بينما تتركز أنظار المراقبين والإعلاميين على الملفات التركية الساخنة مثل التحالف الدولي في مواجهة تنظيم الداولة (داعش) والتماوجات السريعة في كواليس حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، تستمر تحت ظلال هذه الملفات الكبيرة الحرب المعلنة والمستعرة بين الحكومة التركية وجماعة كولن أو ما بات يعرف بالتنظيم الموازي.
لا شك أن ما يشهده حزب المعارضة الأقوى من استقالات وما يتوقع له من تشظي وربما تأسيس حزب من المستقيلين منه أمر في غاية الأهمية ويلقي بظلاله على حظوظ الحزب المذكور في الانتخابات البرلمانية القادمة عام 2015 وعلى مجمل المشهد الداخلي التركي، لكن ما تشهده الحرب بين الحكومة والجماعة يستحق أيضاً بعض التوقف أمامه.
ذلك أن الانتصار في الانتخابات البلدية (رغم الحملة التي سعت لإفشال العدالة والتنمية قبيلها) ثم فوز اردوغان بالرئاسة، ثم تراجع الجماعة الكبير في انتخابات الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين، كل ذلك أعطى إشارات واضحة على قدرة الحكومة (بعد توفر الرغبة) على تسريع الحملة ضد الجماعة باعتبارها خطراً على الأمن القومي التركي، سيما وأنها متهمة بالتنصت على المؤسسات الحكومية والشخصيات الأهم في البلاد من رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء إلى رئيس أركان الجيش إلى رئيس جهاز الاستخبارات.
بيد أن الأمر فيما يبدو لم يكن بالسهولة التي تخيلتها الحكومة، فلم تلق مطالباتها الضمنية للولايات المتحدة الأمريكية – مثلاً – بإعادة أو تسليم زعيم الجماعة الداعية فتح الله كولن لتركيا آذاناً صاغية أو إجابات واضحة. ورغم أن عدداً من الدول تجاوب مع أنقرة فأغلق أو ضيق على بعض المؤسسات التابعة للجماعة على أراضيه، إلا أن الحكومة التركية تبدو غير قادرة على تحجيم الجماعة خارج الحدود التركية تماماً.
بيد أن الصراع داخل تركيا يسير على قدم وساق. ومن المفيد هنا قبل ذكر تفاصيله أن نذكـّر أن الهدف من الحملة القضائية التي رتبت باسم مكافحة الفساد في الـ17 من كانون أول/ديسمبر 2013 كان اردوغان نفسه، وليس الحزب. كان المخطط وقتها – كما كان قبلها في محاولة اعتقال رئيس الاستخبارات حاقان فيدان – هو إزاحة اردوغان والسيطرة على الحزب والحكومة، سيما وأنه تردد أن الجماعة تمتلك داخل دوائر الحزب الكثير من المنضوين تحت عباءتها أو القريبين منها أو الخائفين مما يمكن أن تفعله (اردوغان نفسه عتب أكثر من مرة بشكل علني على نواب حزبه الذين التزموا الصمت فيما اعتبره استهدافاً ومعركة وجودية). لكن تطورات الأحداث فيما بعد دحرجت الصراع إلى مستويات أعمق وأبعد وصلت لحد محاولات إسقاط الحكومة، ولذلك قلنا يومها إن الهدف كان “عدالة وتنمية بلا اردوغان”، ثم انتقل ليصبح “تركيا بلا عدالة وتنمية”.
ضمن هذا الإطار يمكن فهم تأسيس حزب جديد في تركيا تحت اسم “حزب التطور الديمقراطي” بقيادة النائب المستقل إدريس بال، المستقيل من العدالة والتنمية والمعروف بقربه من جماعة كولن. صحيح أن حركة الخدمة لم ولن تتبنى الحزب علناً، لاعتبارات عدة منها أدبياتها التي تحذر من الخوض في السياسة ومنها عدم رغبتها تحمل مسؤولية سياسات الحزب ومواقفه، ولكن عين السياسيين والإعلاميين ستنظر دوماً للحزب على أنه حزب “التنظيم الموازي”.
ولا يبدو أن الجماعة تنوي فقط المنافسة الحزبية في الانتخابات القادمة من وراء الحزب الجديد، فتلك حسابات بعيدة وصعبة (لم يحظ الحزب باهتمام جيد لا إعلامياً ولا شعبياً)، بل قد يكون الهدف هو إيجاد منبر سياسي يدافع عن الجماعة، ليس فقط بتبني خطابها ونقد الحكومة بل أيضاً عبر تصوير الحملة على الجماعة على أنها تجاوز لحدود المنافسة السياسية الحزبية، بمعنى إعطاء الجماعة غطاءاً سياسياً وحزبياً.
وما يؤكد هذه الرؤية أن الحزب تعرض لضربتين في الساعات الأولى من تأسيسه، تمثلت الأولى باستقالة أحد مؤسسيه (فوزي بوبيليك) بعد 12 ساعة فقط من التأسيس بذريعة أن الأجواء في الحزب “غير ديمقراطية”، والثانية الإقبال الإعلامي الضعيف جداً للمؤتمر الصحافي الذي أعلن عن تأسيس الحزب.
من ناحيتها، لم تتوقف الحكومة يوماً عن ملاحقة وتوقيف المشتبه بهم في قضية التنظيم الموازي، خاصة شق التنصت اللاقانوني. وكان آخر هذه الحملات واحدة تمت صباح اليوم في ثماني محافظات قبض خلالها على 17 شخصاً من بينهم مدراء ورؤساء أقسام في الأمن التركي.
وإضافة إلى الجزء القانوني من الحملة والذي تسارع بعدما تنفست الحكومة الصعداء إثر نتائج انتخابات القضاء، تسير الحكومة التركية أيضاً على خطوط متوازية في محاولتها مكافحة هذا التنظيم، منها البعد الاقتصادي المتمثل بمصرف آسيا المملوك للجماعة والذي تعرض لخسائر فادحة ويُتوقع له البيع أو إشهار الإفلاس، ومنها التلويح بإدراج التنظيم/الجماعة في قائمة الجماعات التي تشكل خطراً على الأمن القومي (بمثابة اعتبارها جماعة إرهابية)، لكن الحكومة لا تبدو في عجلة من أمرها في هذين الملفين.
إذاً، يبدو أن قواعد اللعبة باتت معروفة وواضحة للطرفين وللمتابعين في الصراع الدائر منذ أكثر من سنتين بين الحليفـَيْن السابقين، وعلى هذا نستطيع القول أن فصول المعركة قد تتسارع مع مرور الوقت لتبلغ ذروتها قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي ستنعكس نتائجها بلا ريب على الكثير من الملفات الداخلية والخارجية التركية وعلى رأسها ملف جماعة كولن أو التنظيم الموازي.