بعد أكثر من شهرين من الانتخابات البرلمانية التي رسمت مشهداً سياسياً جديداً في تركيا، يبدو أن كل الطرق تؤدي إلى الانتخابات المبكرة، بعد أن ثبت فشل الأحزاب السياسية المختلفة – بقيادة العدالة والتنمية أو بدونه – على الاتفاق على حكومة ائتلافية تقود البلاد إلى بر الأمان. مما يطرح أسئلة وجيهة ومنطقية بل وضرورية حول السيناريوهات الممكنة حتى لحظة الانتخابات، إضافة إلى انعكاسات ذلك على المشهدين السياسي والاقتصادي في تركيا، فضلاً عن سياستها الخارجية.
مشهد سياسي جديد
ذلك أن انتخابات السابع من حزيران/يونيو كانت قد أنتجت معادلة سياسية جديدة في البلاد، أفقدت العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية التي أهلته على مدى 13 عاماً لتشكيل الحكومة بمفرده، وصياغة رؤية وهوية وسياسة تركيا دون شريك أو منافس، وهو ما كان أحد أهم عوامل نجاح التجربة التركية الحديثة.
لقد ثبـّتت الانتخابات الأخيرة حزب الشعوب الديمقراطي ذا الجذور الكردية كأحد أعمدة الحالة السياسية التركية، وهو ما عنى عدة أمور مهمة لفهم الواقع التركي وتطوراته الأخيرة:
الأول، ارتفاع عدد الأحزاب التركية الممثلة في البرلمان من ثلاثة إلى أربعة، وهو ما حرم الحزب الحاكم من عدد النواب الذي كان يكسبه وفق قانون الانتخاب التركي، وهو أمر مرشح للاستمرار والتكرر في أي انتخابات قادمة.
الثاني، استقرار المشهد السياسي الداخلي لفترة مستقبلية ليست بالقصيرة على هذه الأحزاب الأربعة وما تمثله من تيارات سياسية وفكرية، بحيث يمثل العدالة والتنمية الحزب الرئيس للمحافظين، والشعب الجمهوري المعقل الأهم للعلمانيين، والحركة القومية الحزب الأساس للقوميين، ويمكن بالتأكيد قول نفس الشيء وبدرجة أعمق عن حزب الشعوب الديمقراطي والأكراد.
الثالث، التصويت على الهوية، وارتفاع رصيد الأحزاب القومية، حزب الشعوب الديمقراطي عن الأكراد (بما فيهم الإسلاميين وغير اليساريين منهم) وحزب الحركة القومية عن الأتراك، وما رافقه من تراجع لحزبي الوسط (العدالة والتنمية والشعب الجمهوري)، وهو مؤشر خطير من الناحية الاستراتيجية إن قدر له الاستمرار والزيادة في المنافسات الانتخابية المقبلة.
محاولات تشكيل الحكومة
لا يحدد الدستور التركي المعمول به منذ عام 1982 خطوات واضحة في مسار تشكيل الحكومة، بل لا يشترط تكليف الرئيس لرئيس الحزب المتقدم في الانتخابات بتشكيلها، لكن الأعراف والتقاليد السياسية المراعاة في البلاد تاريخياً كانت تفرض ذلك.
وعليه، فقد كلف اردوغان في التاسع من تموز/يوليو رئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داود أوغلو بتشكيل الحكومة، خلال مهلة دستورية مدتها 45 يوماً، تنتهي في 23 آب/أغسسطس، التقى خلالها الأحزاب السياسية الثلاثة الممثلة معه في البرلمان، ووصل إلى قناعة مفادها أن الائتلاف مع الشعوب الديمقراطي غير ممكن، بينما فضل الحركة القومية البقاء خارج أي صيغة حكومية، وهو ما ترك العدالة والتنمية أمام خيار وحيد هو الشعب الجمهوري.
خمسة لقاءات مطولة على مدى أكثر من 35 ساعة من المباحثات لم تكن كافية لجسر الهوة الكبيرة بين الطرفين، فلم يصلا للاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية اعتبرها بعض المراقبين صمام أمان لتركيا، باعتبار حصولها على أغلبية برلمانية مريحة، فضلاً عن أكبر طيفين – متضادين – في المجتمع التركي شعبياً، وهو ما كان من شأنه أن يخفف من حدة الاحتقان السياسي والمجتمعي ويقرب وجهات النظر. وفي ظل هذا الانسداد، عرض العدالة والتنمية على شريكه المفترض حكومة ائتلافية مؤقتة وقصيرة العمر لكن الطلب ووجه بالرفض، وهو نفس جواب الحركة القومية الذي عاد إليه داود أوغلو في محاولة أخيرة لم تكلل بالنجاح.
إذن، يبدو أن الأحزاب المختلفة لم تستطع بعد تقبل نتائج الانتخابات الأخيرة من الناحية العملية رغم تأكيدها على ذلك لفظياً في أكثر من مناسبة، فلا العدالة والتنمية بدا مستعداً للتخلي عن رؤيته ومشاريعه الكبيرة واقتسام السلطة مع المعارضة، ولا الأخيرة بدت واقعية في مطالبها وفق موازين قوى المشهد السياسي، فغالت في مطالبها التعجيزية وكثفت من خطوطها الحمراء، حتى بقيت البلاد بلا حكومة مستقرة.