ذكرت في مقالات سابقة أن الانتخابات البرلمانية المقبلة في تركيا مختلفة عن كل سابقاتها لسببين مهمين، الأول هو الاستحقاقات المترتبة على النتائج والملفات التي تنتظر تركيا بعد الانتخابات وفي مقدمتها صياغة الدستور الجديد والتحول للنظام الرئاسي وعملية السلام مع الأكراد. أما الثاني فهو صعوبة توقع نتائجها بنسبة مقبولة من اليقين كما سابقاتها، خصوصاً فيما يتعلق بالنسبة التي سيحصل عليها العدالة والتنمية وعدد المقاعد التي سيضمنها في البرلمان، وهذا هو الأهم.
ذلك أن قانون الانتخاب التركي يشترط نصف عدد النواب زائد واحد (276 من أصل 550) لتشكيل الحكومة، بينما يشترط ثلثيهم (367) لإقرار الدستور الجديد. بينما تكفي، من جهة أخرى، نسبة %60 من النواب (330 نائباً) لتحويل مسودة الدستور على استفتاء شعبي، يكفي فيه قبول الناخبين له بنسبة (%50 زائد 1).
من هذا المنطلق يمكن فهم دعوات الرئيس التركي منذ أسابيع للناخبين لإيصال 400 نائب من العدالة والتنمية للبرلمان، أي نسبة مريحة فوق الثلثين تتيح له إقرار الدستور الجديد دون عقبات. لكن، هل هذا ممكن فعلاً وفق استطلاعات الرأي التي أجريت في البلاد مؤخراً؟ والأهم، لماذا غابت هذه الدعوات (400 نائب) عن خطابات اردوغان وداود أوغلو في الأيام القليلة الماضية؟ ما الذي تغير؟
ينبغي قبل أن ندخل في تفاصيل الموضوع أن نذكر حجر الزاوية في الانتخبات المقبلة وهي نتيجة حزب الشعوب الديمقراطي (ذي الجذور الكردية) الذي يخوض الانتخابات للمرة الأولى بقائمة حزبية بعد أن كان مرشحوه يخوضونها سابقاً كمستقلين. فالدستور الحالي يشترط على الأحزاب تخطي حاجز %10 لدخول البرلمان، بينما يوزع أصوات الأحزاب التي تبقى دون هذه الحاجز الانتخابي على الأحزاب التي فازت في كل دائرة انتخابية على حدة وفق نتائجها هناك.
وباعتبار أن العدالة والتنمية هو الحزب الأقوى حضوراً بعد الشعوب الديمقراطي في جنوب شرقي البلاد ذات الأغلبية الكردية، فإنه سيحصل على حصة الأسد من أصواته بما يمكنه من تخطي نسبة %60. والعكس صحيح، أي أن فوز الحزب الكردي سيخصم من رصيد وطموح العدالة والتنمية، وربما هذا ما يفسر اللغة الحادة التي يتخاطب بها هذان الحزبان تحديداً في حملتيهما الانتخابية، إذ الهدف ومعيار النجاح هو النسبة التي سيحصل عليها الأكراد في الانتخابات.
ولنعد إلى تراجع اردوغان عن مطلب 400 نائب في البرلمان. حيث تظهر العديد من استطلاعات الرأي الأخيرة تراجع نسبة الحزب الحاكم من نطاق %45-47 إلى حدود %41-43 وازدياد حظوظ الشعب الديمقراطي بتخطي الحاجز الانتخابي، وهو ما يعني ترجيح فشل العدالة والتنمية في الوصول إلى نتيجة 367 نائباً، بينما تستبعد أقلية منها وصوله إلى 276 نائباً لتشكيل الحكومة بمفرده.
وبغض النظر عن أن بعض شركات استطلاع الرأي لا تبدو بريئة من محاولة توجيه الرأي العام والضغط على العدالة والتنمية، إلا أن نزول اردوغان للساحات بفعالية تكاد تتجاوز قادة بعض الأحزاب – في نظام ما زال يعتبر الرئيس محايداً – بحجة المشاركة في افتتاح بعض المشاريع، يظهر قلقه وعدم ثقته بكفاية الرئيس الجديد داود أوغلو في قيادة دفة الحزب إلى بر أمان المعركة الانتخابية.
يمكن قول الكثير عن أسباب هذا التراجع، لكن يبدو أن الأهم من بينها هو غياب “المايسترو” اردوغان بكل ما يمثله عن قيادة الحزب، وحرمانه من ترشح 70 من قيادات الصف الأول فيه انصياعاً لنظامه الأساسي الذي يمنع الترشح لأكثر من ثلاث مدد متتالية، وتهم الفساد والرشى التي لم تثبت على وزرائه السابقين لكنها بقيت سيفاً مسلطاً على رقبته في يد المعارضة، وتحالف الأخيرة وتضامنها في مواجهته، إضافة إلى ما تأتي به فترة الحكم الطويلة (13 عاماً متتالية) عادة من ملل وتكاسل من أنصار الحزب الذين باتوا لا يشعرون بالتهديد وضرورة الالتفاف حول الحزب كما في السابق، خصوصاً الشباب الذين لم يعايشوا فترة ما قبل العدالة والتنمية فضلاً عن الانقلابات السابقة وما جرته على البلاد من ويلات.
لكن سبباً آخر ظل يُهمس به بين الكواليس قبل أن يخرج إلى العلن، وهو “غضب” بعض أنصار الحزب من أدائه وبعض مواقفه، وميلهم إلى “تحذيره” من خلال صندوق الانتخابات. عبدالقادر سيلفي – أحد الصحافيين المقربين من العدالة والتنمية – تحدث قبل أيام مقالاً بعنوان “أردت أن أحذر قبل فوات الأوان” عن هذه الفئة وضرورة مراجعة الموقف قبل يوم السابع من حزيران/يونيو.
موقع “قرار” الاكتروني الذي يديره كاتب آخر مقرب من دوائر الحكومة، وهو مصطفى كارا علي أوغلو، نشر تحليلاً قبل أيام يتحدث عن “المترددين” في التصويت، الذين ما زالت نسبتهم مرتفعة بالمقارنة مع الانتخابات السابقة، وهو ما يزيد من خطر تراجع الحزب الحاكم، ويضع تركيا أمام احتمال تشكيل ائتلاف حكومي (ربما من أحزاب المعارضة الحالية) يؤدي إلى عدم الاستقرار وخسران تركيا لكثير من منجزاتها مع العدالة والتنمية.
ربما تكون هذه المقالات والتحليلات من باب التحذير من التكاسل وعدم الحماسة للانتخابات باعتبار أن معظم المترددين والذين لا ينوون التصويت من أنصار الحزب الحاكم، بهدف تحفيز الناخبين لضمان أكبر مشاركة ممكنة. لكن ذلك لا ينفي حقيقة التراجع واستشعار الحزب لذلك، وإدراكه لأهمية الأيام والساعات الأخيرة في تلافي الحسابات الصعبة. إذ آخر ما تحتاجه تركيا اليوم هو دوامة الحكومات الضعيفة أو الائتلافات الهشة والانتخابات المبكرة، التي تركتها قبل 2002 على حافة الإفلاس. إذاً، ثمة الكثير على المحك، وفي مقدمة ذلك تجربة تركيا التنموية وسياستها الخارجية سيما المتعلقة بقضايا المنطقة، وهو ما سنتناوله في مقالات ما بعد الانتخابات إن شاء الله.