الشعب الجمهوري وتحديات الانتخابات القادمة

لم يكن الشعب الجمهوري يوماً ما حزباً عادياً في معادلة السياسة التركية، فهو حزبُ مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال وحامل مبادئه الستة في شعاره، وهو الذي قاد الحياة السياسية في تركيا حتى عام 1950. بعد ذلك بدأت فترة التعددية الحزبية في تركيا التي فقد الحزب خلالها ريادته الداخلية، ولم ينفرد بالحكم مطلقاً بينما شارك في بعض الحكومات الائتلافية على استحياء.

مع استلام العدالة والتنمية للحكم عام 2002، بات الشعب الجمهوري حزب المعارضة الأكبر والأهم، بعد أن تجاوزت التيارات العلمانية واليسارية داخله خلافاتها السابقة، لكنه لم يرق يوماً إلى مرتبة منافسة العدالة والتنمية على الحكومة. ومع انتخاب رئيسه الحالي كمال كيليتيشدار أوغلو عاد الجدل داخل أطر الحزب ليعلو مجدداً، تحديداً بسبب ما اعتبره البعض محاولة منه للابتعاد عن مبادئ أتاتورك العلمانية والسير بالحزب نحو اليمين (المحافظ)، مثل قبول أحد الإسلاميين مرشحاً توافقياً لرئاسة الجمهورية، وعقد تحالف انتخابي مع حزب الحركة القومية وجماعة كولن.

بنتيجة هذا الحراك الداخلي، عقدت قبل أشهر هيئة عمومية استثنائية أعيد خلالها انتخاب كيليتشدار أوغلو رئيساً للحزب، لكنها أيضاً أظهرت عمق الشرخ الموجود داخله. ويبدو هذا الحراك الداخلي مهماً ومحدداً في نتائج الحزب المتوقعة في الانتخابات البرلمانية المقبلة على عدة صعد. فمن ناحية يصارح الحزب جمهوره بأن سقفه في الانتخابات ليس الصدارة ولا تشكيل الحكومة، ولكن فقط الوصول إلى نسبة %35 من الأصوات، لعله يعيق تقدماً مريحاً للعدالة والتنمية يساعده على صياغة دستور جديد يقره البرلمان أو يُعرض على استفتاء شعبي لتغيير نظام البلاد إلى رئاسي.

ومن ناحية أخرى يبدو مستقبل رئيسه الحالي على المحك ويلفه الغموض، ليس فقط لفشله المتكرر في عدة استحقاقات انتخابية، ولكن أيضاً لأنه ألمح إلى قبوله الضمني بالرحيل، حين تحدث عن ضرورة دفع السياسي ثمن فشله، رغم أنه لم يحدد بالأرقام معايير النجاح والفشل له ولحزبه في الانتخابات الوشيكة. فإذا ما وضعنا في الحسبان إعطاء أغلب استطلاعات الرأي الحزب نسبة 24 – 28% من الأصوات، سنعرف أي مخاطر تنتظر الرجل بعد شهرين فقط من الآن.

ومن ناحية ثالثة، فقد استقال عدد من رموز التيار العلماني ألأتاتوركي وأسسوا حزب “الأناضول” بقيادة النائبة أمينة أولكر تورهان. ورغم أن الحزب الجديد لم يضم كامل التيار المذكور ولا يبدو ان له شعبية جارفة أو حاضنة كبيرة، إلا أنه بالتأكيد سيخصم من رصيد الحزب الأم في الانتخابات، سيما من العلمانيين المتشددين وأيضاً من أطياف واسعة من العلويين الذين يصوتون تقليدياً للشعب الجمهوري باعتبارهم الأقرب لأتاتورك ومبادئه المؤسسة للجمهورية.

أخيراً، يبدو أن تطورات عملية السلام مع الأكراد ستلقي بظلالها على نسبة التصويت لأكبر أحزاب المعارضة. ذلك أن جزءاً من اليساريين الذين يصوتون له باتوا أقرب إلى حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) منهم إليه، وقد ساعد  على ذلك تطوير الأخير لبعض شعاراته وسياساته، كما أيدت هذا الاحتمالَ نتائجُ الانتخابات الرئاسية التي نافس خلالها رئيسه صلاح الدين دميرطاش وحصل على ما يقرب من %9 من الأصوات.

ولأن حزب الشعوب الديمقراطي قرر المنافسة في الانتخابات بقائمة حزبية وليس كأفراد مستقلين كما جرت العادة فهو أمام خطر عدم القدرة على تمثيل نفسه في البرلمان إذا لم يحصل على نسبة %10 فما فوق وفق النظام الانتخابي التركي (تعطيه استطلاعات الرأي نسبة 8-10%)، وهو ما سيعني زيادة قدرة العدالة والتنمية على تنفيذ خطته المتعلقة بالدستور والنظام الرئاسي، ولذلك يتوقع الكثير من المراقبين ذهاب جزء غير يسير من أصوات الشعب الجمهوري للشعوب الديمقراطي لمنع هذا السيناريو.

في المحصلة، يبدو وريث الأتاتوركية عاجزاً اليوم عن تقديم وعود النجاح بالوصول للحكم ومكتفياً بنسبة %35 كسقف لطموحاته، لكنه سقف دونه عقبات كثيرة، أغلبها داخلي له علاقة برؤية الحزب وأيديولوجيته وانحيازاته الفكرية، وهو ما سيكون له تبعاته بعد ظهور نتائج الانتخابات، على الأقل على مستوى تماسك الحزب واسم رئيسه.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

موقع تركيا في المحاور الإقليمية ما بعد عاصفة الحزم

المقالة التالية

اللعبة الأمريكية في سوريا واليمن

المنشورات ذات الصلة