العدالة والتنمية ومادة الفترات الثلاث

حين فكر اردوغان ورفاقه بالخروج من عباءة تيار “الفكر الوطني” وزعيمه الراحل أربكان، لم يكن سقفهم تأسيس حزب جديد فقط، بل محاولة تجديد الحياة السياسية التركية بشكل جذري، ولذلك فقد جاء حزب العدالة والتنمية كردة فعل على طريقة إدارة “الخوجا” للحزب وإجابة على الأسئلة التي كانت تواجهها تركيا.

لقد ولدت فكرة الحزب الحاكم عام 2002 في مرحلة مفصلية من تاريخ تركيا الحديث، وسط فوضى وغموض ما بعد الحرب الباردة في المنطقة والعالم، وبعد ثلاثة متغيرات مهمة، هي:

أولاً، انقلاب عام 1997 “ما بعد الحداثي” على حكومة نجم الدين أربكان وما تبعه من فشل متواصل للائتلافات الحكومية اللاحقة، مما أدى لانسداد الحياة السياسية في البلاد وفقدان المواطن للثقة بأغلب – إن لم نقل كل – الأحزاب الموجودة على الساحة حينها.

ثانياً، الأزمات الاقتصادية المتتالية التي دفعت تركيا إلى حافة الإفلاس، ورهنت قرارها لقروض وشروط بنك النقد الدولي واللاعبين الكبار.

ثالثاً، انخفاض معدل عمليات حزب العمال الكردستاني العسكرية إلى حد كبير بعد اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان عام 1999، وهو ما كان سيعطي أي حكومة قادمة فرصة لالتقاط أنفاسها بعيداً عن هدير المدافع.

هذه الأحداث الثلاثة وغيرها أعطت رسالة واضحة عن حاجة بل وتلهف المواطن التركي لحزب سياسي جديد يثق به ويعطيه صوته ليخرجه من الإفلاس الاقتصادي والانسداد السياسي والفشل الأمني، وكانت هذه لحظة ولادة العدالة والتنمية الذي استشرف الفرصة وعمل على استثمارها، بزعامة اردوغان صاحب الكاريزما والمهارات القيادية والسيرة الذاتية الناجحة، ورؤية داود أوغلو الذي عمل لسنوات على كتاب ينظــّر فيه لمستقبل دور تركيا ومكانتها في الساحة الدولية، ومشاركة العشرات من الكفاءات التي خبر الشعب نجاحها في البلديات والمحليات.

ولأن الحزب قد شخّص أحد أهم مشاكل تركيا في غياب الديمقراطية (شهد تاريخ تركيا أربعة انقلابات عسكرية وحظر العديد من الأحزاب السياسية) فقد وضع في نظامه الداخلي ما يمكن أن يكون بادرة لإصلاح النظام السياسي في البلاد وقدوة لباقي الأحزاب، وعلى رأسها مادة “الفترات الثلاث”.

تهدف هذه المادة إلى تجنب الجمود في الحياة السياسية والحرص على ضخ الدماء الجديدة دائماً في الحزب والحكومة ومختلف مستويات المسؤولية، فمنعت أعضاء الحزب من الترشح لأكثر من ثلاث فترات متتالية للنيابة والوزارة ورئاسة البلديات، رغم أن قانون الانتخابات التركي يسمح بذلك.

سار الحزب على مدى 12 عاماً من نجاح لآخر، غير منتبه ربما لهذه المادة في قانونه الأساسي، لكن عام 2014 حمل استفسارات مهمة حول مستقبل ومصير الحزب في الانتخابات البرلمانية المقبلة. لقد فتح الحزب عينيه على حقيقة خطيرة، مفادها أن حوالي 70 شخصاً من قيادات الصف الأول فيه – على رأسهم اردوغان – لا يحق لهم الترشح للبرلمان أو استلام مناصب في الوزارة، فكان لا بد من مراجعة متعمقة للموضوع وانعكاساته.

اجتمع الحزب لمناقشة إمكانية تغيير المادة، لكن الرأي استقر على تثبيتها والعمل بها، أولاً باعتبار أن الحزب لا يفتقر إلى الكفاءات الشابة، وثانياً لأنه يعتمد العمل المؤسسي لا الفردي، وثالثاً حتى لا يكون من أقروا هذه المادة هم أنفسهم من ألغوها فتكون تلك سابقة سيئة الذكر تهدد عملية التجديد داخل الحزب وتكرس الزعامات والفردية، ورابعاً – ربما – لأن اردوغان نفسه كان سينجو من الحظر باعتباره سيكون مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية.

بهذه الطريقة وجد الحزب نفسه أمام استحقاق الانتخابات المقبلة دون 70 من أهم قياداته التي صنعت تجربة تركيا النهضوية الحالية، وتركت بصمتها في دفتر نجاح بلادها من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الصحة إلى السياحة، ومن الثقافة إلى العلوم. ولئن عبر الكثيرون – وعلى رأسهم رئيس الوزراء داود أوغلو – عن سعادتهم بتجديد القيادات وثقتهم بالشباب وافتخارهم بمرور الأمر دون أزمات أو خصومات، إلا أن المراقب يلحظ قلق العدالة والتنمية من افتقاره في المعركة الانتخابية الوشيكة للوجوه التي اعتاد المواطن التركي الثقة بها والتصويت لها من الأسماء الكبيرة.

حتى الآن، تبدو هذه التفاصيل مألوفة لدى المتابع للشأن التركي، إذ تحدثنا في الأمر وكتبنا عنه مراراً، إلا أن الجديد أن الحزب الحاكم في تركيا قرر الاستفادة من الدرس العميق والامتحان الكبير الذي تعرض له. إذ أن هذه المادة ما زالت سارية المفعول وستطبق في كل الانتخابات القادمة، وهو ما سيضع الحزب أمام نفس المعضلة في الانتخابات البرلمانية القادمة عام 2019، إذ ستكون مجموعة أخرى (عددها تقريباً 70 نائباً) ممنوعة من الترشح للبرلمان.

ولتفادي التعرض لهذه المعضلة مرة أخرى، فقد وضع الحزب هذا التفصيل نصب عينيه لدى تحديد أسماء مرشحيه للانتخابات المقبلة، فإضافة إلى المعايير التي سبق وتحدثنا عنها من السير الذاتية وترشيح المناطق ونقاشات الحزب الداخلية واللقاءات الشخصية وأخذ رأي المجموعة البرلمانية للحزب وتصديق لجنته المركزية، فقد وُضع تاريخ المترشح على الطاولة لتفادي نفس المشكلة.

وهكذا قرر الحزب ترشيح ثلثي من سيكونون عرضة لتطبيق هذه المادة في الانتخابات القادمة فقط في هذه الانتخابات، بينما يبقى الثلث الآخر خارج القوائم، ليحق له الترشح في الانتخابات القادمة، مضافاً لهم من سيترشحوا ممن حرموا من ذلك في هذه المنافسة الانتخباية بسبب نفس المادة.

بهذا، يكون الحزب قد خفف من حدة الأزمة، مستفيداً من خطأ هذه الانتخابات – إن اعتبرنا ما حصل خطأ ولو من باب الضرورة – وهو ما يعبّر عن تخطيط بعيد المدى، وثقة باستمرار مسيرة الحزب بنفس النهج والوتيرة، وروح مؤسسية بعقل استراتيجي، ولعلها من ملامح التجربة التركية التي ما زالت تتطور وتتجدد وتستخلص الدروس بفضل تفاعلها المستمر مع المتغيرات والتطورات المختلفة.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

وانتهت عاصفة الحزم .. فلنستخلص الدروس

المقالة التالية

تركيا ومزاعم الإبادة بين التاريخ والسياسة

المنشورات ذات الصلة