“الربيع” الذي انتهى والربيع الذي سيأتي
عربي 21
15/7/2024
إحدى أهم الزوايا التي تُتابع من خلالها العديد من الأطراف مجريات الحرب على غزة ونتائجها هي ارتداداتها على المحيط والمنطقة، وتحديدا على الوضع الداخلي لبعض الدول.
ذلك أن مركزية القضية الفلسطينية وتاريخيتها من جهة، واستثنائية المعركة واختلافها عن كل ما سبقها من جهة ثانية، وارتباط قضايا المنطقة وتطوراتها ببعضها البعض من جهة ثالثة، يجعل من المرجّح أن يكون لهذه الحرب تبعاتها وانعكاساتها الخارجية، إن على مستوى المنطقة أو العالم.
ومما يعزز هذا الاعتقاد لدى الكثيرين أن له نموذجا سابقا، هو الثورات التي سميت بالربيع العربي نهاية 2010 وبداية 2011. فقد قامت الثورات في عدد من الدول العربية لأسباب داخلية في معظمها مثل الفساد والأزمات الاقتصادية والمعيشية، ولكن أيضا لأسباب تتعلق بالسياسة الخارجية مثل التبعية وضعف الدور والموقف من القضية الفلسطينية.
وقد كان العدوان “الإسرائيلي” على غزة في 2008-2009 حاضرا في أذهان الشباب الذين ملأوا الميادين في تلك الاحتجاجات، من جهة بسبب دروس الحرب من صمود الفلسطينيين وأداء مقاومتهم رغم الحصار وقلة الإمكانات، ومن جهة أخرى بسبب ضعف الموقف الرسمي العربي المتراوح بين العجز والفشل. وهكذا سمعنا من شباب ميدان التحرير وأشقائه أن الاحتجاجات كانت تستلهم من غزة فكرة الإمكان رغم ضعف الإمكانات، وتحتج على أنظمتها التي خذلت غزة.
طويت صفحة “الربيع العربي” في موجة 2011 منذ سنوات، ولعل المصالحة الخليجية أولا ثم مسار المصالحة بين تركيا وبعض الدول العربية التي ناصبتها العداء لعقد كامل ثانيا؛ بمثابة إعلان غير رسمي بأن كافة دول المنطقة ومن الجانبين قد وضعت ملف الثورات وراء ظهرها بشكل كامل ونهائي، وربما يكون حديث أنقرة عن لقاء محتمل بين أردوغان والأسد آخر فصول هذا الإعلان، لكن هذا لا يعني أن هذا الحدث انتهى بلا رجعة.
في تفسير التاريخ وتوصيفه نظريات عديدة، بعضها ينظر للمسار التاريخي على أنه خط مستقيم لا يعود للخلف، وبعضها الآخر يراه ضمن موجات مد وجزر، وبعضها الآخر ينظّر للمسار “الدوري” أو “الدوراني”، وأخرى تتحدث عن “نهر التاريخ”، لكن معظم هذه القراءات تقر بإمكانية تكرر بعض الأحداث أو تشابهها، لا سيما إذا ما توفرت لها ظروف وسياقات ودوافع متقاربة. ولعل أكثر الظواهر السياسية- الاجتماعية القابلة للتكرر هي الاحتجاجات والثورات، ولذلك لطالما قُيّمت ضمن “موجات” أو مراحل ثورية متتالية.
يتحدث العديد من الباحثين عن أن الأسباب التي دفعت الناس للانفجار في نهاية 2010 في عدد من الدول العربية ما زالت قائمة، ويكاد يكون أي منها لم يُحلَّ أو يُخفف، بل تفاقم بعضها أضعافا مضاعفة، ولا سيما ما يتعلق بمعاناة المواطن اليومية من الأوضاع الاقتصادية الخانقة من جهة والانسداد السياسي والفساد والمظالم من جهة أخرى.
في المقابل، فإن النظر إلى حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة بأهلها ومقاومتها يدفع للقول بأن مشاعر الشارع العربي اليوم بخصوص موقف بعض الأنظمة تجاه الإبادة في غزة؛ تتخطى بمراحل ما شعر به في 2008 وما تلاها من حروب وعدوانات. إن موقف بعض الأنظمة العربية يُتعذر معه التفسير بالعجز (الإخفاق بدون محاولة) والفشل (الإخفاق بعد المحاولة) في دعم الفلسطينيين إلى مستويات التواطؤ (السكوت والرضا)، بل والانخراط المباشر وغير المباشر في المعركة إلى جانب الاحتلال.
ذلك أن استمرار المجازر البشعة بحق المدنيين من نساء وأطفال حتى وهم في مخيمات النازحين التي أنشئت في المناطق المعلنة “آمنة” من قبل الاحتلال؛ لم يدفع إلى موقف حقيقي تجاه الاحتلال من النظام الرسمي العربي، لا فعلا ولا تلويحا ولا حتى تلميحا. أكثر من ذلك، فقد أظهرت بعض الأنظمة رضا ضمنيا واستمرت بعلاقاتها مع الاحتلال، بما في ذلك التعاون وكأن شيئا لم يكن.
رغم الإبادة بل خلالها، لم توقف أي دولة عربية علاقاتها التطبيعية مع الاحتلال، ولا حتى هددت بذلك، ولم تسحب سفيرها ولم تطرد سفير الاحتلال، وبقيت العلاقات التجارية والاقتصادية، وجلس سفير الإمارات على مائدة الرئيس “الإسرائيلي” في بيت الأخير، وشارك صحافي سعودي في مؤتمر هرتسيليا الأمني- العسكري في دولة الاحتلال، ويستمر “الجسر البري” الذي تنقذ من خلاله عدة دول عربية اقتصاد الحرب في دولة الاحتلال وتعوضها ما تخسره من عمليات “أنصار الله” في اليمن، وشاركت بعض الدول العربية في حماية دولة الاحتلال من صواريخ إيران ومسيّراتها، فضلا عن الاجتماع الذي عقد بين قيادات عسكرية عربية رفيعة وقائد أركان جيش الاحتلال في المنامة برعاية أمريكية.
يقرأ الشارع العربي هذا الموقف، ولا يصدق -في غالبيته الساحقة- الكلام الدعائي للأنظمة بدعم الفلسطينيين وشجب للعدوان والعمل على وقفه.
ومن جهة أخرى، فإن القوى الحية التي انخرطت في الاحتجاجات الواسعة وسعت للتغيير في بلادها ثم دفعت ثمن فشل الثورات وتحكّم الثورات المضادة؛ بقيت خاملة لسنوات طويلة لأنها افتقدت للشعور بالجدوى بشكل أساسي، بينما يرى شبابها اليوم في غزة -مقاومة وشعبا- نموذجا يُقتدى في العمل والإنجاز رغم ندرة الإمكانات وبالتالي جدوى العمل بل ضرورته.
ولذلك، فليس من باب المبالغة القول إن الحرب الحالية على غزة تعزز فكرة تكرر الانفجار الاجتماعي- السياسي في العالم العربي، ولعلها تقرّب من موعده. فإذا كان ثمة من يخشى من هذه الموجة القادمة فعليه أن يسعى لعلاج أسبابها وتخفيف السياقات التي تدفع باتجاهها.
من هذه الزاوية، فإن اتخاذ المواقف الصحيحة من الحرب على غزة والوقوف في الجهة الصحيحة من التاريخ كما يقال؛ ليس فقط موقفا أخلاقيا مبدئيا صحيحا، ولا يخدم الأمن القومي العربي من باب أن الكيان الصهيوني عدو للجميع ويستهدف الكل وحسب، وإنما يمكن أن يساهم في نزع فتيل انفجار كبير قادم على المنطقة وخصوصا بعض دولها؛ لن يستطيع أحد التنبؤ بتوقيته ولا التحكم بمساره ونتائجه وتداعياته.
هذا، وإلا فعلى الجميع الاستعداد لذلك اليوم الآتي، وكلُّ آتٍ قريب.