تكمن إحدى أهم مشكلات البعض في العالم العربي في تناول التجربة التركية في النظر لها من خلال عدسات أزماتنا، ضمن محاولات مستميتة للي أعناق الأحداث والتطورات والسياقات لفرض التطابق بين المشهدين العربي والتركي عسفاً، بهدف عقد مقارنات تخرج في كثير من الأحيان عن الأسس العلمية والمنهجية المطلوبة – كحد أدنى – لإقامتها، وتوظف بشكل واضح لتأييد أو دحض أفكار أو قناعات مسبقة.
هذه المقارنات غير المنطقية والقائمة على الانطباعات المنسلخة عن أي سبر عميق للتجربة التركية تسير عادة في الاتجاهين حسب الحدث، فتارة تفسر الأحداث في بلد عربي بالمقارنة مع تركيا وطوراً توضع التطورات في تركيا ضمن قالب تحليل الأحداث في أحد البلدان العربية، ولعل لمصر في ذلك نصيب الأسد وخصوصاً فيما يتعلق بانقلاب الثالث من تموز/يوليو 2013.
قبل أشهر، نشرت إحدى الصحف العربية لقاءً مع مسؤول تركي تحدث عن انقلاب 1997 على رئيس الوزراء التركي الأسبق المرحوم نجم الدين أربكان، ورأى أن حكمة الأخير في عدم دعوة الناس للنزول للشوارع قد عصمت دماء الشعب وحفظت اردوغان ومجموعته الذين كانوا سيقضون على يد العسكر، وقد أثارت المقابلة ردود فعل كثيرة ومقارنات عدة خلصت إلى نتيجة مفادها “كم من اردوغان قد قتل في شوارع مصر”.!!
واليوم، وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، تعود الكثير من الأقلام العربية لعقد المقارنات بين فشل الانقلاب في تركيا ونجاحه في مصر، باستعمال صياغات لم تكتف بالبعد عن الحقيقة والموضوعية والعمق في تناول الحدث التركي، بل تخطت ذلك إلى مساحة شتم وتحقير الشعب المصري (وليس فقط السياسيين) بالمقارنة مع الشعب التركي.
أحد أهم أسباب هذه المعضلة هو حالة الانبهار بالحدث التركي، والتي أدت إلى تسويق عدد من “الأساطير” حول التطورات في الميادين والشوارع التركية لا رصيد لها من الحقيقة ولا تقوم على تقييم موضوعي، مثل الحديث عن نزول “كل الشعب التركي” للميادين، أو “الصدور العارية” التي هزمت الدبابات، أو المواطنين الذين أفشلوا الانقلاب .. الخ.
ليس في هذا الكلام بطبيعة الحال ما يقلل من حجم البطولة والتضحية الذي أبداه الأشقاء الأتراك في الميادين والشوارع ونقاط المواجهة، لكن المراقب الجيد للأحداث يدرك أن عدد الذين نزلوا إلى الشوارع في ساعات الانقلاب الأولى لا يتعدون عشرات الآلاف (بينما لم يشهد أي من الانقلابات الأربعة السابقة أي مواجهات مشابهة) أغلبهم من أنصار العدالة والتنمية والإسلاميين بشكل عام، وأن الدبابات لم تأبه كثيراً بالمتظاهرين السلميين بل دهست بعضهم وأطلقت النار على آخرين وقصفت المروحيات المتظاهرين في أكثر من مكان، وأن ما هزم الانقلاب منظومة متكاملة ومتضافرة من العوامل في مقدمتها المقاومة العسكرية الميدانية المباشرة من قبل أجهزة أمنية مسلحة أهمها الشرطة والأمن والقوات الخاصة في الشرطة والاستخبارات، فضلاً عن دور قطاعات مهمة من الجيش لا يأتي الكثيرون على ذكرها حتى الآن.!!
بهذه الطريقة المجتزأة والحكم وفق الانطباعات السطحية والقوالب الجاهزة وسلخ الأحداث عن سياقاتها التاريخية ومعطياتها الواقعية لا يمكن أن تحصل استفادة حقيقية من التجربة التركية الثرية والمتجددة ودائمة التفاعل والتدافع. إن المقارنة بين بلدين أو تجربتين أو حدثين تفترض حداً أدنى من التشابه بينهما يمكــّن من إجراء المقارنة وفق معايير محددة، وهو تشابه غير قائم بين حدثي الانقلاب في كل من تركيا ومصر لعدة أسباب، أهمها:
أولاً: التجربة الديمقراطية التركية، الممتدة منذ نهايات الدولة العثمانية في التنظيمات والمشروطية (الملكية الدستورية) الأولى والثانية مروراً بتأسيس الجمهورية ثم بدء مرحلة التعددية الحزبية عام 1946 وصولاً للحظة الحالية.
ثانياً، عدم تعرض الأراضي التركية لاحتلال أجنبي مباشر لفترة طويلة، وهو عامل مهم جداً وفارق أساسي انعكس على عدة جوانب في التجربة التركية لا مجال هنا للتفصيل فيها.
ثالثاً، الفارق الكبير بين انغماس الجيش المصري في الأعمال التجارية والاقتصادية واهتمام المؤسسة العسكرية التركية بما تعتبره “حماية مبادئ الجمهورية” التركية، ولذلك فقد كان الجيش التركي يقوم بالانقلاب على الحكومات المنتخبة حين يرى أنها انتهكت هذه المبادئ – سيما علمانية الدولة – أو شبت عن الطوق، لكنه لا يبقى في الحكم طويلاً بل يرتب لانتخابات سياسية تعود فيها الأحزاب المختلفة للتنافس والفوز والحكم تحت هذا السقف.
رابعاً، فترة الحكم الطويلة لحزب العدالة والتنمية (منذ 2002 وحتى الآن بلا انقطاع) بحكومات يشكلها بمفرده وتنفذ سياساته، بما تخللها من إنجازات سياسية واقتصادية وتكوين حاضنة شعبية وإجراء تعديلات دستورية والقيام بإصلاحات ديمقراطية وتغييرات مهمة في مؤسسات الدولة المختلفة … الخ، بما لا يمكن مقارنته بأي دولة عربية شهدت ثورة سيما مصر التي استمر فيها مرسي في الحكم سنة واحدة لم يتمكن فيها من إدارة أي مؤسسة.
خامساً، الثقافة السياسية التي تتشكل في تركيا بشكل هادئ ومتدرج سيما فيما يتعلق بالنظرة للديمقراطية والانقلابات العسكرية، وقد ساهم في تشكيل هذه الثقافة – التي لا ينبغي أيضاً المبالغة في تقدير مدى تغلغلها أفقياً وعامودياً بين أفراد الشعب التركي – أضرار الانقلابات السابقة وإنجازات الحكومة الحالية والاستقرار السياسي والاقتصادي ومحاكمة الانقلابيين في عدة مناسبات وغيرها من العوامل.
سادساً، إن الفوارق والاختلافات الشاسعة في تفاصيل الحدثين في كل من تركيا ومصر من حيث التوقيت والشكل والحجم ومواقف مختلف الأطراف وإمكاناتهم تجعلهما لا يكادان يشتركان إلا في التسمية “انقلاب”، بينما ظروف وسياقات وتطورات كل منهما متمايزة تماماً عن الأخرى.
سابعاً، أيضاً لا ينبغي التقليل من انعكاسات المتغيرات في المنطقة على مدى السنوات الخمس الأخيرة على الداخل التركي، من حيث الوعي بالمتغيرات وحجم الاستهداف والالتفاف خلف القيادة التركية.
أكثر من ذلك، لا يمكن لأي باحث مدرك لتاريخ الانقلابات في تركيا إلا أن يلحظ أن جزءاً مهماً من تغير الموقف الشعبي من الانقلاب ونزوعه نحو المبادرة والنزول إلى الشوارع لمواجهة مجموعات الجيش مستمد من دروس التجربة المصرية تحديداً، ليس فقط على مستوى الخسائر الاستراتيجية التي تعرضت لها مصر بعد الانقلاب بل أيضاً على مستوى الانبهار بمستوى التضحيات التي قدمها الشعب المصري والتي رآها الكثيرون هنا في تركيا – سيما الإسلاميون منهم – ملهمة لهم.!!
الأهم من كل ما سبق أن كثيراً من الكتابات والتحليلات التي تحاول أو تدعي الاستفادة من التجربة التركية خصوصاً فيما يتعلق بمواجهة الانقلاب – ضمن عموم التجربة التركية – تتوسل ذلك من خلال التركيز على التفاصيل والأحداث والشخوص وهي المعايير التي تعطي لكل تجربة سمتها وخصوصيتها وبالتالي تقلل من مساحات الاستفادة منها، بينما تهمل العناوين العريضة والسياقات العامة والسياسات الكبيرة وهي بطبيعة الحال مناط الاستفادة الرئيس باعتبارها أقل خصوصية وأكثر انطباقاً على التجارب الأخرى، ومنها:
- تجنب الصدام – قدر الإمكان – مع المؤسسات التي لا يمكن مواجهتها وإخضاعها، والحرص على عدم خوض معارك خاسرة حتى ولو كانت محقة.
- العمل الهادئ المتدرج، الذي يحقق إنجازات على الأرض فيشكل حاضنة شعبية تعتبر نفسها لاحقاً جزءاً من المشهد ومساهِمة بقدر ما في صناعة النموذج فتسارع لحمايته من الانهيار أو الاستهداف.
- تقدير قوة الخصم وفق معايير علمية ومسحية موثوقة، دون تهوين ولا تهويل، بما يساعد على رسم الخطط المقابلة.
- التحسب لخطط الخصم وإعداد السيناريوهات والخطط الجاهزة للتفعيل وفق المتغيرات. فعلى المستوى الشعبي مثلاً، شهدت الأحداث الميدانية في تركيا (في أنقرة وإسطنبول تحديداً) تواتر تصرفات من المواطنين من الصعب اعتبارها ارتجالاً أو قرارات فردية، مثل إغلاق بعض الطرق السريعة بحافلات البلدية، وإدخال سيارات الإطفاء إلى مدرجات القواعد الجوية لمنع الطائرات الحربية من التحليق، وسد بوابات بعض الثكنات العسكرية لمنع المدرعات من الخروج، وترك سياراتهم على مفترقات الطرق الرئيسة في المدن الكبيرة .. الخ. وهي تدابير يظهر بين طياتها عنصر التخطيط المسبق والاستعداد لطارئ من هذا النوع والتنسيق بين عدة اطراف في أكثر من مكان، ويتعسر أن تكون وليدة الدقائق الأولى الانقلاب.
- صناعة البدائل بالتوازي مع تجنب المواجهة مع القائم، فجزء مهم جداً من نجاح القيادة التركية في إفشال الانقلاب كان المؤسسات التي عملت على تقويتها وتنقيتها وتسليحها وزيادة صلاحيتها على مدى السنوات الماضية وفي مقدمتها الشرطة (سيما القوات الخاصة منها) والأمن والمخابرات.
- التعبير عن الكل الوطني وليس عن موقف حزبي أو رمز من الشخصيات، فالعدالة والتنمية منذ إنشائه هو حزب “كتلة” أو حزب جماهيري وبالتالي فهو بطبيعة تكوينه تجمّع لعدة تيارات واتجاهات (بغض النظر عن نسب تمثيلها داخله)، فضلاً عن أن منطق مواجهة الانقلاب كان لحماية مستقبل البلاد والديمقراطية والحياة السياسية فيها قبل أن يكون دفاعاً عن اردوغان أو الحكومة أو العدالة والتنمية، وهو ما أعطى صورة عن “جبهة وطنية” ما تشكلت بدرجة او بأخرى في وجه الانقلاب (حتى ولو لم تكن حقيقية تماماً او شاملة، لكن الانطباعات أحياناً تكون أهم من الحقائق).
- تجنب القيادة للاعتقال وبقائها حرة كرسالة لفشل الانقلاب في السيطرة والقدرة على “إدارة المعركة” ولو من بعيد. لقد غادر اردوغان فندقه قبل أي معلومات عن استهدافه، وأصدر تعليماته لرئيس وزرائه أن لا يعود إلى بيته، كما اتجه رئيس جهاز الاستخبارات إلى مكان آمن ليدير غرفة العمليات، وهكذا كان فعل الكثير من القيادات التركية ليلة الانقلاب. كان بقاء القيادة طليقة مؤشراً مهماً على إمكانية الفعل ومحفزاً للجماهير التي تحتاج في وقت الأزمات إلى قيادة موجِّهة وقوية أكثر مما تحتاج إلى أي شيء آخر.
- نزول الجماهير إلى الشوارع والميادين كان إيجابياً ومبادراً وفي وجه الجنود والدبابات وكان يهدف إلى إيقافهم أو إعاقتهم كما سبق ذكره في النقطة رقم 4 وليس مجرد نزول سلبي للاعتراض والاعتصام فكان عاملاً مساهماً في صناعة المشهد وتحقيق نتائجه.
في الخلاصة، ثمة فارق كبير بين دراسة التجربة التركية في العموم وفي خصوصية الانقلاب اليوم دراسة موضوعية منهجية واستخلاص الدروس والعبر منها للعالم العربي وما أكثرها، وبين فكرة “الانتقاء” منها لما يناسب أفكارنا المسبقة ويدعم توجهاتنا، سيما إن أنتج التقييم مقارنات تفتقر للحد الأدنى من المعايير الموضوعية بالتعسف في إسقاط الأحداث والشخوص على ظروف لا تناسبها ولا تشابهها أو توازيها.
ما زالت التجربة التركية متجددة ومستمرة في التفاعل والتدافع، ولا بد من دراستها دراسة معمقة وفق خصوصيتها ثم الاستفادة من العموميات والأصول والسياقات التي تحتمل التعميم وتفيد الآخرين، أما التفاصيل الصغيرة المرتبطة أصلاً بالخصوصية التركية فلا فائدة من الاحتفاء بها والتركيز عليها كثيراً لأنها لن تصلح في أغلبها للاقتباس و/أو الاستفادة في بلد آخر، سيما مصر.