التوافق الوطني الفلسطيني: حدوده ومتطلباته

التوافق الوطني الفلسطيني: حدوده ومتطلباته

عربي 21

خرجت الفصائل الفلسطينية من حوار القاهرة الأخير ببيان ختامي جماعي ثبّت التزامها بالاستحقاقات الانتخابية الثلاثة وما يتطلبه إنجاحها، مؤكدين على معاني التوافق الوطني والذي سعوا لترميزه من خلال الصورة الجماعية التي التقطوها متشابكِي الأيدي ومتراصِّي الأكتاف.

ورغم أن بعض الفصائل، وخصوصاً الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، أصدرت بيانات منفردة لاحقاً أبدت تحفظات أو حتى اعتراضات صريحة على بعض مسارات الحوار ومن ضمن ذلك عدم مشاركة الجهاد في الانتخابات التشريعية والرئاسية، إلا أن الحديث عن التوافق الوطني بقي سيد الموقف، لا سيما بين الفصيلين الأكبر فتح وحماس.

هذا الحديث العمومي عن فكرة التوافق الوطني وجد كذلك بعض التمظهرات العملية مثل فكرة القائمة المشتركة للانتخابات التشريعية بين حركتي فتح وحماس، بل إن نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري قال في مقابلة مع قناة الميادين اللبنانية إن فكرة دعم حماس لمحمود عباس في الرئاسيات ليست مستثناة وتبقى ضمن الخيارات المحتملة  التي يمكن أنتبحثها حركته.

وفي مقابل تخوفات كثيرين بأن تـُعقـّد الانتخاباتُ الانقسامَ الفلسطيني وتـُعمّقه، وبالتالي الحاجة لبلورة مشروع وطني متفق عليه قبل الذهاب للانتخابات، فقد سوَّقَتْ الفصائلُ الفلسطينية المتحاورةُ الانتخاباتِ على أنها حل للانقسام ووصفة للتوافق الوطني ومقدمة لمواجهة جماعية لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية.

هذا الخطاب يتجلى أكثر لدى حركة حماس، فيما لا تجد في المقابل الكثير من التصريحات الفتحاوية التي تتحدث عن أن الانتخابات خطوة أولى لمشروع أكبر. بمعنى آخر تبدو الانتخابات بالنسبة لحماس محطة أولى تهدف لتطوير المشروع الوطني، بينما تبدو بالنسبة لفتح محطة نهائية لإعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني.

لا يختلف اثنان على أهمية التوافق الوطني وضرورته، لا سيما في الحالة الفلسطينية التي تواجه مشروعاً إحلالياً استعمارياً يَظنُّ أنه وصل لمرحلة تمكنه من تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، إن كان عبر الضم والتهويد أو من خلال التطبيع مع المحيط العربي. لكن التوافق الوطني – أزعُمُ– ليس معنى مجرداً/تجريدياً ولا يُؤخذ على إطلاقه، وإنما هو بالضرورة مقيّدٌ بحدود ومتطلبات ليحقق المرجوَّ منه.

ففي المقام الأول، من البديهي أن التوافق ليس غاية مطلوبة لذاتها وإنما وسيلة لتحقيقها. المطلوب هو توافق وطني يخدم القضية الفلسطينية  ويوحد الفصائل والشعب ضمن مشروع يواجه مشاريع التصفية (صفقة القرن وغيرها)، وليس “أي” توافق وكيفما اتفق.

هذا المعنى البديهي البسيط يغيب أحياناً عن النقاش ولذلك فهو يعيدنا دائماً إلى سؤال هل الانتخابات هي الحل فعلاً لمعضلات المشهد الفلسطيني الكثيرة والمعقدة؟ يرى كثيرون – وصاحب هذه السطور منهم – أنها ليست الحل، بدليل أن انتخابات 2006 لم تكن حلاً وإنما مشكلة، برفض أطراف عديدة محلية (في مقدمتها فتح/السلطة) وعربية ودولية نتائجها وبكل ما تراكم في الساحة الفلسطينية منذ إجرائها. يقول الرأي الآخر إن الأوضاع قد تغيرت بشكل كبير عما كانت عليه في 2006، وهذا صحيح في العموم وخارجياً، لكن لا مؤشرات واضحة عليه فيما خصَّ لاعباً أساسياً ومهماً في المعادلة وهو السلطة الفلسطينية.

لم نرَ من السلطة الفلسطينية وركنها الرئيس حركة فتح مراجعات حقيقية لأوسلو وما بعده حتى اليوم، ولم نقرأ أن الرئيس الفلسطيني قد عاد عن أي من قراراته وإجراءاته الكثيرة التي اتخذها خلال السنوات الماضية، وخصوصاً ما يتعلق بقطاع غزة والمحكمة الدستورية والمجلس التشريعي.

يعني ذلك، ضمن ما يعنيه، أنه ليس هناك شيء ملموس يقول بأن موقف فتح/السلطة قد تغير أو أنها مستعدة فعلاً – لا قولاً وادعاءً – للشراكة السياسية. وبالتالي يصبح الحديث عن قبول نتائج الانتخابات المقبلة والتعامل معها مشكوكاً به وفي حاجة لإثباتات في أحسن الأحوال.

أكثر من ذلك، فقد قام عباس بما يؤشر لعكس ذلك، بالعودة إلى التنسيق الأمني مع الاحتلال (بافتراض أنه كان قد أوقف فعلاً)، وكذلك إعادة التواصل مع الإدارة الأمريكية الجديدة، رغم أن شيئاً لدى واشنطن أو تل أبيب لم يتغير بخصوص مخططات الضم ونقل السفارة الأمريكية للقدس وغير ذلك.

ولأن النوايا الحسنة لا تكفي في واقع بهذا التعقيد ومرحلة بتلك الحساسية، يعيدنا كل ذلك للحديث حول الضمانات المتعلقة بالانتخابات. لقد ذكرت الفصائل الفلسطينية أن بعض الدول العربية والإقليمية قدمت ضمانات بخصوص الانتخابات، لكن ذلك أمر يحتاج لتفصيل.

ففي واقع مختلف، سوريا أو ليبيا مثلاً، حيث هناك صراع ميداني وتواجد عسكري مباشر لبعض الدول على الأرض، تملك هذه الدول إمكانية إعطاء ضمانات وتنفيذها إن شاءت. بينما في الحالة الفلسطينية لا يتجاوز ذلك فكرة التشجيع والحض والدعم للعملية الانتخابية، دون أدوات حقيقية للضغط على هذا الطرف أو ذاك (باستثناء مصر نسبياً)، ما يجعلها ضمانات رمزية ومعنوية أكثر منها فعلية حقيقية. وبالتالي فالضمانات ابتداءً وانتهاءً ستكون ذاتية، أي فلسطينية – فلسطينية في المقام الأول.

أزعم أن شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني، بل وعدداً لا بأس به من الفصائل الفلسطينية، ليست واثقة تماماً بأن الرئيس الفلسطيني سيستكمل مسار الانتخابات حتى نهايته، لا سيما إذا ما سارت بعض محطاته عكس ما يشتهي، أي في حالة فوز حماس بنسبة “مقلقة” في التشريعي أو منافسة مرشح قوي (مصطفى البرغوثي مثلاً؟) له في الرئاسيات.

ماذا عن الاعتراف بنتائج الانتخابات أياً ما كانت، هل يضمن أحد التزام عباس/السلطة/فتح بها؟ وإذا كانت حركة فتح ستسلم فعلاً بالنتائج القادمة سرَّتها أم أزعجتها، فلماذا الإصرار حتى لحظة كتابة هذه السطور على الإجراءات “العقابية” السابقة بل وتواصل الملاحقات والاعتقالات في الضفة الغربية المحتلة؟

أكثر من ذلك، هل هناك ضمانات أو حتى مؤشرات على أن الانتخابات ستكون مجرد خطوة أولى سيبنى عليها لاحقاً ضمن مشروع وطني لمواجهة الاحتلال؟ وإذا ما تجاهلنا غيابمثل هذه التصريحات لدى ممثلي حركة فتح، هل العودة للتنسيق الأمني والتعاون مع واشنطن وغيرها من السياقات تعطي ثقة كبيرة بالمستقبل؟

لسنا هنا في مقام مجاملة طرف أو التهجم على طرف آخر، وإنما سرد الحقائق كما هي وما نراه منطقاً وضرورة ومصلحة وطنية. كان الأَولى بالفصائل الفلسطينية أن تتفق أولاً على برنامج سياسي ومشروع نضالي مشترك وإصلاح النظام السياسي الفلسطيني بما يتفق مع ذلك، ثم الذهاب لاحقاً للانتخابات، في حال كان هناك تصور بأنها ستخدم هذا التوجه. أمَا وقد قررت الفصائل الفلسطينية أن الانتخابات أولاً، فلا أقل منأن تكون قادرة على إقناع كوادرها وأنصارها وعموم الشعب الفلسطيني بأن هناك صفحة جديدة فعلاً قد فُتحت.

تقع المسؤولية الكبرى هنا على على الرئيس الفلسطيني وحركته وسلطته. ولأن مسار الانتخابات لا يَجُبُّ ما قبله، فإن التاريخ الطويل من الفشل والتنكر لبعض الثوابت الوطنية يحتاج إلى مراجعات ومواقف مختلفة وواضحة ومعلنة، لنثق أن هناك – فعلاً لا قولاً – مساراً مختلفاً هذه المرة. وإلا فإننا سنعود جميعاً للمربع الأول، بل ربما لما قبله وما هو أسوأ منه.

لستُ ممن يرى استحالة التوافق بين فتح حماس – فضلاً عن فصائل أخرى – بسبب اختلاف الرؤى والتوجهات، إذ دائماً هناك حد أدنى يمكن التوافق حوله، بل أكثر من مجرد الحد الأدنى. إلا أن ذلك يحتاج لضمانات حقيقية لما بعد الانتخابات وهو ما يفترض وجود مؤشرات واضحة منذ اليوم.

ففي نهاية المطاف، ورغم حديث حماس عن التوافق والشراكة، إلا أن ذلك لا يعني أنها ستمسح تاريخها أو تتنكر لجوهر مشروعها المقاوم، وبالتالي فإن أي إخفاق قادم – بعد كل ما حصل – سيكون له ارتدادات حقيقية تعمَق الانقسام والاستقطاب وربما ما هو أكثر وأسوأ من ذلك.

لكل التخوفات السابقة، فيما يبدو، طُرِحَتْ فكرة القائمة المشتركة بين الفصيلين الأكبر على الساحة الفلسطينية، بحيث يتحول الأمر لتعاون بدل التنافس، رغم أنها فكرة غير مقبولة من قبل شرائح فلسطينية واسعة، بل وتظهر الطرفين وكأنهما أحرص على المحاصصة والمصالح الحزبية الخاصة، وهو انطباع من الصعب تغييره لدى الكثيرين.

شخصياً، لا أعتقد أننا بحاجة لرؤية قائمة مشتركة لفتح وحماس في الانتخابات التشريعية حتى نقتنع أنهما طويا صفحة الانقسام، فما هو مطلوب أقل من ذلك بكثير، وهو ممكن بالتأكيد لكنه يحتاج لإرادة سياسية حقيقية وليس إلى مناورات وتكتيكات مؤقتة. أما فكرة دعم حماس لترشح عباس للرئاسة، فأرجو ألا تكون أكثر من تصريح سياسي عابر لا يعبر عن تفكير حقيقي لديها بهذا الاتجاه. فما نريده جميعاً هو توافق وطني حول الثوابت والحقوق ومقاومة المشروع الصهيوني، وليس “أي” توافق دون محددات واضحة.

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

تركيا والانتخابات الليبية: القراءة والانعكاسات

المقالة التالية

تركيا وأذربيجان: نحو مزيد من التعاون والتنسيق

المنشورات ذات الصلة