أو أنها أقنعت واشنطن بتخفيضه وإعطائها الضوء الأخضر، بما يفتح الباب على سؤال مستقبل العلاقات الثنائية بين الحليفين أنقرة وواشنطن.

 

بين التحالف والتبعية

بدأت العلاقة الخاصة بين الطرفين بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين ألغى الاتحاد السوفياتي السابق عام 1945 اتفاقية الصداقة مع تركيا وطالب بالسيطرة على المضائق وبعض المدن شرقي البلاد، فدخلت تركيا في الحماية الأمريكية، ثم تطورت العلاقات مع انضمامها عام 1952 لحلف شمال الأطلسي (الناتو).

لكن العلاقة بين الطرفين لم تكن ندية، بل كانت تركيا طيلة فترة الحرب الباردة أشبه بقاعدة متقدمة للناتو في مواجهة التمدد الشيوعي. كما أظهرت واشنطن في أكثر من مناسبة عدم اكتراثها بمصالح “حليفتها”، مثل أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، واعتراضها على نوايا تركيا التدخل في قبرص لحماية الأتراك عام 1964 ووقفها الدعم عنها بعد “رسالة شديدة اللهجة” من الرئيس جونسون.

بعد انتهاء الحرب الباردة، دارت نقاشات كثيرة في الولايات المتحدة وداخل أروقة الناتو عن مدى الحاجة لتركيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن الرئيس أوزال استثمر “فرصة” حرب الخليج الثانية ليؤكد على هذه الأهمية من خلال التعاون والتسهيل والمشاركة في الحرب رغم الاعتراضات الداخلية، ومضت العلاقات في فترة ذهبية أعلن خلالها الطرفان عام 1995 “شراكة استراتيجية” بالتوازي مع العلاقات المتنامية باضطراد بين تركيا والكيان الصهيوني.

 

مع العدالة والتنمية

مع وصوله للسلطة عام 2002، عمل حزب العدالة والتنمية على بلورة سياسة خارجية “متعددة الأبعاد” لكنه أكد أيضاً على محورية العلاقة مع الغرب. بيد أن غزو العراق عام 2003، بعد أشهر فقط من تشكيل العدالة والتنمية للحكومة، ورفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية أدى إلى أزمة ثقة كبيرة بين الطرفين استمرت لأعوام.

عاد الدفء للعلاقات مع رئاسة أوباما وحديثه الشهير عن “النموذج التركي” الذي يجمع بين الإسلام والديمقراطية والذي يجب على دول العالم العربي – الإسلامي (الذي اختار أن يخاطبها لأول مرة من تحت قبة البرلمان التركي عام 2009) أن تحذو حذوه. وقد سارت تركيا على مدى سنوات في سياسة خارجية متناغمة مع سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، مثل الاستمرار في العلاقات مع دولة الاحتلال، ومحاولات احتواء النظام السوري بعيداً عن إيران، والانخراط في وساطة للمفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب، بل ومحاولة احتواء إيران نفسها.

لكن ثورات العالم العربي شهدت موقفاً تركياً مبادراً في افتراق واضح عن التحفظ والتزام الحيادية وعدم التدخل في شؤون الدول المختلفة وغيرها من مبادئ السياسة الخارجية التركية التقليدية. وهي مواقف أدت إلى توسيع الهوة بين أنقرة وواشنطن، خصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والقطيعة مع دولة الاحتلال، والموقف من الانقلاب المصري، ورؤية تركيا للحل في سوريا. وعلى مدى سنوات الثورة، ظلت تركيا تصر على ضرورة رحيل الأسد باعتباره أصل الأزمات في بلاده والمنطقة، بينما رأت واشنطن أولولية محاربة تنظيم الدولة – داعش، ولم تخرج تركيا عن السقف الأمريكي الواضح في دعم وتسليح المعارضة السورية، قبل أن تغير موقفها تدريجياً في الفترة الأخيرة، أولاً بدعم مسار جنيف – والذي يعني ضمنياً القبول ببقاء الأسد حتى الانتخابات – ثم الإعلان رسمياً عن إمكانية بقاء الأسد في الفترة الانتقالية بعد التقارب مع روسيا.

 

درع الفرات ومستقبل العلاقات

أتت عملية “درع الفرات” التركية في شمال سوريا في فترة توتر شديد في العلاقات التركية – الأمريكية، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي اتهمت أوساط تركية واشنطن بالوقوف خلفها (قبل أن ينفي الساسة الأتراك التهمة عنها) وماطلت بعدها الأخيرة – وما تزال – في تسليم فتح الله كولن لتركيا.

كما أن العملية أتت بعد سنين من مطالبات تركيا بإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، وبامتناع الولايات المتحدة عن التعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وذراعه العسكرية قوات حماية الشعب اللذيْن تعتبرهما منظمتين إرهابيتين لعلاقاتهما مع حزب العمال الكردستاني، واستبدال “المعارضة المعتدلة” بهم لمواجهة تنظيم الدولة – داعش.

تثير التصريحات الأمريكية الداعمة للعملية ومشاركة طائرات التحالف الدولي فيها ودعوات واشنطن للفصائل الكردية المسلحة بالتراجع إلى شرق الفرات – وهو المطلب التركي – أسئلة كثيرة حول الموقف الأمريكي ومدى تغيره وأسبابها، إضافة لانعكاسات كل ذلك على مستقبل العلاقات مع أنقرة.

بداية، لا شك أن الموافقة الأمريكية ومشاركة طائرات التحالف الدولي متغير مهم في موقف واشنطن، ليس فقط على مستوى الدعم المقدم للأكراد وإتاحة إمكانية تحقيق رؤية تركيا بمنطقة آمنة مصغرة شمال سوريا (ولو نظرياً)، ولكن أيضاً على مستوى قبول فكرة مشاركة أطراف أخرى غير الأكراد كقوات ميدانية محلية ضد داعش، وهو متغير أيضاً على مستوى المعارضة نفسها.

لكن تقييم هذا الموقف الأمريكي المستجد ينبغي ألا يغفل السياقات المهمة التالية:

أولاً، لم تكن الموافقة الأمريكية على العملية تامة وناجزة ومبادِرة، بدليل حرص تركيا على بدئها قبل وصول نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن لأنقرة، وتصريحات الخارجية الأمريكية الأولى حولها، وبالتالي فمن الصعوبة بمكان التحدث عن تغير جوهري في الموقف الأمريكي.

ثانياً، ربما لن تتمكن السلطات التركية من إثبات دعم واشنطن للمحاولة الانقلابية أو إعطائها الضوء الأخضر على الأقل، وحتى لو تمكنت فلن تعلن القيادة التركية ذلك لأسباب معروفة تتعلق بعدم القدرة على مواجهة واشنطن والرغبة في عدم إثارة الشارع التركي ضد الحكومة إن فشلت في “معاقبتها” والحرص على استثمار أي معلومات في هذا السياق في الضغط على واشنطن في مختلف الملفات العالقة. لكن كل السياقات النظرية والمنطقية والتاريخية والعملية تصب في هذا الاتجاه، وهو ما يعني أن “الاستهداف” لم ينته بل انتقل إلى مستوى جديد فحسب.

ثالثاً، لا يمكن الجزم بتغير الموقف الأمريكي من الفصائل الكردية المسلحة في سوريا، إذ أن لها ثلاث مميزات – لم ولن تتغير- تعطيها الأفضلية بالنسبة للولايات المتحدة على غيرها، وهي الخبرة الميدانية والاستعداد التام لقتال داعش والأيديولوجيا غير الإسلامية. وبالتالي، فدعوة واشنطن لها بالتراجع إلى شرق نهر الفرات (الخط الأحمر التركي المتضمَّن في اسم العملية) ليس موقفاً نهائياً، بل قد يكون أقرب للمناورة لتمرير العملية في أيامها الأولى. ولعل في عودة القوات الكردية للتقدم غرباً وقصف تركيا لها، ثم تصريح الناطق باسم الخارجية الأمريكية الذي دعا “الطرفين” لضبط النفس إشارات مهمة في هذا الإطار.

رابعاً، ما زالت الملفات الخلافية بين الولايات المتحدة وتركيا كثيرة إلى جانب ما أضافه الانقلاب من تعقيدات، وفي مقدمتها السياسة الخارجية التركية التي لم تتغير بعدُ جذرياً رغم مسيرة المصالحات المستمرة، والتقارب الأخير من الثنائي الروسي – الإيراني.

خامساً، دخلت واشنطن منذ أشهر فترة الركود التي تسبق كل انتخابات رئاسية، ولا يمكن الجزم من الآن بسياسات الرئيس الأمريكي المقبل تجاه تركيا والمنطقة، لكن المعروف والمعلن عن المرشحين ترامب وكلينتون حتى الآن لا يعد بالكثير.

سادساً، إن الموقف الأمريكي الحالي جاء نتيجة عدة سياقات متزامنة، في مقدمتها فشل المحاولة الانقلابية والتقارب التركي – الروسي والتوتر بين أنقرة وواشنطن والخطوة التركية المبادرة استشعاراً لخطر سيطرة الأكراد على جرابلس. فهو إذن موقف مؤقت وآني قابل للتغير في حال تغيرت بعض العوامل، وفي مقدمتها سير العمليات التركية في سوريا. لقد أعلنت أنقرة أن أحد أهم أهداف العملية هو إعادة الفصائل الكردية إلى شرق الفرات، وهو هدف قد يتحول لعامل استنزاف لتركيا في سوريا إذا ما طال الأمد وتعقدت الظروف، وهو الأمر الذي لطالما خشيه صانع القرار التركي، وتزداد خطورته مع التصريحات الكردية عالية النبرة.

أخيراً، إن الذهاب إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد غيرت موقفها وسياساتها تجاه سوريا أو أنها “انصاعت” للقرار التركي يبدو تقييماً متسرعاً لا يعتمد على قرائن واضحة أو جازمة. الأقرب للتحليل الواقعي هو أن الموقف الأمريكي – الذي لا يمكن الجزم بنواياه وأهدافه المستقبلية – تغير تكتيكياً ومؤقتاً لعدة أسباب وعوامل قد تتغير أو تُغير مستقبلاً، ولا شيء يضمن عدم تغير الموقف الأمريكي لاحقاً بل قريباً جداً، وهي الدولة الأكثر خبرة في تبديل المواقف وتغيير الأصدقاء والحلفاء في أزمنة قياسية.

كل ما تقدم يجعل من عملية “درع الفرات” مغامرة بكل المقاييس، تسير حتى الآن وفق المحسوب لها من خطوات والموضوع لها من أهداف، لكن يجب الحذر من أن تتحول أو تـُحول إلى عامل استنزاف يخلط الأوراق مرة أخرى، فيما يتعلق بتركيا وفيما يختص أيضاً بالمشهد السوري نفسه.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

عملية درع الفرات .. الأسباب والتحديات المستقبلية

المقالة التالية

اتجاهات السياسة الخارجية التركية بعد انقلاب 15 تموز

المنشورات ذات الصلة