الرؤية التركية للحل في سوريا

 

الرؤية التركية للحل في سوريا

 

الجزيرة نت

مع ازدحام الأجندات الدولية المتعلقة بحل الأزمة السورية، من جنيف إلى أستانا إلى سوتشي، وفي ظل تعقد الوضع الميداني وتعثر المسار السياسي، تبرز أهمية الأدوار التي تلعبها مختلف الاطراف الفاعلة والمؤثرة في القضية السورية.

 

تطور وأولويات

على مدى السنوات السبع الفائتة، بنت تركيا سياساتها إزاء القضية السورية اعتماداً على ثلاثة عوامل رئيسة، هي تطورات المشهد الميداني، وتجليات المقاربة الدولية للأزمة، وانعكاسات الوضع الداخلي في تركيا.

بدأت الأحداث في سوريا في آذار/مارس 2011 على شكل احتجاجات شعبية، ما لبثت أن تطورت سريعاً إلى ثورة شعبية، ثم إلى ثورة مسلحة تاُراً بالتعامل الأمني من النظام والدعم الإقليمي الذي وصل السوريين. ومع تفاقم الخيار الأمني للنظام وارتفاع سقف التدخلات الخارجية، تحولت سوريا بمرور السنوات إلى حرب بالوكالة ثم إلى ساحة صراع دولي بأيد محلية وإقليمية، وتفلتت إمكانات الحل من أيدي السوريين وتعلقت بالمنابر الدولية.

وبناء على ذلك، وبالتفاعل مع عوامل أخرى مهمة، انتقل الموقف التركي وتدرج من حث الأسد على الإصلاح في البدايات الأولى مرفقاً مع دعم المطالب الشعبية، إلى تبني المعارضة السورية وتقديم الدعم لها ابتداءً من 2012، إلى المطالبة برحيل الأسد حتى عام 2015 حين تحولت إلى قبول الحل السياسي المتمثل بمسار جنيف ثم أستانا بما شمل الرضى الضمني عن بقاء الأسد في الفترة الانتقالية ولكن ليس في سوريا المستقبلية.

ليست تركيا قوة عظمى، لكنها أيضاً ليست دولة عادية وقليلة التأثير في القضية السورية. تملك أنقرة عدة أوراق قوة تجعل من الصعوبة بمكان استبعادها من آلية الحل في سوريا أو تجاهل مصالحها بالكامل. فهي دولة إقليمية مؤثرة ومجاورة لسوريا، وحدودها المشتركة معها تعطيها الكثير من الميزات، إضافة لاستضافتها ثلاثة ملايين مواطن سوري على أراضيها. وتبقى أهم أوراق تركيا علاقاتها الجيدة ونفوذها لدى طيف واسع من المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وتواجدها العسكري في سوريا من خلال درع الفرات والآن غصن الزيتون.

تصوغ أنقرة موقفها من القضية السورية وسبل حلها وفق أولويات ثلاثة، أولها تأمين وقف إطلاق نار يشمل عموم الأراضي السورية بما يشكّل الأرضية لحل سياسي من جهة ويوقف استنزاف مختلف الأطراف من جهة أخرى ويتيح الفرصة لعودة قسم مهم من اللاجئين السوريين وبدء أعمال الإعمار من جهة ثالثة.

الأولوية الثانية هي الحفاظ على وحدة الأراضي السورية والحيلولة دون تفعيل سيناريوهات التقسيم والتجزئة، بما يخدم سوريا ودول الجوار وفي مقدمتها تركيا. بينما تتمثل الأولوية الثالثة في منع تشكيل دويلة أو ممر باسم القومية الكردية يديره حزب الاتحاد الديمقراطي أي الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب التركية والأمريكية والأوروبية.

تعتبر أنقرة مشروع الدويلة الكردية خطراً مباشراً على أمنها القومي، باعتبارها حاجزاً سياسياً وجغرافياً بينها وبين سوريا والعالم العربي، وبما قد تمثله من منصة لإطلاق عمليات للعمال الكردستاني نحو أراضيها كما حصل في شمال العراق منذ حرب الخليج الثانية، إضافة لانعكاساتها السلبية على الملف الكردي داخل تركيا. وهكذا، أصبح منع إنشاء الدويلة الكردية بوصلة للسياسة التركية إزاء سوريا والناظم لمختلف القرارات والسياسات المتعلقة بها، خصوصاً حين المفاضلة بين بعض المسارات والقرارات.

تدرك أنقرة أهمية التنسيق مع موسكو لاستمرار وجودها على الأراضي السورية بشكل سلس ومقبول ودون تحديات حقيقية خصوصاً في ظل عملية غصن الزيتونة الدائرة حالياً، لكنها أيضاً تعرف أن علاقاتها الجيدة مع المعارضة السورية السياسية والعسكرية هي أهم أوراق قوتها على المدى البعيد، ولذلك فهي تعمد إلى نوع من التوازن أو المواءمات بين تفاهماتها مع روسيا بما لا ينهي المعارضة تماماً ودعمها للأخيرة بما لا يضر التفاهمات مع موسكو.

كذلك، تعي أنقرة أهمية وقف إطلاق النار واستتباب الأمن في مناطق خفض التصعيد، لكن ليس على قاعدة غض النظر عن تقدم المشروع الكردي على حدودها الجنوبية، وهو المشروع الذي أثبتت تركيا أنها عازمة على الوقوق بوجهه بغض النظر عن الظروف ومواقف مختلف الأطراف.

ومن منطلق أولوية مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي أتت عمليتا درع الفرات في آب/أغسطس 2016 وغصن الزيتون في كانون الثاني/يناير 2018، لمنع التواصل الجغرافي بين الكانتونات الكردية في الشمال السوري وتضييق مساحات سيطرتها الميدانية، وتأمين الحدود التركية، وتقويض مقومات إنشاء الدويلة المفترضة وقفل الباب نهائياً أمام إمكانية وصولها لمياه المتوسط، كشرط رئيس لاستقلالها واستغنائها عن العلاقة مع تركيا.

 

رؤية مستقبلية

تبدو خيارات تركيا بالغة التعقيد على رقعة الشطرنج السورية. إذ تبدو متوجسة من شريكتها الاستراتيجية أمريكا، ومضطرة للتفاهم مع خصمها التقليدي روسيا، ومفتوحة على سؤال التعاون مع النظام السوري لمواجهة المشروع الانفصالي الكردي، ومرغمة على الموازنة بين حليفها الميداني – المعارضة السورية – وشريكها السياسي – موسكو – الذي هو أيضاً وللمفارقة الداعم الرئيس لخصم حليفها الميداني.

تبدو الأمور متناقضة ظاهرياً في سوريا، إذ يؤكد الجميع على ضرورة ووحدانية الحل السياسي بينما يسعون – جميعاً – لزيادة المكاسب الميدانية والانتصارات العسكرية، باعتبار أن مساحة السيطرة الميدانية تنعكس بشكل طردي على أوراق التفاوض في جنيف وأستانا ثم أخيراً في سوتشي.

ويبدو مؤتمر سوتشي مثالاً نموذجياً للحسابات الدقيقة التي تجريها أنقرة لمواقفها وكأنها تسير في حقل ألغام. فلا هي تريد إفشال المؤتمر ابتداءً بما يغضب الشريك الروسي، ولا يناسبها نجاحه تماماً بما يجمع كل الأوراق في يد موسكو. الحل كان – فيما يبدو – مشاركة متدنية المستوى وتنسيق مع المعارضة السورية للمشاركة المشروطة التي استحالت انسحاباً، بما عنى انعقاد المؤتمر لإرضاء روسيا لكن أيضاً عدم إنجاحه ضماناً لموقف متوازن.

تتوافق أنقرة مع موسكو حول ضرورة الحل السياسي واستحالة الحسم العسكري، لكنها تريد ذلك وفق مسار جنيف وتحت مظلة الأمم المتحدة، وليس وفق مسار سوتشي وبرعاية روسية متفردة. وهو اختلاف جوهري ورئيس ألقى بظلاله على مؤتمر سوتشي شكلاً ومضموناً بجهود تركية واضحة البصمات، ومرشح للاستمرار و/أو التكرر مستقبلاً.

والسبب الرئيس في ذلك أن التفاهمات والتنسيق مع كل من  روسيا وإيران ليسا مبنيين على أسس تحالف استراتيجي، بل على مصالح ومخاطر وهواجس مشتركة في مقدمتها معارضة السياسية الأمريكية في سوريا. يعني ذلك أن الإطار الثلاثي بين  أنقرة وموسكو وطهران تكتيكي وليس استراتيجياً وسيبقى معرضاً دورماً لاحتمالات الاضطراب والتذبذب، خصوصاً وأن التفاهمات مبنية على أسس الاختلاف والتمايز ودعم أطراف متناقضة في المشهد السوري.

ولكن، وفي ظل تمسك واشنطن باستراتيجيتها القاضية بالبقاء مدة طويلة على الأرض السورية وبالتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية، فإن الإطار الثلاثي مرشح لمزيد من تعميق التعاون بما يمكن أن يحمل على المدى البعيد أفقاً لتحالف استراتيجي لمواجهة الولايات المتحدة ومحورها في سوريا وربما المنطقة.

وبالعودة إلى أولوية أنقرة في سوريا، أي مواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي، فإن غايتها حالياً هي تأمين عملية غصن الزيتون وإدامة شبكة الأمان السياسية لها، من خلال التفاهم والتنسيق مع روسيا وبدرجة أقل إيران. إذ لا تستطيع أنقرة التخلي تماماً عن الحذر والركون للعلاقات الجيدة مع موسكو وطهران، باعتبار أن المواقف مرشحة دائماً للتبدل (كما حصل سابقاً) في ظل صراع المصالح والتحالفات المتشابكة. يبقى سيناريو “التوريط” في عفرين أو غيرها قائماً كاحتمال بالنسبة لصانع القرار التركي، ولذلك تبدو خطواته في غصن الزيتون بطيئة بهدف التحوّط والحذر وتجنباً لخسائر كبيرة في المدنيين كما تقول أنقرة.

ختاماً، تريد أنقرة حلاً سياسياً وفق مسار جنيف وتحت مظلة دولية يأتي إثر هدوء ميداني شامل في سوريا، لكن دون مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي المصنّف لديها منظمة إرهابية. وتدرك تركيا أن عناصر القوة الميدانية، وليس العلاقات الدبلوماسية ولا التفاهمات السياسية، هي طريق الاشتراك في رسم المسار المستقبلي لسوريا.

سوريا المستقبلية بالنسبة لتركيا هي دولة تعددية موحدة دون تقسيم أو فدرلة، بحكومة قوية قادرة على حماية حدودها وتأمين جيرانها، ومعترفة باستحقاقات الأمن القومي للجارة التركية، ومحتضنة لكل لاجئيها ونازحيها. وحتى ذلك الحين، تسعى أنقرة لتحصين نفسها بنفسها وحل مشاكلها بيدها ومنع استهدافها بقواها الذاتية والمناورة في مساحات الخلاف والاختلاف بين موسكو وواشنطن، أي بتطبيق القول المأثور الذي يردده الرئيس التركي مراراً: “تركيا تقطع حبلها السٌّرِّيَّ بنفسها”.

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

عملية عفرين: التحديات والسيناريوهات

المقالة التالية

مؤتمر "الشعب الجمهوري" وأزمة المعارضة التركية

المنشورات ذات الصلة