الحرب الدولية ضد “داعش” الاختبار الأول للحكومة التركية الجديدة

منذ إعلان رئيس الوزراء السابق رجب طيب اردوغان قبل أشهر ترشحه للانتخابات الرئاسية يشغل بال الدوائر القيادية لحزب العدالة والتنمية والمراقبين والمحللين سؤال مصير الحزب الحاكم والحكومة بعده، ومدى نجاحهما من دونه، كمؤسس وصانع أهم الإنجازات.

واليوم، وبعد ما يقرب من شهر من انتقال رئاسة الحزب والحكومة لوزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، وقبل أن تظهر ملامح المرحلة الجديدة في تركيا، تجد الحكومة نفسها أمام استحقاق كبير ومتشعب يشكل اختباراً حقيقياً، ليس لها وحدها بل للدولة التركية وشعوب ودول المنطقة، وهو تشكيل التحالف الدولي لمحاربة “الإرهاب” أو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش).

ذلك أن الحرب المزمع شنها ضد التنظيم المذكور، من خلال تحالف دولي يضم عشرات الدول، تنذر بعملية غير واضحة الأهداف والمعالم والمآلات، ربما تستغرق سنوات طويلة، وهي – إلى ذلك كله – غير مضمونة النتائج، فضلاً عن أن تركيا لها تخوفاتها وحساباتها الخاصة بكل تفاصيل العملية والتحالف ومنطق التعامل مع ما يسمى “تنظيم الدولة”.

 

تحذيرات تركية وصمت دولي

ولئن كانت السرعة التي أعلن فيها الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن إنشاء الحلف الدولي وأهدافه مصدر مفاجأة للكثيرين، وفيها ما فيها من معاني فرض الأمر الواقع على المنطقة ودولها المختلفة، إلا أن وقعها كان مختلفاً جداً على القيادة التركية، وهو ما يفسر امتناع أنقرة عن توقيع وثيقة مكافحة “تنظيم الدولة” الذي وقعته – إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية – عشر دول عربية، رغم التصريحات الأمريكية والغربية الكثيرة المنادية بأهمية دور واضح وكبير لتركيا.

ففي المقام الأول يشي لسان حال الحكومة التركية بالكثير، وإن لم يتم التعبير عنه بالكلمات والبيانات السياسية. فقد دأبت أنقرة – ومنذ سنوات – على التحذير من السكوت عن ظلم نظام الأسد في دمشق وسياسات المالكي الطائفية في بغداد، وأن عدم وقف الظلم الواقع على الشعبين السوري والعراقي سيؤدي – إضافة إلى الخسائر البشرية والاقتصادية والدمار – إلى تهيئة بيئة مناسبة للأفكار المتطرفة أو المتشددة.

وعلى ذلك، فلا ترى تركيا أن الحل العسكري سيكفي وحده للقضاء على ظاهرة “داعش”، سيما أن أحداً لا ينكر تمددها وحصولها على حاضنة شعبية وتعاطفاً لا بأس بهما في بعض المناطق، وتعتبر تركيا أن الحل يحتاج إلى إزالة أسباب نشوء الظاهرة، وعلى رأسها ممارسات النظامين في سوريا والعراق. وأما وقد تم تغيير الحكومة العراقية على أمل تغيير سياساتها، فتؤكد الحكومة التركية على لسان أكثر من سياسي ومسؤول أن الإجراءات المزمع اتخاذها يجب أن لا تؤدي بأي حال من الأحوال إلى تقوية النظام السوري، بل تذهب إلى أكثر من ذلك فتطالب بشمل النظام مع التنظيم كأهداف للعملية العسكرية.

 

حقائق الجغرافيا السياسية

ويقف وراء التخوفات التركية عدد من الحقائق التي يفرضها موقع تركيا الجغرافي وجوارها وهويتها وسياساتها، دفعت بالعديد من الساسة الأتراك إلى التصريح علناً بأن تأثير وانعكاسات الحرب الوشيكة على تركيا يختلف عن تأثيراتها على أي دولة غربية بعيدة عن المنطقة، منها على سبيل المثال تصريح نائب رئيس حزب العدالة والتنمية محمد علي شاهين أن نظرة تركيا للموضوع “يجب أن تكون مختلفة” عن نظرة أي دولة أخرى.

وأول هذه الحقائق هو الجوار التركي لكل من العراق وسوريا عبر مئات الكيلومترات من الحدود، غير المسيطر عليها بشكل تام بالضرورة، مما يعني أن النيران التي ستصب على الداخل العراقي (وربما السوري لاحقاً) قد تصيب الداخل التركي، حقيقة أو مجازاً. حيث ثمة تخوف مبرر في أنقرة من عمليات تفجيرية انتقامية في الداخل التركي إذا ما شاركت تركيا في التحالف الدولي بشكل واضح وفاعل، وهو أمر له سوابقه من تفجيرات قامت بها مجموعات لها علاقاتها مع النظام السوري في مدينة الريحانية وغيرها انتقاماً من موقف تركيا السياسي من النظام السوري.

ثانياً، لا شك أن موقف تركيا يختلف عن موقف باقي أعضاء الناتو أو المجموعة الغربية إذ هي الدولة المسلمة الوحيدة في الحلف، وهو ما يسبب لها حرجاً بالغاً – داخلياً وخارجياً – حين تشارك في حلف دولي – غربي في المنطقة العربية، في حادثة تشبه إلى حد بعيد التحالف الدولي الذي أنشئ سابقاً لغزو العراق.

ثالثاً، كون تركيا دولة مسلمة يعني أنه سيكون هناك تعاطف بدرجة أو بأخرى من قبل أطياف من الشعب التركي مع تنظيم الدولة في مواجهة الحلف الدولي، وهو تعاطف لا يمكن لأحد أن يحدد منذ الآن مستواه وحدود تفاعله وردات فعله. فقد أظهرت دراسة ميدانية مؤخراً أن نسبة %16 من مؤيدي العدالة والتنمية الحاكم يتعاطفون مع التنظيم في مواجهة الحلف الدولي (الولايات المتحدة الأمريكية). وبالتالي، فلن تضمن الحكومة التركية ردود الفعل الشعبية الداخلية، التي – على أقل تقدير – لن تكون راضية وسعيدة بمشاركة بلادها في الحرب.

رابعاً، تخشى الحكومة التركية من تدفق عدد كبير من اللاجئين العراقيين والسوريين بسبب الحرب نحو أراضيها، تتراوح التقديرات بشأنهم ما بين مليونين إلى أربعة ملايين شخص، مع كل ما يعنيه ذلك من أعباء اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية على البلد المضيف، وقد دخل الأراضي التركية فعلاً في يوم واحد أكثر من 45 ألفاً من الأكراد السوريين هرباً من سياسات “داعش”، فضلاً عن حوالي مليوني لاجئ سوري موجودين أصلاً على الأراضي التركية.

خامساً، وجوار تركيا للعراق وسوريا – مرة أخرى – يعني خطر تمدد الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم أكثر نحو الحدود التركية إذا ما فشلت الحرب أو توقفت  أو تغيرت الخطة لسبب أو لآخر. ولا تنسى تركيا في هذا السياق تهديدات سابقة لتنظيم الدولة بدخول مدينة هاطاي (أنطاكية) الحدودية، كتمدد مستقبلي للأراضي التي يسيطر عليها.

 

الرهائن الأتراك

لكن أهم وأخطر ما يكبل يدي تركيا في ملف التحالف الدولي والحرب على “داعش” هو الرهائن الأتراك في يدي التنظيم. ذلك أن الأخير استهل ظهوره على الساحة العراقية باحتجاز القنصل التركي في الموصل و48 شخصاً آخرين من العاملين في القنصلية وعائلاتهم، الأمر الذي اعتبره بعض الباحثين خطوة ذكية بل واستيراتيجية من قبل التنظيم لتحييد تركيا عن أي ردة فعل ضده، بينما ذهبت نظرية المؤامرة ببعضهم إلى اعتبار الامر مرتباً بشكل مسبق بين الطرفين حتى يكون لتركيا ذريعة قوية أمام المجتمع الدولي لعدم التدخل.

وبغض النظر عن السبب الحقيقي أو الظروف التي أدت لخطف طاقم القنصليةو عائلاتهم، إلا أن الأمر شكل صدمة قوية للشارع التركي وامتحاناً صعباً لحكومتيه (السابقة برئاسة اردوغان والحالية برئاسة داود أوغلو)، وسيطر الحذر على تصريحات الساسة الأتراك حيال التنظيم لئلا يصاب المختطفون بسوء أو تتعرض حياتهم للخطر، في ظل قتل وقطع رؤوس بعض الصحافيين الغربيين، فكان أن حظرت الحكومة على وسائل الإعلام تداول الموضوع، في محاولة لعدم استفزاز التنظيم ودفعه لعمل ما ضد المحتجزين لديه.

ورغم أن الرهائن قد حرروا أو تحرروا بعد 101 يوم من اختطافهم، عبر ما أسمته الحكومة “عملية استخباراتية معقدة” خطط لها ونفذت باحترافية ودقة من قبل دائرة العمليات الخارجية في جهاز الاستخبارات التركي، إلا أن الموضوع ما زال يلقي بظلاله على المواقف التركي خوفاً من أي حادث مماثل في المستقبل داخل تركيا أو في العراق الذي تكثر فيه الشركات والمصالح التركية المختلفة.

 

مآلات الحرب والهواجس التركية

من جهة أخرى، لدى تركيا مخاوف حقيقية تتعلق بسير العمليات العسكرية ومآلاتها وأهدافها غير المعلنة وانعكاساتها الاستيراتيجية بعيدة المدى على تركيا والمنطقة، إذ تدرك الأخيرة أنها أمام حدث فارق في التاريخ الحديث للمنطقة ككل، لن تقل شأناً وتأثيراً ربما عن حرب الخليج الثانية. ومن هذه المخاوف ما يلي:

أولاً، لا تشعر أنقرة بثقة كبيرة – كما كثير من شعوب ودول المنطقة – بالسياسة الأمريكية وأهدافها من وراء التحالف الدولي الوليد، سيما وأن التنظيم موجود في سوريا منذ سنوات بنفس الفكر والسياسات والممارسات دون أي نية غربية للتدخل، فضلاً عن التدخل لحسم الأزمة السورية المستمرة منذ ما يقرب من أربعة أعوام. وبالتالي، فهناك تخوف تركي – وإن كان غير معلن – من أن يؤدي هذه التدخل إلى تغيير توازنات وخرائط المنطقة الجغرافية والسياسية، بما يضر بالمصالح التركية بشكل مباشر أو غير مباشر.

ثانياً، تخشى تركيا أن تقع الأسلحة التي سيقدمها التحالف لبعض القوى داخل العراق بأيدي محسوبين على حزب العمال الكردستاني، أو أن يضعف التدخل موقف إقليم شمال العراق (كردستان)، بما يحمله ذلك من خطر كبير على عملية السلام مع الأكراد، الملف الداخلي الأهم والذي يحتل الصدارة في أولويات الحكومة التركية في الفترة الحالية.

ثالثاً، لا تريد تركيا أن يؤدي تحجيم تنظيم الدولة إلى تقوية الموقف  الميداني لنظام الأسد، بما يعني استمرار معاناة الشعب السوري وتهيئة الأرضية للأفكار المتشددة بشكل مستمر، الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم المشكلة بدل حلها.

رابعاً، ولا يغيب عن ذهن صانع القرار في تركيا أن الحرب قد تؤدي في النهاية إلى تقوية النفوذ الإيراني – الذي قد تحتاجه الولايات المتحدة – في المنطقة على حساب الدور التركي، وهو تخوف له ما يبرره إثر اتفاق إيران الأخير مع الغرب (دول 5+1) وفي ظل التصريحات المتبادلة بين الطرفين حول دور إيراني محتمل وضروري في الحرب.

خامساً، بنت تركيا نهضتها الحديثة خلال السنوات الأخيرة على مفهوم “الاستقرار” في الداخل والإقليم، واستفادت من انفتاحها السياسي والاقتصادي والثقافي على دول الجوار جميعها. ولئن كانت الأحداث المتسارعة في المنطقة قد حدت من القفزة الاقتصادية التركية واستطاعت الأخيرة حتى الآن تجاوز تأثيراتها، إلا أن حرباً قد تستمر على حدودها لسنوات طويلة قد تعني تضرر السياحة والمشاريع العملاقة والاستثمارات الأجنبية فيها، فرأس المال جبان كما يقال.

سادساً، تدرك تركيا بخبرتها السياسية أكثر من غيرها أن هذه الحرب محددة البداية مجهولة التسلسل والنهاية، وبالتالي فقد تتدحرج الأوضاع إلى سيناريوهات غير محببة أبداً للقيادة التركية. وهنا ينبغي الإشارة بشكل خاص إلى الحملة الإعلامية الغربية المستمرة منذ أشهر والتي ارتفعت وتيرتها مؤخراً لربط اسم تركيا بدعم الإرهاب وتحديداً داعش. هنا، لا تريد تركيا أن تتحول من شريك وحليف إلى هدف لأحد مراحل الحرب لاحقاً، بشكل مباشر (كدولة) أو غير مباشر (كمجموعات أو أفراد أو مناطق جغرافية).

 

دور سلبي وإنساني

بناءً على كل هذه المعطيات – وربما غيرها مما هو غير معلن – فقد أحجمت تركيا عن دعم التحالف بشكل صريح، وأعلنت عدم مشاركتها في الأعمال الحربية، بل وعدم السماح لقوات التحالف باستعمال أراضيها أو مجالها الجوي أو قاعدة “إنجيرليك” في الأعمال العسكرية المباشرة.

وعليه فقد أعلنت تركيا أنه لا دور “إيجابياً وفعالاً” لها في الحرب الوشيكة ضد “تنظيم الدولة”، وأنها ستكتفي – ضمن مسؤلياتها كعضو في حلف الناتو – بدور سلبي يقتصر على بعض الإجراءات الإنسانية واللوجستية، تتلخص في إيصال المساعدات الإنسانية لكل من الشعبين العراقي والسوري، والمساعدة في مجال المعلومات الاستخباراتية، وضبط الحدود لمنع محاولات الانضمام للتنظيم خصوصاً من قبل الشباب القادم من أوروبا، فضلاً عن إتاحة استعمال قاعدة “إنجيرليك” الاستيراتيجية والقريبة من الحدود العراقية للأعمال اللوجستية والإنسانية حصراً.

وفي مقابل هذا الدور المحدود ولكن المهم والحيوي للتحالف، فرضت تركيا بعض الشروط التي يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تجاوبت معها حتى الآن، على رأسها تسليح المعارضة السورية، والاكتفاء بالضربات الجوية دون التوغل البري في العراق، وشمل قوات التنظيم في سوريا أيضاً ضمن أهداف العمليات، إضافة طبعاً إلى ضمانات واضحة بعدم وصول المساعدات العسكرية إلى عناصر قد تضر بالأمن القومي التركي.

وفي موازاة ذلك، تعكف القيادة التركية ومنذ أيام على دراسة إمكانية إقامة منطقة عازلة على الحدود مع العراق (وربما سوريا)، يقام فيها حظر جوي، ويمكنها حماية الحدود التركية من أي تطورات غير متوقعة، فضلاً عن إتاحتها فرصة إيواء اللاجئين في الجهة الأخرى للحدود داخل بلدانهم دون التوغل في الأراضي التركية، اللأمر الذي سيحمي – وفق التصور التركي – أنقرة من أي تأثيرات سلبية لتدفق اللاجئين وسيساعد على إعادتهم إلى مناطقهم في أسرع وقت ممكن.

 

وفي كل الأحوال، ورغم الترقب التركي والتحفظ في التصريحات والمواقف، إلا أن تركيا تبدو في موقف لا تحسد عليه، فمن ناحية هي مضطرة للمشاركة – بدرجة أو بأخرى – في هذه الحرب، لاعتبارات عضويتها في الناتو ومسؤولياتها الإقليمية وسياساتها الخارجية، وحتى تضمن – قدر الإمكان – أن تسير العملية العسكرية ضمن خطة تحقق مصالحها ولا تضر بها، وأيضاً حتى لا تكون خارج “اللعبة” تماماً، سيما وأن المتوقع أن تغير الحرب في النهاية ديناميكيات المنطقة وخريطتها السياسية بشكل أو بآخر، لحساب الشاركين فيها على حساب الممتنعين أو المعارضين.

ومن ناحية أخرى، لا تبدو تركيا – مهما فعلت – بعيدة عن ارتدادات الحرب وانعكاساتها عليها، كدولة مشاركة في العملية وجارة لمسرح العمليات. وعليه فهي مضطرة لدخول حرب لا تريدها ولم تخطط لها أو تتخذ قرار شنها، لكنها فرضت على المنطقة فرضاً بسبب سياقات وظروف متعددة، وهي تنظر للأمر على أنه سكين ذو حدين، تبدو فيه أنقرة زاهدة بأي مكاسب، ولكن راغبة فقط بتقليل الخسائر عليها وعلى شعوب ودول المنطقة قدر الإمكان.

وفي ظل التحولات التي عاشها الإقليم خلال السنوات القليلة الماضية، وفقدان تركيا لأكثر من حليف من دول الجوار، فإن أسئلة النتائج والكيفية والمآلات ربما لن تكفي الأسابيع والأشهر القادمة للإجابة عليها أو حتى توضيح ملابساتها، إذ تبدو المنطقة على مشارف مرحلة جديدة تماماً – لها مفرداتها وآلياتها الخاصة بها – قد تمتد لسنوات.

وهكذا تجد الحكومة الوليدة في تركيا نفسها في بدايات عملها أمام ملف شائك يشبه التعامل معه المشي على خيط رفيع وهش فوق منطقة تغلي بالتطورات والأزمات والحروب منذ سنين، مما يعني أنها أمام تحد حقيقي وربما وجودي، قبل أشهر قليلة من الانتخابات البرلمانية القادمة التي ستحدد وجهة ومصير تركيا في السنوات القليلة القادمة.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

تركيا بين مطرقة داعش وسندان الناتو

المقالة التالية

بنو إسرائيل .. العدو والقدوة

المنشورات ذات الصلة