العدالة والتنمية بدون “الخوجا” داودأوغلو

العدالة والتنمية بدون “الخوجا” داودأوغلو

إضاءات

في ظروف مثل تلك التي مرت بها علاقة أحمد داودأوغلو بحزبه العدالة والتنمية، ربما لم يكن أمام قيادة الأخير أي خيار سوى اتخاذ قرار فصله لحسب ورقة “النقد الذاتي من الداخل” من يده. لكنها فقط لقطة اللحظة الأخيرة التي ستبدو منطقية وربما عادية إن لم يُسترجع شريط الأحداث والتطورات والعلاقات على مدى السنوات السابقة.

 

الخوجا

ثمة لقبان التصقا بأحمد داودأوغلو في حياته السياسية، مهندس السياسة الخارجية التركية و”الخوجا” التي تعني الأستاذ باعتبار خلفيته الأكاديمية. وهذا الأخير يستخدم في الاتجاهين سلباً وإيجاباً، حيث يرى الكثيرون بأنه سياسي بخلفية أكاديمية متميزة ومنظّر سياسي من الطراز الأول بينما يرى كثيرون كذلك بأنه أكاديمي أكثر منه سياسي وأنه يحمل “كِبر الأكاديمي” حين يدخل عالم السياسة.

تدرج أستاذ العلاقات الدولية في عالم السياسة سريعاً، رغم أنه كان لا يريد ذلك حسب تصريحاته. فقد كان مستشاراً لرئيس الوزراء للسياسة الخارجية ولعب أدواراً مهمة دون ان يكون عضواً في العدالة والتنمية )ليس صحيحاً أنه من مؤسسي الحزب(، لكنه قرر دخول عالم السياسة بعد القضية التي رفعت لحظر الحزب عام 2008 باعتبارها “معركة للديمقراطية وانتصار لرأي الشعب” على حسب تعبيره.

من مستشار لرئيس الوزراء سريعاً إلى وزير للخارجية عام 2007 ثم رئيساً ثانياً للعدالة والتنمية بعد قائده المؤسس اردوغان الذي انتقل للرئاسة عام 2014، ورئيساً لثلاث حكومات متعاقبة بينها حكومة تصريف الأعمال عام 2015، قبل أن يستقيل من رئاسة الحزب والحكومة في أيار/مايو 2016: صعود سريع قوي ونهاية دراماتيكية أسرع.

في لحظة استقالته، بسبب خلافات داخل الحزب وخصوصاً مع اردوغان، حرص الخوجا على تأكيد أنه لا يتنحى عجزاً ولا فشلاً وإنما حفاظاً على وحدة الحزب، وكان ذلك إيذاناً بأنه يترك الباب موارباً على عودته للسياسة، وهو ما كان بعد 3 سنوات من الاستقالة.

كان أكثر ما لصق باسمه هو فشل سياسته السورية والتندر على نظرية “تصفير المشاكل” بعد “الربيع العربي” ثم الثورات المضادة، في تجاهل غريب لإنجازاته السابقة ولتغيّر الأوضاع في المنطقة عموماً بما يتناقض مع الظروف التي كتب فيها كتابه الأشهر “العمق الاستراتيجي”. لكن الخوجا يذكّر ويفتخر مؤخراً بإنجازات عدة له في السياسة الخارجية رفعت بلاده إلى مصافّ الدول المؤثرة، بدءاً من الارتفاع الملحوظ في عدد ممثلياتها الدبلوماسية في مختلف مناطق العالم، ومروراً بالعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن ورئاسة منظمة المؤتمر )التعاون( الإسلامي بشخص أكمل الدين إحسان أوغلو، وليس انتهاءً بعدد كبير جداً من المبادرات والوساطات والاتفاقات والأطر التي أسسها الرجل مثل المجالس العليا للتعاون الاستراتيجي ورفع التأشيرات مع عدد كبير من الدول والأطر الثلاثية في عدد من النزاعات والاتفاق الثلاثي بخصوص الملف النووي الإيراني عام 2010 وودخول بلاده كعضو مراقب في عدد من المنظمات الإقليمية.

يقول داودأوغلو عن ذلك: كل ما سبق وأكثر منه يسجّل للآخرين ولا يذكر اسمي، بينما أذكرُ وحيداً حين الحديث عن الإخفاقات رغم أنني كنت وزيراً للخارجية أنفذ سياسات متفق عليها بين مختلف مؤسسات الدولة وفي ظل وجود رئيس ورئيس وزراء.

 

الخلافات مع اردوغان

يمكن القول بأن علاقة مميزة جمعت بين اردوغان وداودأوغلو على مدى سنوات عديدة وصلت لمستوى العلاقات العائلية الطيبة، ولعل من مؤشرات ذلك اختياره لوزارة الخارجية ثم لرئاسة الحزب بعد اردوغان نفسه في لحظة كان الأخير يبحث فيها عن صفة الثقة أكثر من أي شيء آخر.

لكن العلاقات لم تستمر بينهما على نفس المنوال. الإشكال الدستوري النابع من تناقضات دستور 1982 العسكري وتداخلاته فعلت بالرجلين ما فعلت بمن سبقهما من رؤساء الدولة والوزراء حتى من نفس الحزب، كما حصل سابقاً مع أوزال ويلماظ وكذلك دميريل وتشيلر، فضلاً عن أزمة سيزر – أجاويد التي أدت لانهيار الحكومة والانسداد السياسي والإفلاس الاقتصادي في فترة ما قبل تأسيس العدالة والتنمية مباشرة.

وفي ظل حرص الرئيس على بقاء السلطة التنفيذية برأس واحدة لتجنب مصائر أحزاب سابقة اندثرت – أو كادت – بسبب الخلافات وحرص الأستاذ على معادلة رئيس قوي – رئيس وزراء قوي، فعل تداخل الصلاحيات فعله بين الاثنين وأدى لعدة مشاكل وأزمات خلال رئاسة دوادأوغلو للحكومة.

بعض هذه المشاكل يُمكن تصنيفها تحت بند تنازع الصلاحيات مثل اختيار المساعدين وتعيينات موظفي الدولة الكبار واختيار المرشحين للجنة المركزية للحزب وصلاحية تعيين رؤساء فروع الحزب في المحافظات، وبعضها يمكن وضعه في إطار الرؤى المختلفة للقضايا مثل مفاوضات تشكيل ائتلاف حكومي والنظام الرئاسي وعملية التسوية مع الأكراد، بينما وضع بعضها الآخر في إطار التنافس و”الانقلاب” على اردوغان مثل استقالة رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان للترشح للبرلمان واقتراح داودأوغلو مشروع قانون للشفافية السياسية وتأييده رفع الوزراء المتهمين بقضايا فساد للمحكمة العليا وطلبه لقاءً مع أوباما )بعد فترة وجيزة من زيارة اردوغان للولايات المتحدة(.

 

بعد الاستقالة

نتيجة لكل ذلك وصلت الأمور لذروتها بين “الرئيس” و”الخوجا” بعد أن أعطى الأخير انطباعاً بأنه “مبادر أكثر مما يجب” في قيادة الحزب والحكومة، فتحرك أنصار الأول ضد الثاني داخل الحزب الذي – يفترض – يرأسه، فكان توقيع 47 من أصل 50 عضواً في اللجنة المركزية على طلب بنقل صلاحية تعيين رؤساء فروع الحزب من الرئيس لها – بعد أن كانت نقلت من اللجنة للرئيس في عهد اردوغان – إشارة على وصول الخلاف إلى مرحلة الصدام. ومع تزامن ذلك مع “ملف البجعة”، وهو موقع مجهول النسب على الانترنت شهّر بداودأوغلو واتهمه بالخيانة والانقلاب على اردوغان، قدم الخوجا استقالته من رئاسة الحزب والحكومة.

بعد ذلك بقي داودأوغلو نائباً عنه في البرلمان حتى انتخابات 2018 البرلمانية، ثم عضواً عادياً فيه حتى قرار لجنته المركزية إحالته للجنة التأديبية قبل أيام مع توصية بالفصل النهائي. وقد ظل الأستاذ بعيداً عن الساحة السياسية والحدث اليومي لسنوات، إلا ما ندر، رغم أن استقالته من رئاسة الحزب تبعها لاحقاً:

  • بُعده/إبعاده ليس فقط عن دوائر صنع القرار في الحزب وإنما كذلك عن لعب أي دور ولو استشاري أو رمزي، على الأقل وفق تصريحاته التي لم يكذبها الحزب.
  • تشويهه واتهامه بالخيانة ومحاولة الانقلاب وسحب البساط من تحت اردوغان.
  • تحميله مسؤولية انتكاسات السياسة الخارجية التركية ما بعد الربيع العربي وخصوصاً في الملف السوري، خصوصاً أن الحكومة التي تلته برئاسة بن علي يلدرم انتهجت سياسة “تكثير الأصدقاء وتقليل الخصوم” ضمن استدارة جذرية.
  • تصفية المحسوبين عليه من الحزب والحكومة والمؤسسات الدائرة في فلكهما.
  • تغييبه عن الإعلام بشكل مقصود وفق تصريحاته هو.

 

المانيفستو

لم يكن صعباً على متابع جيد للسياسة التركية الداخلية أن يدرك معارضة داودأوغلو لانتقال بلاده للنظام الرئاسي، أولاً بتصريحه بعد تراجع حزبه في الانتخابات البرلمانية في حزيران/يونيو 2015 بأن الشعب قال لا للنظام الرئاسي لأنه لم يشرح له جيداً، ولاحقاً حين شارك – كبرلماني – في مهرجان حزبه الانتخابي في مسقط رأسه قونيا دون أن يطلب بوضوح – كما يفترض – من الناخبين أن يصوتوا بـ”نعم”.

اليوم، في إطلالاته الإعلامية الأخيرة على الإعلام المعارض، يقول داودأوغلو إنه التقى باردوغان عدة مرات مقدماً له تقييماً لبعض القضايا ومسار الحزب وأوضاع البلاد ونقداً لبعض قرارات الحزب ومساراته، دون أن يؤدي ذلك لاعتماد رؤيته.

التراجع النسبي للعدالة والتنمية في الانتخابات البلدية الأخيرة كان منعطفاً مهماً بالنسبة للكثيرين في مواجهة اردوغان، المعارضة وبعض القيادات السابقة التي خرجت عن صمتها، وكذلك داودأوغلو. في الـ22 من نيسان/أبريل الفائت، نشر الأخير بياناً مطوّلاً جداً، سمّي “المانفستو”، في تقييم العدالة والتنمية ونقده والمطالبة بالتغيير والتصويب والتطوير في مسارات عدة. تطرق البيان بالنقد الهادئ لما اعتبره تراجعاً للعقل الجمعي في الحزب، و “غياب الوفاء” في التعامل مع القيادات السابقة، وتوظيف الأقارب في المناصب الحزبية والحكومية، والتحالف مع الحركة القومية، والتعامل مع الأزمة الاقتصادية، وعدم سير النظام الرئاسي بشكل سليم، وضعف استقلال القضاء…الخ. لكن أكثر ما ركز عليه البيان كان أن “القضية” كما يفضّل العدالة والتنمية تسميتها والحاضنة الشعبية لها “أكبر من أي شخص أو مجموعة أو تيار أو حزب”، ما اعتبر غمزاً من قناة التيار المتنفذ في الحزب وإشارة على احتمال تأسيسه حزباً جديداً خارجاً من عباءته.

 

النهاية؟

مع بقاء “المانيفستو”، على أهميته وحساسيته وصداه الكبير، دون رد مباشر أو غير مباشر سلباً أو إيجاباً من قيادة العدالة والتنمية، ومع رفع داودأوغلو سقف انتقاداته وحدتها لتشمل اردوغان دون التصريح باسمه وبما تضمن عبارات تحمل طابع التحدي، ومع التسريبات بأنه يعمل فعلياً على تأسيس حزب سياسي جديد ويعكف على وضع خططه وبرامجه، لم يكن قرار قيادة الحزب بفصله مستغرباً لجهة مسوغاته.

الغريب كان أن يقدم الحزب على منح داودأوغلو ما كان يريده، الإقالة لا الاستقالة، بما يكسبه نقاط على الحزب من زاوية “المظلومية” التي لها صدى في الشارع التركي وكذلك من زاوية “الاضطرار” للسير في مشروع الحزب الجديد، فضلاً عن السياقات والعوامل التي أوصلت الأمور لهذه الدرجة. سيقول الخوجا للمواطنين وخصوصاً أنصار العدالة والتنمية: لقد حافظت على انتمائي للحزب، لكنه لم يتسع صدراً لنقدي الذاتي الذي أردت منه المصلحة، وطردني، بما لم يبق لي خياراً سوى العمل من خارجه.

بالطبع، فإنه من حق قيادة أي حزب أن تفصل من افترق معها في الرؤية ووجه لها انتقادات حادة في العلن ويعمل على تأسيس حزب آخر وهو ما زال – اسمياً – داخل أطره، لكن منطق السياسة وحساب المآلات وتأثير الانطباع تقول إن ذلك يحسب على العدالة والتنمية لا له.

رمزياً اليوم وفعلياً لاحقاً يخسر العدالة والتنمية حين يضطر لطرد رئيس سابق له ورئيس لثلاث حكومات متتالية، فضلاً عن عدد كبير من القيادات السابقة ذات الوزن والإنجاز والأيادي البيضاء على تركيا، وهو مؤشر على أن الأمور ليست على ما يرام داخل الحزب وأن آفاق الحوار مسدود إلى حد كبير.

أكثر من ذلك، لا شك أن داودأوغلو خسارة كبيرة للحزب ولتركيا، كمنظّر سياسي متميز وقيادي سابق في الحزب، ووزير خارجية أسبق صنع لبلاده الكثير وإن أخفق أحياناً، لا سيما وأن بلاده تفتقد لبوصلة واضحة أو رؤية متماسكة في السياسة الخارجية في السنوات القليلة الأخيرة في ظل حالة السيولة الشديدة والتقلبات الكبيرة في المنطقة.

اليوم، داودأوغلو أمام استحقاق أخذ القرار الذي كان يحاول أن يؤجله قدر الإمكان. ومشكلته لا تكمن فقط في عدالة والتنمية متماسك إلى حد بعيد خلف رئيسه اردوغان، وإنما كذلك في وجود منافسين حتى على فكرة التغيير والتجديد من نفس التيار والخلفية، والمقصود هنا المجموعة التي تسير مع وزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان بدعم من الرئيس السابق عبدالله غل.

لا يخفي داودأوغلو بين سطور تصريحاته الأخيرة رغبته في التنسيق مع تلك المجموعة، لكن التسريبات تقول بأن بعضهم هناك لا يريده، اختلافاً معه أو تنصلاً من “تـَرِكَتِهِ السورية” أو استشعاراً لمنافسته المتوقعة على القيادة أو لـ”محافظته الفاقعة” بينما يراد للحزب الجديد أن يكون أكثر “ليبرالية” وتمثيلاً “للكل التركي”.

ولأن “الكعكة” التي سيتنافس عليها الطرفان ليست بالكبيرة وفق الظروف الحالية ووجود اردوغان وقوته، لن يكون قرار داودأوغلو بتأسيس حزب جديد سهلاً، وظني أنه سيحاول جهده الانضمام للمجموعة الأخرى، لكنه يدرك كذلك أن تمثيل باباجان للحل الاقتصادي يقابله تمثيله هو لـ”ضمير” العدالة والتنمية وخلفيته ومبادئه التأسيسية كما يفضّل أن يقدم نفسه.

بهذا المعنى، ليس مؤكداً بأن يؤسس الخوجا حزباً سياسياً جديداً، فقد يتراجع عن الفكرة لاحقاً إن لم تبد له فائدتها العملية ويعود للعمل الأكاديمي والكتابة التي لم يتركها يوماً )ألف 5 كتب منذ تنحيه عن رئاسة الحزب(. لكنأ ألقى حَجَراً في مياه الحزب الراكدة لن يسمح لها بالسكون قريباً.

وعليه، وبعيداً عن اسم داودأوغلو على أهميته، يحتاج العدالة والتنمية اليوم لوقفة جادة لوقف نزيفه وخساراته النسبية المتكررة. فالأحزاب التي ستنشأ من رحمه ستقطع من حاضنته الشعبية ولو قليلاً، لكن هذا القليل قد يكون مؤثراً جداً في ظل حالة الاستقطاب وتوحد المعارضة مؤخراً. كما أن صورته بدون نسبة غير بسيطة من جيل المؤسسين اليوم ليست إيجابية، فضلاً عن أن المانفستو الذي كتبه داودأوغلو يعبر عن مشاكل حقيقية في وضع الحزب والبلاد مؤخراً – يدركها الكثيرون وإن لم يؤيدوها علناً – بما يحتاج لرد مقنع وعمل دؤوب نظرياً وعملياً للتفاعل معها )وليس بالضرورة مع داودأوغلو(  تغييراً أو تفنيداً أو نقاشاً على أقل تقدير.

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

العدالة والتنمية التركي وسيناريوهات الانشقاق

المقالة التالية

هل ستمتلك تركيا سلاحاً نووياً؟

المنشورات ذات الصلة