فئتان في العالم العربي تتابعان بفضول وقلق بالغَيْن انعكاسات النتائج غير الرسمية للانتخابات البرلمانية التركية على سياستها الخارجية، الداعمون للمواقف التركية والرافضون لها، ولهذا الاهتمام أسباب وجيهة في مقدمتها موقف تركيا من مجمل قضايا المنطقة، واعتبار البعض لها “آخر القلاع” في توازنات المحاور الإقليمية، وكون السياسة الخارجية تحديداً مثار جدل بين الحزب الحاكم والمعارضة، وتعهد بعض أحزاب الأخيرة بتغييرات في السياسة التركية تجاه بعض القضايا الإقليمية وفي مقدمتها سوريا ومصر وفلسطين، إضافة لإقامة ما يقرب من مليوني لاجئ سوري ومئات/آلاف من الجاليات الأخرى وعشرات المؤسسات والتيارات فيها بعد موجة الثورة المضادة في بلدانهم.
ينبغي أولاً الإشارة إلى أن أي تغييرات محتملة في هذا الإطار لن تكون فورية أو تلقائية الحدوث، على الأقل خلال الأسابيع القليلة القادمة التي تشهد محاولات تشكيل الحكومة الجديدة في البلاد، والتي يستمر خلالها العدالة والتنمية في تنفيذ سياساته السابقة المعروفة.
أما على المدى البعيد، فيمكننا الإجابة على سؤال التغيير المحتمل من خلال عنوانين رئيسين: تركيبة الحكومة القادمة وتصنيف السياسات الخارجية.
ففي المقام الأول، سيتحدد سقف وأفق ومسارات السياسة الخارجية التركية تبعاً لتركيبة وشكل وأطراف الحكومة التركية القادمة، حيث تفرض الأحزاب المشاركة – بطبيعة الحال – رؤيتها وبرنامجها على بعض ملفاتها وفق السيناريوهات الممكنة التالية:
أولاً: سيناريو يشمل العدالة والتنمية: أي قدرة الحزب الحاكم الحالي على تشكيل ائتلاف حكومي (مع حزب أو أكثر) أو حكومة أقلية (يدعمها من خارجها حزب أو أكثر)، وهذا سيعني – وفق نظرية سريعة – ثبات السياسة الخارجية التركية الحالية إلى حد بعيد، لكنه أيضاً سيعتمد على “شريك” العدالة والتنمية. فدخول حزب الشعب الجمهوري في هذه الحسابات مثلاً سيؤدي إلى تأثر سياسة الحكومة القادمة بدرجة أو بأخرى بمواقفه المختلفة جذرياً مع العدالة والتنمية بخصوص سوريا ومصر تحديداً، بينما قد لا تتأثر السياسات الحالية كثيراً في حالة مشاركة حزب الحركة القومية غير المتناقض مع مواقف العدالة والتنمية الحالية.
ثانياً: سيناريو يستبعد العدالة والتنمية: وهو السيناريو الذي يسعى له حزب الشعب الجمهوري، ويقضي برفض أحزاب المعارضة الثلاثة المشاركة مع العدالة والتنمية واتفاقها على حكومة ائتلافية ثلاثية بينها أو على الأقل حكومة أقلية بين اثنين منها يدعمها الحزب الثالث من خارجها (على الأغلب الشعوب الديمقراطي). هذا الخيار – الممكن نظرياً الصعب عملياً – سيحمل تغيرات جذرية على بعض السياسات الخارجية، باعتبار أن عموده الفقاري سيكون حزب الشعب الجمهوري الذي يدعم نظام الأسد ويتعهد بإرجاع اللاجئين السوريين إلى بلدهم ويدعو إلى التطبيع مع السيسي ويعد بعلاقات أفضل مع “إسرائيل”.
ثالثاً: سيناريو الانتخابات المبكرة: ويتحقق هذا السيناريو بفشل مختلف الأطراف في تشكيل الحكومة خلال 45 يوماً، أو بسقوط أي حكومة قد تشكل خلالها قبل انتهاء الفترة البرلمانية عام 2019. وبطبيعة الحال فإن الانتخابات المبكرة تعني “انتخابات جديدة” وفق تعبير اردوغان، أي إنها عملية مستقلة تبدأ من الصفر ولا تعتمد كثيراً على التوازنات والنتائج الحالية. ورغم أن بعض استطلاعات الرأي رصدت بعض “الندم” من أطياف قاطعت الاقتراع أو صوتت لغير العدالة والتنمية وتوقعت ارتفاع نسبة الأخير إلى 45%، إلا أن النتائج تبقى أبعد من إمكانية الجزم بها أو بشكل الحكومة المشكــّلة بعدها، وبالتالي فالسياسة الخارجية التركية ستعتمد بشكل كبير على التركيبة الحكومية حينها.
أما العنوان الكبير الآخر فهو التمييز بين ما هو سياسة تركيا كدولة وما هو سياسة حكومة العدالة والتنمية، إذ الأولى أقرب للثبات والاستقرار والاستمرار، والثانية أكثر عرضة للتغيير أو التطوير أو الإلغاء. فالعلاقات المتوترة مع نظام الانقلاب في مصر والقطيعة مع دولة الاحتلال سياسات صاغها العدالة والتنمية ولا تحظى بإجماع الأحزاب السياسية الأخرى وعلى ذلك فهي عرضة للتغيير، بينما استضافة اللاجئين – السوريين وغيرهم – مثلاً سياسة تركية خالصة لا علاقة لها بالحزب الحاكم بشكل مباشر، ويشهد على ذلك تاريخها مع لاجئي البلقان والقوقاز والعراق. وعليه فتهديدات زعيم المعارضة التركية بإرسال اللاجئين السوريين إلى حيث أتوا ليست ذات بال، أولاً لأنها سياسة دولة وفق مبادئها ومفردات أمنها القومي، وثانياً لأنها مرتبطة بالمشهد الميداني السوري أكثر من اعتمادها على الموقف السياسي التركي، فضلاً عن تمتعها بقبول أمريكي/دولي.
وعلى الجبهة المصرية، لا يبدو الخوف من طرد المصريين – كأفراد – من تركيا أو تسليمهم للنظام في مصر في حال تغيرت الحكومة الحالية وسياساتها مبرراً، لكن عمل التيارات والمؤسسات المناهضة للانقلاب – مثل الإخوان والمجلس الثوري المصري وربما وسائل الإعلام التي تبث من إسطنبول – قد يكون مثار بحث وضبط أو إيقاف في لحظة من اللحظات.
ثمة نقطة أخرى أخيرة لا ينبغي تجاهلها، وهي أن نتائج الانتخابات أوصلت للعدالة والتنمية رسالة عدم رضى متعددة الأسباب، وهو ما يفرض على الأخير تغييرات وتعديلات في عدة ملفات وعلى مختلف الصعد، قد يكون منها ملف السياسة الخارجية على شكل “تهدئة” أو خفض لسقف الخطاب الحاد، حتى في ظل حكومة يقودها الحزب أو حتى مع حكومة أغلبية من المحتمل أن تكرسها أي انتخابات مبكرة.
بهذا المعنى، قد يكون من الدقيق أن نقول إن تغييرات ما في السياسة الخارجية التركية تبدو أمراً متوقعاً حتى في ظل بقاء العدالة والتنمية في الحكم، على الأقل على مستوى الخطاب والأسلوب إن لم يصل إلى الموقف والمضمون. لكن ذلك – مرة أخرى – لا يتوقع له أن يكون جذرياً ولا سريعاً ولا مفاجئاً.
أخيراً، يبدو لي أن حالة القلق/الهلع التي أصابت البعض بخصوص انعكاسات نتائج الانتخابات على السياسة الخارجية التركية سببها عدم توقعهم لها، وبالتالي عدم وضعهم سيناريوهات بديلة قد تخفف من أضرارها. وهو ما يدفعنا إلى التذكير بأن تركيا جمهورية برلمانية الحكم فيها عرضة للتغيير دائماً وفق اختيارات الشعب، وليست بلداً دكتاتورياً تسير كل الأمور فيه بكلمة من الزعيم الخالد. وبالتالي فإن النتائج الحالية يجب أن تدق ناقوس الخطر للجميع، باعتبار أن التغيير وإن لم يحصل اليوم، سيبقى ممكناً غداً وفي أي انتخابات قادمة، وبالتالي فيجب اتخاذ التدابيره الضرورية وإعداد السيناريوهات البديلة التي قد يُحتاج لها يوماً، بغض النظر عن احتمالية حصول ذلك.