العقوبات الأوروبية على تركيا: أسباب ودلالات

العقوبات الأوروبية على تركيا: أسباب ودلالات

TRT عربي

قررت قمة قادة الاتحاد الأوروبي في اجتماعها الأخير قبل أيام حزمة عقوبات على تركيا على خلفية ما أسمته “تصرفاتها غير القانونية والعدوانية” في البحر المتوسط ضد اليونان وقبرص اليونانية.

وقد أشار دبلوماسي أوروبي إلى أن العقوبات التي تم إقرارها “عقوبات فردية” ويمكن لاحقاً إقرار “إجراءات إضافية إذا ما واصلت تركيا أعمالها” في شرق المتوسط. هذا ويفترض أن تُعَدَّ لائحة بأسماء الشخصيات المقصودة خلال الفترة المقبلة لتعرض على الدول الأعضاء للموافقة عليها، والتي يتوقع أن تضم – كما اللائحة السابقة – مسؤولين في شركة النفط التركية وأسماء أخرى ترتبط بأعمال التنقيب في المتوسط.

بهذا المعنى، يمكن القول إن قرارات القمة خلت من أي مفاجآت، وأتت تماماً وفق المتوقع. فقد كانت القمة الأوروبية في تشرين الأول/أكتوبر الفائت قد لوحت بتوقيع عقوبات على أنقرة على خلفية أنشطتها في شرق المتوسط، مبقية على أبواب الحوار مفتوحة معها، ضمن مهلة حتى قمة كانون الأول/ديسمبر الجاري.

كنا قد توقعنا رفع القمة الأخيرة السقف مع أنقرة، لتقديم رسالة حازمة من جهة وتأكيد معنى التضامن داخل الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وهو أمر له أهميته وأولويته في أروقة الاتحاد، لا سيما بعد عملية البريكسيت والأزمات المتعددة التي تواجه الاتحاد من أزمة الديون إلى أزمة اليورو إلى الشرخ الكبير بين الدول الأعضاء في الشرق والغرب. كما أن بروكسل لم تكن لتكرر نفس القرارات والعبارات السابقة، ما كان سيعتبر فشلاً لضغوطها على أنقرة وخضوعاً منها للأخيرة.

في المقابل، توقعنا ألا تتجاوز العقوبات الأوروبية المنتظرة حدود الرمزيات لتصل إلى عقوبات كبيرة ومؤثرة وضارة بأنقرة، لا سيما في المجال الاقتصادي. يتصدر أسباب ذلك عدم وحدة الموقف بين الدول الأعضاء، حيث أن العقوبات تشترط الإجماع. وثانياً حزمة كبيرة من المصالح والمهددات المشتركة بين الجانبين التي لا تسمح بعقوبات كبيرة قد تتحول إلى قطيعة.

كما أن بروكسل تدرك أن العقوبات الاقتصادية الفاعلة كانت ستضر بالطرفين المتأثرين سلباً في ظل جائحة كورونا، وستضر بالتأكيد بالدور الذي يسعى الاتحاد للعبه في أزمة شرق المتوسط. كما أنه لا يُستبعد وجود دول أوروبية مقتنعة بسردية تركيا وحقوقها أكثر من سردية خصمتها اليونان، وتحمل تقييماً إيجابياً لبادرات حسن النية التركية.

في الخلاصة، لن يكون للعقوبات أثر كبير على أنقرة، بل هي مجرد قرارات بروتوكولية قُصِدَ بها تثبيت موقف “حاسم وحازم” من الاتحاد تجاهها، وفق تصريحات مسؤولين في الاتحاد وبعض السياسيين الفرنسيين. لكن الأهم أنها أتت مجاراةً لليونان وقبرص اليونانية وفرنسا وإرضاءً لهم، ورغبة في كسب مواقفهم في قضايا وملفات أخرى تحتاج هي الأخرى للإجماع الأوروبي.

ومما يدلل على ذلك هدوءُ ردة الفعل التركية على قرارات القمة والتقليل من شأن العقوبات. فقد أصدرت الخارجية التركية بياناً رفضت فيه “الموقف المتحيز وغير القانوني”، والذي “لم يتم تبنيه من قبل غالبية دول الاتحاد الأوروبي”، وتم إدراجه في نتائج القمة “بسبب ضغوط التضامن وحق النقض”، وفق البيان، الذي أكد على ضرورة لعب بروكسل “دور الوسيط النزيه” وأن تتصرف “بشكل مبدئي واستراتيجي ومعقول”.

من جهته، قلل الرئيس التركي من نتائج القمة، قائلً إنها “لم تلبِّ مطالب بعض دول الاتحاد لأنها لم تكن محقة”، مستبعداً “صدور شيء ضد تركيا” في القمة الأوروبية القادمة في آذار/مارس “لأن تركيا على حق”. وفي حين أشار اردوغان إلى أن العقوبات “لن تضر بتركيا فقط، وإنما بجميع الأطراف”، فقد أكد أن بلاده “لن تقوم بأي خطوة تؤثر على علاقاتها بأوروبا أو أمريكا”.

في الخلاصة، إذاً، لم تغير القمة الكثير على صعيد العلاقات التركية – الأوروبية التي ما زالت متوترة لعدة أسباب، جزء منها متعلق بملفات السياسة الخارجية، لكن جزءاً آخر لا يقل أهمية مدفوع بتحريض بعض الأطراف ومحاولة تحويل خلافاته مع أنقرة إلى أزمات بينها وبين بروكسل، وصبغ العلاقات التركية – الأوروبية بالتوتر والتصعيد.

إضافة لذلك، ثمة حرص واضح من الطرفين على التهدئة بالحد الأدنى وتحسين العلاقات إن أمكن، خصوصاً على أعتاب إدارة أمريكية جديدة قد تساهم في رأب الصدع نسبياً بينهما، من خلال حرصها على إعادة اللحمة والثقة مع حلفائها داخل حلف الناتو وخارجه.

ولعله من المفيد هنا تذكر تصريحات الرئيس التركي قبل أيام، والتي قال فيها إن بلاده “ترى نفسها في أوروبا وليس في أي مكان آخر، وتريد أن تبني مستقبلها معها”. وهي تصريحات لا تخفى فيها دلالات التهدئة، حتى وإن ثنـّاها اردوغان بتصريحات أخرى دعا فيها الاتحاد الأوروبي للتخلي عما أسماه “العمى الاستراتيجي” فيما يتعلق بأزمة شرق المتوسط.

وكأن أنقرة تقول إنها تريد تطوير علاقاتها مع بروكسل، لكن ذلك مرهون – وليس بالضرورة مشروطاً – بتخلي الأخيرة عن انحيازها الكامل لصالح الرؤية اليونانية التي لا تدعمها الشواهد القانونية والتاريخية والمنطقية.

في العموم، لا يقف الجانبان اليوم على نفس أرضية 2005 حين بدأت أنقرة مفاوضات الانضمام للاتحاد. اليوم، باتت الأولى أقل حاجة  له ورغبة في الانضمام إليه وإن لم تتخل عنها تماماً، وبات هو أقل قبولاً لها ورغبة في ضمها. فكان من ارتدادات ذلك خسارته لوصائيته وبالتالي قدرته على التأثير عليها، والتباعد الكبير الواضح مؤخراً بينهما، أحياناً لأسباب غير مفهومة وفق منطق المصالح الاستراتيجية.

يدرك الجانبان أن تركيا لن تكون يوماً عضواً في الاتحاد الأوروبي وفق المعطيات الحالية، لا سيما التوجهات السياسية والشروط الفنية للعضوية. لكن أياً منهما لا يريد أن يعلن ذلك صراحة من جهته كل لا يتحمل مسؤولية وتبعات قرار إنهاء هذه المسيرة، ولذلك فهما مستمران في إدارة الأمر سياسياً وإعلامياً بالشكل الحالي.

الأقرب والأرجح، كما نقول دائماً، هو توصل الجانبين إلى صيغة وسط بين العضوية المكتملة والقطيعة الكاملة، أي شراكة استراتيجية أو خاصة أو أي شكل قريب من ذلك. لكن حتى هذه الصيغة التي قد تكون مقبولة من الطرفين إلى حد كبير لن تصبح في المتناول على المدى القريب، وربما المتوسط حتى.

أخيراً، إذا كان من أخطاء الاتحاد الأوروبي تحيزه ضد تركيا والتصرف وكأنه جهة فصل وصاحبة صلاحيات في نزاع قانوني وتاريخي مثل شرق المتوسط وجزر بحر إيجه، وعليه مسؤولية إعادة النظر في كثير من مواقفه وسياساته تجاه أنقرة، فإن الأخيرة عليها كذلك مسؤولية مشابهة.

ذلك أن نسبة لا بأس بها من التوتر مع الاتحاد الأوروبي يعود لأسباب يمكن تفاديها و/أو تصويبها بسهولة، لا سيما على صعيد الخطاب. كما أن تهدئة التوتر معه وتطوير العلاقات لاحقاً ليس له فاتورة باهظة كما في حالة روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية. فإذا ما أضفنا لكل ذلك التقارب الكبير في الرؤى الاستراتيجية بين تركيا والاتحاد الأوروبي، بالمقارنة مع القوى الكبرى الأخرى، وكونه ما زال شريكها الاقتصادي الأول والأكبر، اتضح إلى أي مدى تحتاج أنقرة إلى رؤية أوضح واستراتيجية جديدة ولغة مختلفة للتعامل معه.

بهذا تضمن تركيا تهدئة أطول زمناً مع بروكسل، وتقلل خصومها وتكسب أصدقاء لها داخل أروقة الاتحاد ومؤسساته القيادية، وتزيد من فرصها في الوصول لحقوقها في المتوسط وإيجه، وأخيراً – ولعله الأهم – تخفف من حدة الارتدادات السلبية للتوترات مع كل من موسكو وواشنطن على المدى البعيد.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

العلاقات التركية - السعودية في رئاسة بايدن

المقالة التالية

تركيا وإيران: توتر عابر ولكن كاشف

المنشورات ذات الصلة