الحرب الاستباقية: استراتيجية تركيا الجديدة في “مكافحة الإرهاب”
مركز الجزيرة للدراسات
ملخص
يخوض حزب العمال الكردستاني منذ 1984 صراعاً مسلحاً ضد تركيا بهدف الانفصال وإنشاء دولة كردية في مناطق الأغلبية الكردية فيها وفي دول الجوار، متخذاً من جبال قنديل شمال العراق مركزاً له للتدريب وإطلاق العمليات المسلحة داخل الأراضي التركية.
وقد تطورت الاستراتيجية التركية في مواجهة حزب العمال الكردستاني خلال السنوات القليلة الماضية من الأسلوب الدفاعي للمبادرة ونهج الحرب الاستباقية، ليس فقط في شرق وجنوب شرق تركيا ولكن أيضاً في سوريا والعراق. أتت هذه الاستراتيجية الأمنية بعد متغيرات مهمة في السياسة الخارجية التركية عام 2015 وبعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، بحيث تكاملت الأبعاد الأمنية والعسكرية فيها مع السياسية.
تبحث هذه الورقة في تطور استراتيجية “مكافحة الإرهاب” التركية في مواجهة حزب العمال الكردستاني وامتداداته العسكرية في كل من العراق وسوريا، وأسباب تحولها مؤخراً لأسلوب الضربات الاستباقية خارج الحدود. وترى الورقة أن هذه الاستراتيجية أعادت تفعيل الدور التركي في القضية السورية بعد أن تراجع كثيراً إثر التدخل الروسي، وزادت من ثقلها تركيا الإقليمي بشكل ملحوظ، مع انعكاسات ملموسة على مسار القضية السورية تحديداً.
مقدمة
مع تأسيس الجمهورية عام 1923 على أنقاض الدولة العثمانية، بنيت السياسة الخارجية التركية على مبدأ “سلام في الوطن، سلام في العالم” الذي نحته مصطفى كمال أتاتورك، ويحيل إلى الانكفاء على الذات باعتبار أن السلام ينبع من هواجس كيانية ووجودية داخلياً وأن السلام في الخارج يقوم على اتباع سياسات تحافظ على الأمن الوطني[i]. وقد سارت الحكومات المتتابعة على هذا المبدأ عشرات السنين، وكان التدخل العسكري في قبرص في 1974 الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة[ii].
تأسس حزب العمال الكردستاني في 1978 وأطلق أولى عملياته العسكرية في 1984 منادياً بدولة مستقلة للأكراد في تركيا والمنطقة. وقد شكلت مكافحة الحزب جنباً إلى جنب مع القضية القبرصية أسس السياسة الخارجية التركية وبوصلتها الرئيسة منذ ذلك الحين.
تعتبر المقاربة التركية خلال تسعينات القرن الماضي لما سمي حينها “المسألة الكردية” مثالاً جيداً على مدرسة كوبنهاغن، حيث قاربتها كمشكلة “إرهاب” أكثر منها حقوق أقليات أو حقوقاً ثقافية، وتميزت بأحادية المنهجية العسكرية – الأمنية وتغييب العناصر الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتنموية[iii]. وقد وجهت تركيا للمنظمة الانفصالية ضربات قوية في التسعينات مستفيدة من ظروف مرحلة ما بعد الحرب الباردة وتراجع الدعم الدولي لها. وكان من إنجازات تلك الفترة اتفاقية أضنة مع الجانب السوري عام 1998[iv]، والتوافق مع بغداد بخصوص ملاحقة مسلحي العمال الكردستاني في شمال العراق.
بعد محاولات لم يسعفها الوقت مع رئيسي الوزراء الأسبقين تورغوت أوزال ونجم الدين أربكان، رأت حكومات العدالة والتنمية منذ 2002 القضية الكردية الداخلية باعتبارها تهديداً للنسيج المجتمعي واستنزافاً للدولة وباباً للتدخلات الخارجية، وقاربتها كعملية دمقرطة ومواطنة متساوية إن لم تكن حقوق أقليات تجاوباً مع ضغوط الاتحاد الأوروبي[v]. بنيت هذه الاستراتيجية على رؤية متكاملة تركز على الإصلاحات الدستورية والديمقراطية التي تمنح المكون الكردي من الشعب حقوقه السياسية والثقافية، وتنمية مناطق الشرق والجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية التي عانت من الحرمان والتجاهل سابقاً، وفتح باب العمل السياسي للحركة السياسية الكردية[vi].
أقدمت أنقرة على عدة حزمات من الإصلاحات والتعديلات الدستورية المتعلقة بالحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، مثل إتاحة تعليم اللغة الكردية واستخدامها في التأليف والتقاضي والدعاية السياسية وإنشاء قناة تلفزية حكومية ناطقة بالكردية[vii]، وقد ساهمت هذه الإصلاحات في تخلي أوجلان/المنظمة عن فكرة الانفصال ودعوته للحكم الذاتي الديمقراطي والكونفدرالية الديمقراطية عام 2005[viii].
بدأت الحكومة التركية عملية تفاوض سرية وغير مباشرة مع العمال الكردستاني بهدف التوصل لاتفاق تتخلى فيه المنظمة عن السلاح مقابل حقوق المواطنة المتساوية، وصولاً لتوقيع وثيقة من 10 نقاط في شباط/فبراير 2015[ix]. بيد أن تطورات الأزمة السورية، والتي نتج عنها إعلان إدارات محلية في الشمال السوري يديرها حزب الاتحاد الديمقراطي – الذي تعتبره أنقرة الامتداد السوري للكردستاني وتصنفه مع أذرعه العسكرية على قوائم الإرهاب – ساهمت في تفجير الموقف مرة أخرى، واستئناف المنظمة لعملياتها العسكرية وجمود العملية السياسية.
متغيرات سياسية وأمنية
شهد العام 2015 انعطافة مهمة في السياسة الخارجية التركية ولا سيما تلك المتعلقة بالملف السوري لعدة أسباب، في مقدمتها مآلات الأوضاع الميدانية في سوريا خصوصاً بعد التدخل الروسي المباشر في أيلول/سبتمبر 2015، وإعلان حزب الاتحاد الديمقراطي الإدارات الذاتية بداية 2014، وأجندة تركيا الداخلية المحتدمة والحساسة بين محطات انتخابية متعددة وأحداث أمنية وسياسية مثل “جزي بارك” وقضايا الفساد، وجمود علاقاتها مع عدد من الدول الإقليمية مثل مصر والسعودية والإمارات و”إسرائيل” ثم روسيا، فضلاً عن التوتر مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتوِّج كل ذلك بأزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 التي وضعت أنقرة أمام خيارات صعبة[x].
أدت هذه العوامل وغيرها إلى متغيرات في السياسة الخارجية التركية تمثلت في:
1) أولوية الملف السوري في السياسة الخارجية وأولوية مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي في الملف السوري.
2) تطبيع العلاقات مع عدد من الدول في مقدمتها روسيا والإمارات و”إسرائيل”.
3) انتهاج القوة الخشنة إلى جانب الناعمة في السياسة الخارجية، وتمثل ذلك بإنشاء قواعد عسكرية في كل من العراق والصومال وقطر وإطلاق عمليات عسكرية خارج الحدود مثل عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، إضافة لتعظيم القدرات الذاتية لا سيما في التصنيع العسكري[xi].
تزامنت هذه المتغيرات في السياسة الخارجية مع استئناف مكافحة حزب العمال الكردستاني في مدن الشرق والجنوب الشرقي، إثر إعلانه عن إدارات ذاتية وبدئه حرب عصابات في في مناطق الأغلبية الكردية في تموز/يوليو 2015. فقد استغل الحزب تطورات الأزمة السورية التي رأى أنها تمنحه الفرصة لتحقيق حلم الدولة، وردت عليه الحكومة التركية بحملة مكافحة لاستعادة الأمن في المدن والبلدات ذات الأغلبية الكردية في الشرق والجنوب الشرقي[xii].
كانت هذه الحملة جزءاً من استراتيجية جديدة لمواجهة الحركة الانفصالية مكونة من العناصر التالية:
1- تجميد مسار التفاوض الذي كان قائماً، واعتبار أن الكردستاني استخدمه فقط لكسب الوقت والتغطية على استعداداته لاستئناف العمل المسلح[xiii].
2- المواجهة بمقاربة أمنية – عسكرية بحتة بهدف كسر شوكة الكردستاني وإرغامه على رمي السلاح ونبذ العنف.
3- عدم اقتصار المواجهة على عناصر المنظمة داخل الأراضي التركية، وإنما شملها لمعسكراتها ومسلحيها في كل من سوريا والعراق وفق نظرية الحرب الاستباقية.
4- تحريك المسار القضائي ضد المتعاطفين معها ومع عملياتها في تركيا، بما في ذلك قادة ونواب حزب الشعوب الديمقراطي الذي تعتبره الحكومة امتداداً سياسياً لها[xiv].
5- رفض العودة لأي مسار تفاوضي مع العمال الكردستاني مستقبلاً، ونفي وجود “مشكلة كردية” في تركيا، واعتبار أن ما قدمته حكومات العدالة والتنمية حتى اللحظة عالج معظم المشكلة ولم يتبق إلا ثغرات بسيطة ومشاكل “لبعض الأكراد”[xv].
بهذه الرؤية تراجعت الحكومة التركية عن المسار السياسي السابق وعناصر المقاربة الشاملة، واقتربت من نهج المؤسسة العسكرية التقليدي الذي ساد في تسعينات القرن الماضي، في ظل خطاب قومي – يميني واضح تتركز مفرداته على تفاصيل عمليات المكافحة وأعداد العناصر المحيَّدة من المسلحين[xvi].
الحرب الاستباقية
كانت “عملية إحلال السلام في قبرص” عام 1974 هي الاستثناء الوحيد لانكفاء تركيا على نفسها واهتمامها بالداخل التركي، ومواجهتها حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي مع استثناءات على شكل قصف جوي بين الفترة والأخرى في شمال العراق. بينما بنيت الرؤية الجديدة، بعد تطورات الأزمة السورية وخصوصاً على حدودها الجنوبية، على مواجهة الأخطار في مكانها قبل الوصول إلى قلب البلاد.
قرأت أنقرة رغبة حزب الاتحاد الديمقراطي بوصل “الكانتونات” الثلاث التي يسيطر عليها، الجزيرة وعين العرب/كوباني وعفرين، جغرافياً ثم التمدد حتى مياه المتوسط، فقررت استباق ذلك ومنعه بحيث قضت خطتها بمنع التواصل الجغرافي عبر السيطرة على المنطقة الوسطى ثم إنهاء سيطرته على عفرين الأقرب للمتوسط لحصره في مناطق شرق الفرات قبل توجيه الضربة الأخيرة له هناك، إضافة لقصفها وعملياتها العسكرية التي شملت جبال قنديل وسنجار وغيرهما في العراق.
في 24 آب/أغسطس 2016، بعد أقل من شهر ونصف على المحاولة الانقلابية الفاشلة وفي ظل عملية إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، أطلقت أنقرة عملية درع الفرات لمنع التواصل الجغرافي بين الكانتونات “الكردية” ضمن جملة أهداف معلنة من بينها حماية الحدود التركية والحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومواجهة كافة التنظيمات الإرهابية بما فيها داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي[xvii].
في 30 آذار/مارس 2017 أعلن رئيس الوزراء التركي حينها بن علي يلدرم نهاية العملية، وأصدرت القوات المسلحة التركية بياناً بنتائجها التي شملت السيطرة على 243 منطقة مأهولة بالسكان ومساحة 2015 كلم2 من الأراضي (كان الهدف المعلن 5000 كلم(2 و”تحييد أكثر من 3000 إرهابي”، إضافة لسقوط 71 جندياً تركياً و600 من عناصر الجيش السوري الحر خلالها[xviii].
وفي 20 كانون الثاني/يناير 2018 أطلقت تركيا عملية غصن الزيتون في عفرين شمال غرب سوريا لإنهاء سيطرة وحدات حماية الشعب (YPG) عليها ومنع تسلل مسلحيها إلى الداخل التركي، إضافة لتأمين الحدود وعودة بعض اللاجئين السوريين إليها[xix]. ورغم أن السلطات التركية لم تعلن حتى اللحظة النهاية الرسمية للعملية، إلا أنه يمكن اعتبارها قد انتهت بتاريخ 18 آذار/مارس 2018 تاريخ سيطرتها على قلب عفرين أهم الأهداف المعلنة للعملية.
بنيت الاستراتيجية التركية في العمليتين على ركائز عدة، أهمها:
أولاً، ضرب الميليشيات في معاقلها وإفشال مشروعها خارج الحدود، حتى لا تضطر أنقرة لمواجهته في المدن التركية كما حصل في عدة تفجيرات في 2015 و2016[xx].
ثانياً، غطاء قانوني يتمثل بحق تركيا في الدفاع عن نفسها ومكافحة “الإرهاب”، بالإشارة إلى المادة رقم 51 من ميثاق الأمم المتحدة وعدد من قرارات مجلس الأمن (1624، 2170 و2178)[xxi].
ثالثاً، غطاء سياسي يتمثل بالتنسيق والتفاهم مع القوة المسيطرة (في هذه الحالة روسيا) لمنع التصادم وتسهيل العمليات.
رابعاً، التعاون مع طرف محلي متمثل بمجموعات الجيش السوري الحر.
خامساً، منظومة متكاملة من أسلحة الطيران والمدفعية والقوات الخاصة، والتقدم البطيء المتدرج تجنباً للمفاجآت والخسائر من الجنود والمدنيين.
منبج وشرق الفرات
تصر أنقرة على أن غصن الزيتون ليست العملية العسكرية الأخيرة لها على الأراضي السورية، وأنها مستمرة في تقويض ما تعتبره مشروعاً انفصالياً، مركزة على منبج ومناطق شرق الفرات.
أبرمت تركيا تفاهمات بشأن منبج مع الإدارة الأمريكية تقضي بخروج قوات سوريا الديمقراطية منها[xxii]، لكن ذلك لم يتحقق حتى اللحظة في ظل اتهامات تركية لواشنطن بالتلكؤ والمماطلة. بينما أعلنت مراراً أن استعداداتها لعملية عسكرية في مناطق شرق الفرات قد اكتملت بانتظار ساعة الصفر، بل وقصفت طائراتها تلك المناطق مرتين، لكنها أجلت إطلاقها بعد إعلان الرئيس الأمريكي عن نيته سحب قوات بلاده من سوريا.
من المسوغات التي تدفع أنقرة للتفكير بالعملية العسكرية شرق الفرات أن تلك المناطق هي الأهم والأخطر في مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي عليها باعتبارها تجمع بين المناطق الجغرافية الواسعة التي تقدر بحوالي ثلث الأراضي السورية، والثراء بالنفط والغاز والماء، والدعم الأمريكي سياسياً وعسكرياً، فضلاً عن قربها من الحدود العراقية.
لكن، في المقابل، تواجه العملية التركية المفترضة عدة عقبات في مقدمتها التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، ورفض الإدارة الأمريكية للعملية إلا بتنسيق مسبق معها[xxiii]، وعشرات آلاف المسلحين الذين تلقوا تدريباً وتسليحاً أمريكيين بما حولهم إلى شبه جيش نظامي، والاتساع الجغرافي للمنطقة بما يصعّب من إمكانية السيطرة التامة عليها، فضلاً عن بقاء بؤر تسيطر عليها “داعش” في المنطقة، وعدم تحمس روسيا للعملية المفترضة.
بسبب هذه المعيقات والتعقيدات، ليس متوقعاً أن تستهدف أنقرة السيطرة الكاملة على المنطقة بنفس أسلوب العمليتين السابقتين. حيث تبدو غايتها تقويض إمكانية إنشاء كيان سياسي للميليشيات الكردية أكثر من القضاء على الأخيرة وإخراجها تماماً من المنطقة، وهو ما يدعم سياق قبولها بحلول وسط بين العملية التقليدية الواسعة وعدم التدخل.
أحد أهم هذه الحلول الوسط هي فكرة المنطقة الآمنة التي اقترحها الرئيس الأمريكي ورحبت بها تركيا، والتي إذا ما نفذت كما تريد الأخيرة ستعني تأمين الحدود التركية بشكل كامل، وإبعاد الميليشيات عن حدودها مسافة لا تقل عن 20 ميلاً[xxiv]، وتقليص مناطق سيطرتها، وقد يشمل ذلك استقدام قوات أخرى لحفظ الأمن مثل البشمركة العراقية أو قوات النظام السوري[xxv]. لكن كل ذلك مرهون بالتفاهمات السياسية التي تحاول أنقرة بلورتها مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، حيث لم تقدم الأولى بعد تصوراً مفصلاً وواضحاً حول فكرة المنطقة الآمنة، بينما لا تبدو الثانية متحمسة للفكرة بل تسعى لتقديم بدائل عنها مثل إعادة الاعتبار لاتفاق أضنة المبرم بين الحكومتين التركية والسورية.
خاتمة: المكاسب
شهدت السنوات الثلاث الأخيرة عودة تركيا لمكافحة حزب العمال الكردستاني بعد سنوات من الإصلاحات الدستورية ومسار التفاوض السياسي غير المباشر، كما انتقلت فيها من المكافحة الدفاعية داخل الأراضي التركية إلى الحرب الاستباقية داخل وخارج تركيا، بحيث ركزت جهودها على منع العمليات قبل وقوعها وقصف مقراته في شمال العراق إضافة لاستهداف مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا بغية تقويضه.
وقد نفذت تركيا خلال هذه الفترة هجمات فاعلة ضد معسكرات حزب العمال الكردستاني في العراق إضافة لعمليتي درع الفرات وغصن الزيتون في سوريا، فضلاً عن عمليات نوعية لجهاز الاستخبارات التركي لاعتقال بعض قيادات وعناصر الحزب في سوريا[xxvi]، وتهدد حالياً بالسيطرة على منبج إن لم تنفذ واشنطن خريطة الطريق المتفق عليها بينهما، وبعملية عسكرية في مناطق شرق الفرات تؤكد أن إطلاقها مسألة وقت.
وقد تحققت لتركيا عبر هذه الاستراتيجية الجديدة مؤخراً مكاسب عدة، منها:
الأول، كسر شوكة الكردستاني داخل الأراضي التركية وإنهاء حالة الإدارات الذاتية في شرق وجنوب شرق البلاد، وتراجع عدد المنضمين له إلى الحد الأدنى، وتراجع نسبة العمليات الانتحارية والتفجيرية التي ينفذها بشكل ملحوظ[xxvii].
الثاني، توجيه ضربة قوية لمشروع حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا وإخراجه من مناطق واسعة وحشره في مناطق شرق الفرات، التي تخطط تركيا لاستهدافه فيها.
الثالث، عودة تركيا للملف السوري بقوة بعد أن تراجع دورها بشكل بارز بعد التدخل الروسي وأزمة إسقاط المقاتلة نهاية 2015. من ضمن ذلك تقبل مختلف الأطراف لمصالحها ومسوغات أمنها القومي، وتفعيل الولايات المتحدة لمذكرة التفاهم بخصوص منبج، ومشاركة أنقرة الفاعلة في مسار أستانا، ثم في الإطار الثلاثي الضامن لوقف إطلاق النار، وفي مذكرة سوتشي بخصوص إدلب، وفي مسار الحل السياسي وفي المقدمة منه اللجنة الدستورية.
الرابع، إدارة تركية مقبولة من السكان المحليين لمنطقتي درع الفرات وعفرين، وعودة أكثر من ربع مليون لاجئ سوري في تركيا إليهما[xxviii].
الخامس، فرصة لاختبار الأسلحة محلية الصنع، ما ساهم في زيادة صادرات الأسلحة التركية[xxix]، فضلاً عن إعادة الاعتبار نسبياً للمؤسسة العسكرية التركية وترميم آثار المحاولة الانقلابية الفاشلة وعملية إعادة الهيكلة بعدها.
في المحصلة، أمّنت استراتيجية الحرب الاستباقية لتركيا يداً عليا في مواجهة حزب العمال الكردستاني في الداخل والخارج، وقضت – أو تكاد – على عملياته العسكرية ضدها، وزادت من زخم حضورها في القضية السورية ومختلف قضايا المنطقة، ما يضفي مصداقية إضافية على التصريحات الرسمية التركية التي تؤكد على استمرار هذا النهج وعدم العودة إلى المسار السياسي مع المنظمة الانفصالية، على الأقل ليس قريباً وليس بذات القواعد السابقة التي ترى أنقرة أنها أثبتت فشلها بسبب عدم مصداقية الأخيرة.
المصادر
[i] محفوظ، عقيل سعيد، السياسة الخارجية التركية الاستمرارية – التغيير، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2012)، ص 61.
[ii] شاركت تركيا كذلك في الحرب الكورية 1950 – 1953 لإثبات انتمائها للكتلة الغربية ودعم طلب انضمامها لحلف الناتو، لكن التدخل في قبرص هو العملية العسكرية الخارجية الوحيدة المنطلقة من مسوغات الأمن القومي التركي بشكل مباشر.
[iii] Çelik, Ayşe Betül and Rumelli, Bahar, Necessary But Not Sufficient: The Role of The EU in Resolving Turkey’s Kurdish Question And The Gr eek – Turkish Conflict, European Foreign Affairs Review 11, 2006: 203 – 222.
[iv] اتفاقية أضنة بين أنقرة ودمشق: مضمونها وشروطها والظروف التي وقعت بها، ترك برس، 24 كانون الثاني/يناير 2019، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://www.turkpress.co/node/57159
[v] Çelik, Necessary But Not Sufficient.
[vi] يقصد بالحركة السياسية الكردية التيارات والأحزاب السياسية ذات الفكر الماركسي والتي تعتبر الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني ومارست السياسة في تركيا عبر تأسيس عدة أحزاب عبر تاريخها، وآخر تمظهراتها هو حزب الشعوب الديمقراطي.
[vii] الحاج، سعيد، عملية السلام مع أكراد تركيا على مفترق طرق، مركز الجزيرة للدراسات، 19 كانون الثاني/يناير 2016، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019):
[viii] Akkaya A.H. and Jongerden J.P., Confederalism and Autonomy in Turkey, The Kurdistan Workers’ Party and The Reinvention of Democracy, in: The Kurdish Question in Turkey: New Perspectives on Violence, Representation and Reconciliation, Gunes, C., Zeydalioğlu, W., London: Routledge, 2013, p 304.
[ix] Öcalan’In Sunduğu 10 Maddelik Metnin Detayları Konuşuluyor, Haber Turk, 19 February 2015, (Date of Entrance: 26 January 2019):
[x] الحاج، سعيد، العلاقات العربية – التركية: الآفاق والصعوبات، (المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية، إسطنبول، 2016)، ص 40-45.
[xi] الرنتيسي، محمود، تركيا وتفعيل القوة الصلبة: الأبعاد والتداعيات، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 3 نيسان/أبريل 2016، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019):
[xii] Kurds call for autonomy as Turkish crackdown intensifies, The Irish Times, 30 December 2015, (Date of Entrance: 24 January 2019):
[xiii] Turkey to persue PKK ‘until no terrorist remain’, France24, 11 August 2015, (Date of Entrance: 24 January 2019):
[xiv] تركيا: اعتقال رئيسي وأعضاء في حزب الشعوب الديمقراطي، سكاي نيوز عربية، 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019):
[xv] Erdogan: there is no Kurdish ‘problem’ in Turkey, Anadolu Agency, 23 March 2015, (Date of Entrance: 26 January 2019):
[xvi] يُستخدم مصطلح “التحييد” في تركيا للتدليل على المسلحين الذي تقتلهم أو تجرحهم أو تعتقلهم السلطات وبالتالي “تحيّدهم” من الصراع.
[xvii] Turkey sends tanks into Syria in operation aimed at Isis and Kurds, The Guardian, 24 August 2016, (Date of Entrance: 26 January 2019):
[xviii] Fırat Kalkanı Harekatının 216 günlük bilançosu, Milliyet, 30 March 2017, (Date of Entrance: 26 January 2019): https://bit.ly/2FRkLvo
[xix] أردوغان: سنجعل عفرين منطقة آمنة لإعادة اللاجئين، العربية نت، 22 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://bit.ly/2My9aBG
[xx] أردوغان: وفينا بوعدنا وداهمنا الإرهابيين في جحورهم، روسيا اليوم، 31 كانون الأول/ديسمبر 2018، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://bit.ly/2VgS937
[xxi] ” “غصن الزيتون” حق تركي تُقِرُّه الشرعية الدولية، وكالة الأناضول، 27 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://bit.ly/2CX0QY3
[xxii] أنقرة تكشف عن بنود “اتفاق منبج السورية” مع واشنطن، روسيا اليوم، 5 حزيران/يونيو 2018، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://bit.ly/2AkPqwI
[xxiii] بولتون: لا نريد ان تتحرك تركيا عسكرياً في سوريا إلا بتنسيق كامل معنا، سبوتنيك، 6 كانون الثاني/يناير 2019، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://bit.ly/2DAqkM6
[xxiv] المنطقة الآمنة في سوريا تشمل 3 محافظات، الأناضول، 15 كانون الثاني/يناير 2019، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://bit.ly/2CMcfcR
[xxv] “المنطقة الآمنة” بتفسيرات متعددة… وبحث عن تفاهمات تركية أميركية، العربي الجديد، 18 كانون الثاني/يناير 2019، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://bit.ly/2Wnf7G0
[xxvi] أنظر مثلاً: كيف اعتقلت المخابرات التركية مدبّر تفجير الريحانية مِن اللاذقية، سوريا، 12 أيلول/سبتمبر 2018، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://bit.ly/2FRclEc
[xxvii] حسب وزارة الداخلية التركية فقد انخفض عدد مسلحي المنظمة في تركيا خلال 2018 بنسبة %69، وانضم لها في نفس العام 95 شخصاً فقط وهو الرقم الأدنى منذ 30 عاماً، وأحبطت السلطات 308 عمليات إرهابية وهي في طور الإعداد:
Bakan Soylu açıkladı:Son 30 yılın en düşük seviyesinde, Hurriyet, 15 November 2018, (Date of Entrance: 26 January 2019): https://bit.ly/2G3Dao0
[xxviii] مسؤول تركي: أكثر من 290 ألف لاجئ سوري عادوا إلى مناطقهم المحررة، ترك برس، 31 كانون الأول/ديسمبر 2018، (تاريخ الدخول: 26 يناير 2019): https://www.turkpress.co/node/56314