شهدت الفترة الماضية تطورات مهمة في إطار مكافحة الحكومة التركية لما تسميه الكيان الموازي، الذي يفهم أنه قيادة جماعة الخدمة (كولن) أو المجموعة المتنفذة بها، والتي نظمت أنصارها في مؤسسات الدولة المختلفة عبر عشرات السنين، وتتهمها الحكومة بمحاولة إسقاطها تحت ستار قضية اتهامات الفساد التي أثيرت في 17 كانون أول/ديسمبر 2013، والتي اعتبرتها الحكومة في حينها انقلاباً قضائياً.
ينبغي في البداية أن نشير إلى أن الحكومة انتقلت منذ فترة من الدفاع إلى الهجوم واستطاعت تقليم أظافر الكيان/الجماعة وأذرعها المختلفة في عدد من المؤسسات كان آخرها القضاء بعد خسارة الأخيرة انتخابات الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين، إضافة إلى بدء تحقيق داخل المؤسسة العسكرية حول وجود الكيان الموازي داخلها، وأيضاً القضايا التي لاحقت بعض مؤسساتها الإعلامية، فضلاً عن القضايا المفتوحة ضد رجال الشرطة بتهمة التنصت على مؤسسات الدولة وإذاعة أسرارها.
لكن الأسابيع الماضية حملت 3 تطورات مهمة تدخل في نطاق تضييق الخناق تماماًعلى الجماعة، إذ تناولت زعيمها (فتح الله كولن) وعصبها المالي (بنك آسيا) ومؤسساتها الأهم في الخارج (المدارس التركية).
فقد ألغت الحكومة التركية جواز السفر الذي يحمله فتح الله كولن وأبلغت السلطات الأمريكية بذلك في 28 كانون ثاني/يناير 2015، إضافة إلى إعدادها مذكرة توقيف (كتاباً أحمر) سيصدر بحقه قريباً من وزارة العدل التركية، وهو ما سيعني طلباً رسمياً من واشنطن لتسليمه للسلطات التركية.
وقد عبر وزير الخارجية التركي عن ثقته في تعاون السلطات الأمريكية مع طلب التسليم، اعتماداً على اتفاقية التعاون الجنائي وتسليم المتهمين الموقعة بينهما، إضافة إلى القانون والمعاهدات الدولية ذات الصلة، مؤكداً أن العملية قضائية بحتى ولا بعد سياسياً لها.
أما بنك آسيا، العصب الاقتصادي للجماعة، فقد صدر قرار من “هيئة رقابة وتنظيم القطاع المصرفي” قرار بوضع يد “صندوق ضمان الادخار” عليه، وهو قرار يخول الأخير حق التصرف بـ %63 من نسبة الامتياز المحددة للهيئة الإدارية.
وقد صرحت الهيئة بأن مسوغات القرار هي غياب الشفافية عن إدارة المصرف، حيث لم تقدم الأخيرة معلومات ووثائق 132 من بين 185 عضواً مؤسساً (لهم حق تحديد الهيئة الإدارية فيه) خلال الفترة القانونية، وقالت إن الهدف هو حماية المصرف من الإفلاس، ولذلك فقد تم وضع اليد عليه وتشكيل هيئة إدارية جديدة لمساعدته على تخطي الأزمة دون الإضرار بأموال ومصالح المودعين.
وتعتبر هذه الخطوة ضربة موجعة لجماعة كولن، التي تعتمد على عدة مصادر مالية مثل التبرعات والمساعدات من داخل وخارج دوائرها التنظيمية، لكن بنك آسيا هو أهم وأضخم مؤسسة مالية تتبع لها برأس مال يقدر بحدود 800 مليون ليرة تركية (أكثر من 320 مليون دولار أمريكي).
أما المدارس التي تشرف عليها الجماعة خارج تركيا وتعتبر أحد تمظهرات قوتها الناعمة خارجياً، فقد أعلن وزير التعليم نبي أفجي عن قرار حكومي بتأسيس “وقف المعارف” لمتابعة عمل المدارس التركية خارج البلاد. وقد وقع الاختيار – بعد نقاش طويل – على أن تكون المؤسسة التي ستتولى المهمة وقفاً لتمتلك المرونة اللازمة لمواءمة القوانين المحلية في البلاد المختلفة، كما كان هناك اعتناء خاص بالاسم (المعارف) ككلمة عربية لها خلفية ثقافية/حضارية وتكون مألوفة في عديد من الدول وخاصة في العالم العربي.
وتولي الحكومة التركية اهتماماً خاصاً بهذا الوقف، الذي سيكون من مهامه إدارة وتنسيق المدارس التركية خارج البلاد (التي تدعمها الدولة وتساعدها السفارات التركية بينما تدير معظمَها حالياً جماعة الخدمة)، وتأسيس مدارس جديدة، وينتظر أن تكون مساهمة الدولة به بحدود 30% والقطاع الخاص %70، وسيكون في هيئته الاستشارية مسؤولون بارزون في عدة مؤسسات تركية ذات صلة مثل وزارة التعليم، وهيئة التعليم العالي، ووزارة الخارجية، ووكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، ومؤسسة “الأتراك المغتربون والمجتمعات القريبة”.
ويبدو أن الجماعة تلقفت الرسالة الحكومية واضحة جداً، وتعرف أبعاد الصراع واحتمالات مآلاته، فلجأت هي الأخرى إلى تخفيف الضغط – ولو جزئياً – عن نفسها وبادرت إلى الهجوم والضغط الخارجي. أولاً، نشر فتح الله كولن نفسه مقالاً في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “الديمقراطية المتآكلة في تركيا”، انتقد فيه القبضة الأمنية الحكومية وخفض سقف الحريات، وفق المقال.
من ناحية أخرى أرسل 88 عضواً من الكونغرس الأمريكي رسالة لوزير الخارجية كيري ينتقدون فيها حرية الإعلام واعتقال الصحافيين – تحديداً المرتبطين بجماعة كولن – في تركيا، وطالبوه بالتواصل مع اردوغان والحكومة التركية و”تشجيعهم” على حل القضايا بطريقة سلمية مناسبة.
هكذا، يبدو السجال مستمراً ومتصاعداً بين الحكومة والجماعة، التي اتهمتها الأولى بأنها وراء رسالة أعضاء الكونغرس وأنها دفعت أموالاً لبعضهم لكتابتها بهدف الضغط على الحكومة. لكن مبادرة الأخيرة لوضع اليد على العصب المالي (بنك آسيا) والذراع الخارجي (المدارس) للجماعة، بعد قانون المعاهد التعليمية الخاصة الذي حرمها من محاضن الاستقطاب التنظيمي داخلياً، وتتويج كل ذلك بخطوات طلب تسليم كولن نفسه من الولايات المتحدة، كل ذلك يجعل اليد الحكومية أعلى وأقوى حالياً في تلك الحرب الدائرة منذ سنوات، ويبدو أن أسابيع أو أشهراً قليلة فقط ستكون كفيلة بتوضيح نتائجها ومآلاتها.