رغم أن الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص باتت صناعة وتجارة رائجة، تحكمها رؤوس الأموال والمصالح واللوبيات، إلا أننا اعتدنا على مقولة “الرياضة تصلح ما أفسدته السياسة”، حيث تـُحيَّد الرياضة عن الصراعات السياسية، بل على العكس ربما ساهمت الرياضة أحياناً في تقريب الأعداء أو الخصوم السياسيين، وهو ما عرف بالدبلوماسية الرياضية. حصل ذلك في مواجهة إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية في كأس العالم لكرة القدم، أو بعض المناسبات الرياضية التي جمعت الكوريتين، أو حضور الرئيس التركي السابق عبدالله غل لمباراة كرة القدم بين الغريمَيْن التاريخيين تركيا وأرمينيا.
لكن هذا الأمر لا يبدو منطبقاً على منطقتنا العربية ودولنا المختلفة (ترتيب الحروف هذا مقصود)، مثل كثير من الأمور البسيطة والبديهية والمنطقية الغائبة عنها وعنا. في بلادنا فقط، تفسد الرياضة ما كانت قد أفسدته السياسة أصلاً، وتمعن في الإفساد. وقد صمم السيد جبريل الرجوب، رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة، ورئيس اتحاد الكرة واللجنة الأولمبية الفلسطينية (إضافة إلى ألقاب أخرى) على تأكيد هذا المعنى قبل يومين.
والقصة باختصار أنه قدم طلباً للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) لتعليق عضوية دولة الاحتلال بسبب انتهاكاتها المتكررة للقطاع الرياضي والرياضيين الفلسطينين، في ظل حالة متصاعدة من التعاطف الفردي والمؤسسي في الغرب والعالم. ولا يهم هنا – حقيقة – نقاش ممن خرجت الفكرة ومن دعمها، الرجوب أم المتضامنين، بل المهم أن الرجل “ناور” وسحب الطلب قبل التصويت بدقائق في مقابل قرار بتشكيل لجنة “تراقب سلوك إسرائيل تجاه الرياضيين الفلسطينيين”، الأمر الذي أثار موجة من الغضب الشعبي الفلسطيني وحالة استياء بين المتضامنين.
وبطبيعة الحال، فالنقاش الواجب إثارته لا يتعلق بماضي الرجوب من سجن “بيتونيا” إلى خلية “صوريف”، ولا بالمسوغات التي جعلت “لواء” الأمن الوقائي رئيساً لاتحاد كرة القدم (متعدد المواهب)، ولا حتى عن نظرته العميقة للرياضة وتفضيله “الشورت” على الحجاب للفتيات الفلسطينيات، فهذه كلها نقاشات بعيدة عن جوهر الحدث الآني. وبعيداً عن الغضب الشعبي الفلسطيني الذي لا يحسب له الرجوب وسلطته حساباً، ينبغي التساؤل هنا: لماذا تصر السلطة الفلسطينية على خذلان من يتعاطف مع قضيتها/نا في كل محفل؟ وما الذي يبرر مواقفها المتخاذلة المتكررة؟
لقد ذكرنا هذا الموقف بموقف السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة إبرهيم خريشة عام 2009 في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وسحب سلطته دعمها لمشروع قرار يندد بالسلوك “الإسرائيلي” خلال عدوان 2008-2009 اعتماداً على تقرير غولدستون، بذريعة أنه قد يعيق عملية السلام (رحمها الله وأحسن مثواها). كما يثير الاستغراب إصرار عباس وسلطته على تجاهل حصار غزة وإغلاق المعابر وتماهيه في معظم تصريحاته مع موقف مصر بعد الانقلاب، بكل ما يمثله من ظلم وعدوان وصفاقة.
لكن السؤال الأهم الذي يجب أن يطرح هو فهم ومفهوم السلطة “للصراع” مع الاحتلال، إن كانت ما زالت تؤمن بالصراع ومفرداته وساحاته وأسلحته. ولئن كان اضطراب ميزان القوى مفهوماً في الصراع بين المحتل والشعب الذي يحتله، فإن المفهوم أيضاً بداهة أن أفضل ما يمكن أن يفعله الثاني هو محاصرة الأول في المحافل الدولية وزيادة حلفائه في هذه المعركة لمضاعفة الضغط عليه. ولئن كان مبرراً لدى البعض التخاذل والتنازل في السياسة، فلا أدري كيف وجد الكثيرون المبررات للرجوب في هذه “المعركة” الرياضية؟ والأهم، إذا كانت السلطة عاجزة عن “إزعاج” الاحتلال وإغضابه رياضياً فكيف يمكن أن تؤتمن على مصير الشعب والقضية بكل أبعادها السياسية والاستراتيجية والعسكرية (لا قدر الله)؟؟!!.
لقد حاجج البعض أن التصويت كان معروف النتيجة وأنه ما كان يمكن أن يؤدي إلى تعليق عضوية الكيان في الفيفا، مدافعين عما فعله الرجوب، من باب “ما كان في الإمكان أبدع مما كان”، وهو أمر ينم – مرة أخرى – عن سوء فهم لطبيعة الصراع وشموليته وأبعاده.
فمن قال إن الهدف الوحيد من التصويت هو النتيجة؟ ومن قال إن الانتصار في هذه المعركة مرتبط بنتيجة التصويت؟ إن معركة لها أبعادها السياسية والاستراتيجية والثقافية والوجدانية والإنسانية والحقوقية لفي أشد الحاجة إلى تلمس الغضب المتزايد في الغرب ضد الصهاينة، وإلى تبني وتنمية المبادرات الداعية إلى محاصرتهم عالمياً، ولذلك كان لمجرد فكرة التصويت صدى واسع، حيث سيدخل في وثائق الفيفا أن تصويتاً طرح على تعليق العضوية، أو أن طلباً قدم بهذا الصدد، مع كل ما يحمله ذلك من ثقل معنوي وتركيز إعلامي وفرصة لإثارة القضية بأبعادها المتكاملة.
إنه لمن المعيب أن تغيب الرؤية والاستراتيجية عن السلطة الفلسطينية التي يفترض أنها تمثل الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية (بعد تجفيف منابع المنظمة وتركها على التنفس الصناعي، إلا حين تدعو الحاجة لاستدعائها). كما إنه من المخجل أن لا نتلمس المتغيرات في الرأي العام العالمي فيما خص القضية الفلسطينية. فما المظاهرات الحاشدة في العواصم المختلفة خلال العدوان الأخير على غزة إلا شاهد آخر على تغير المزاج الغربي”العالمي، ودليل على إرهاصات يمكن – بل يجب – البناء عليها لمواجهة الاحتلال، ولا أعتقد أنه يخفى على صناع القرار الفلسطيني الاستفتاءات التي تجري في الغرب (على الشباب خصوصاً) ويحددون فيها “إسرائيل” كثاني تهديد للسلام في العالم.!!
على من ادعى أن الأمر لم يكن ممكناً ولا كان مؤذياً للصهاينة أن يشرح لنا لم جن جنونهم إذاً، ولم ضغطوا لسحب القرار. وعليه أيضاً أن يشرح لنا مسوغات الرضوخ لهذه الضغوط، وسر الضحكة الكبيرة التي ارتسمت على وجه “أبي فادي” وهو يصافح “نظيره الإسرائيلي” بحرارة لم نرها على وجه الأخير، ما دام الأمر يقع تحت عنوان “الاضطرار”.!!
إن ردات الفعل التي صدرت من عدد من المتضامنين العرب والأجانب، واستهجانهم من موقف السلطة الذي يخذلهم في كل موطن يريدون فيه الدعم والتضامن، ليدفعنا نحن أيضاً إلى الاستفهام عن إصرار السلطة ورموزها على إرسال رسالة “لا تكونوا ملكيين أكثر من الملك” لهؤلاء المتضامنين، ويدعونا – وهذا الأهم – إلى التذكير برسالة غسان كنفاني رحمه الله “إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين، لا أن نغير القضية”.