التقارب التركي – الإيراني وقضايا المنطقة

 

التقارب التركي – الإيراني وقضايا المنطقة

 

إضاءات

بعد مسار تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا الذي أعقب أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 والذي تحول إلى مسار تعاون وثيق، يبدو أن العلاقات التركية – الإيرانية تسير في مسار مشابه بعد زيارة رئيس الأركان الإيراني – هي الأولى من نوعها – إلى أنقرة ثم زيارة الرئيس التركي اردوغان إلى إيران وما تخللهما من خطاب وقرارات، الأمر الذي يطرح أسئلة مهمة حول مستقبل هذا المسار وطبيعته بين الاستراتيجيا والتكتيك من جهة، وآثاره المنعكسة على مختلف قضايا المنطقة من جهة أخرى.

 

تاريخ ذو دلالة

في كتابه “العمق الاستراتيجي”، يشرح رئيس الوزراء التركي السابق البروفيسور أحمد داود أوغلو كيف أن كلاً من تركيا وإيران لطالما افتخرتا أنهما تتقاسمان الحدود الأكثر استقراراً في الشرق الأوسط من مئات السنين، ولعلها ملحوظة ذات دلالة مهمة في واقع المنطقة الحالي الحافل بالأزمات والتوترات والمواجهات والحروب.

هذه الحدود المستقرة لا تعني أنهما لم تتواجها عسكرياً، فتاريخهما حافل بالمواجهات العسكرية في فترة حكم الدولة العثمانية، إلا أن التاريخ الحديث – بعد الحرب العالمية الأولى – يشير إلى علاقات مختلفة نوعاً ما، سيما في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت تشاركهما في عضوية حلف بغداد أيام الشاه. ولأن العلاقات تأثرت دائماً بنظام الحكم في البلدين، فإن الثورة في إيران عام 1979 أثارت مخاوف النخبة العسكرية والعلمانية في تركيا وكانت وفق كثيرين أحد أسباب انقلاب عام 1980 في تركيا تحسباً لسيناريو تصدير الثورة.

منذ 2002، مع حكم حزب العدالة والتنمية، أعادت أنقرة صياغة خطابها وسياستها الخارجية مع اهتمام واضح بقضايا المنطقة وتقارب مع دولها، ونشطت في سياسات الوساطة في الإقليم في إطار مبدأ “تصفير المشاكل” الذي اعتمدته. وقد تطورت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران في تلك الفترة، كما وقعا عام 2010 بالتعاون مع البرازيل اتفاقاً ثلاثياً لتبادل اليورانيوم.

لكن الثورات العربية، السورية تحديداً، وضعت البلدين على طرفي نقيض وحالة من التنافس في المنطقة حيث دعم كل منهما أحد طرفي الصراع في سوريا الذي تحول مع الوقت من ثورة شعب على نظام إلى حرب بالوكالة ثم إلى نزاع دولي بامتياز، إضافة لحالة التنافس الضمني في العراق. في 2015، بلغ التوتر بين الطرفين ذروته حين انتقدت أنقرة علناً سياسات طهران “المذهبية والقومية” للتوسع والتمدد في المنطقة بينما هدد رئيس أركان الأخيرة في حينها بجعل “سوريا مقبرة للأتراك”، بيد أن المشهد الحالي يبدو مختلفاً جداً.

 

أسباب التقارب والتعاون

الانتقال من حالة التنافس والمواجهة الضمنية غير المباشرة إلى مساحات التفاهم والتقارب ثم التعاون لم يأت بين يوم وليلة وإنما بتدرج تأثــَّرَ بعدد من العوامل والأسباب والمتغيرات. طبعاً ثمة علاقات اقتصادية وتجارية عميقة بين البلدين جعلتهما يتجنبان المواجهة المباشرة رغم الخلاف والاختلاف وقد تأثرت نسبياً وليس كثيراً خلال السنوات القليلة الماضية، وهناك القناعة بكارثية المواجهة المباشرة وضرورة تفاديها، لكن أيضاً كان ثمة ما تغير في الإقليم والعالم دفع الطرفين نحو التقارب ثم التنسيق والتعاون.

في المقام الأول، قلصت التطورات الأخيرة – منذ 2015 – في الأزمة السورية مساحات الاشتباك غير المباشر بين الطرفين، وثمة إطار ثلاثي يجمعهما حالياً مع روسيا لضبط المشهد الميداني بهدف تحقيق وقف لإطلاق نار ضمن إطار أستانا يشمل عموم الأراضي السورية للتهيئة للحل السياسي وفق مسار جنيف، دون أن يلغي ذلك بطبيعة الحال الاختلاف في الرؤى ووجهات النظر إزاء الأزمة عموماً.

وهناك التوترات المتكررة والمتراكمة في العلاقات التركية – الأوروبية والتركية – الأمريكية لأسباب كثيرة بعضها يتعلق بالسياسة الخارجية التركية، وبعضها الآخر مرتبط بالموقف الأمريكي والأوروبي من ملفات تعتبرها أنقرة في صلب أمنها القومي مثل المشروع السياسي الكردي في سوريا ومكافحة “الكيان الموازي”، فضلاً عن المواقف الأوروبية غير المرضية بالنسبة لأنقرة خلال الانقلاب الفاشل وما بعده، الأمر الذي دفع تركيا للاتجاه شرقاً في محاولة لمنح سياستها الخارجية شيئاً من التوازن والمرونة، مما قربها أكثر من روسيا وإيران.

وفي المقابل، هناك الأزمة المتوقعة/المحتملة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية على خلفية تصريحات ترامب بخصوص الاتفاق النووي والتطورات اللاحقة بما فيها تصويت مجلس النواب الأمريكي الأخير بخصوص عقوبات على طهران.

إقليمياً أيضاً، ثمة تطورات وأحداث كان لها بالغ الأثر على حالة الاصطفافات في المنطقة في مقدمتها الأزمة الخليجية التي قربت الدوحة من كل من أنقرة وطهران ثم قربت بين العاصمتين الأخريين، وبالتأكيد استفتاء كردستان العراق الذي صنع جبهة ثلاثية انضمت إليهما فيها حكومة بغداد المركزية.

ملخص ما سبق أن المهددات والمخاطر المشتركة جمعت الجارين الإقليميين أكثر من المصالح المشتركة، سيما وأن بعضها مما يعتبر استراتيجياً بالنسبة لهما، وأعني هنا مسار استقلال/انفصال إقليم شمال العراق الذي يمكن أن يعقّد الملف الكردي في كليهما ويخلط الأوراق في العراق الذي يقعان على حدوده بكل ما يحمله ذلك من مخاطر محتملة على المديين المتوسط والبعيد.

 

الانعكاسات المستقبلية

إذا ما أردنا أن نبسط العوامل المؤثرة في أي علاقات ثنائية بين دولتين عموماً أو بين تركيا وإيران على وجه الخصوص، يمكن رصد مجموعتين رئيستين من العوامل، تلك المرتبطة بالعلاقة المباشرة بينهما وتلك المتعلقة بالعوامل الخارجية المؤثرة بها.

فيما يتعلق بالمجموعة الأولى من العوامل فليس فيها ما يعكر صفو العلاقة، فليس هناك أسباب مباشرة للتوتر بين الطرفين، والعلاقات الاقتصادية بينهما جيدة ويرغب الطرفان في تطويرها وقد وقعا خلال الاجتماع الرابع للمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بينهما في طهران مؤخراً على عدة اتفاقات للتعاون في مختلف المجالات الاقتصادية والتجارية والسياحية والثقافية وقطاع الطاقة، كما أن إيران قد تجاوبت مؤخراً مع تركيا في موضوع ضبط أمن الحدود المشتركة وبناء جدار على الحدود لمنع تسلل مسلحي العمال الكردستاني بعد سنوات من مماطلتها في ذلك.

وأما العوامل الخارجية التي تلعب على وتر العلاقات التركية – الإيرانية فليست مرشحة لتغيير جذري أو مفاجئ على المدى القريب وإنما للاستمرار في نفس المنحنى الحالي مع متغيرات محتملة كماً وليس كيفاً. فمسار العلاقات التركية – الأمريكية مستمر في التدهور بغض النظر عن كيفية انتهاء التوتر الحالي المتعلق بتجميد التأشيرات، وملف انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي متعثر بلا أفق للحل، وإدارة ترامب ماضية في مسار الضغط – الخطابي حتى الآن والمرشح للانتقال للمساحة العملية – على طهران، والأزمة الخليجية تبدو طويلة المدى، كما يبدو البارزاني مصرّاً حتى الآن على البناء على نتيجة الاستفتاء، فيما لا مفاجآت كبيرة متوقعة في المشهد السوري.

ما يعنيه ذلك أن مسار التقارب ثم التفاهم الذي تحول إلى تعاون بين أنقرة وطهران  مرشح للاستمرار و/أو الرسوخ أكثر مع الوقت والتطورات على المديين القريب والمتوسط، سيما في ظل تعمق العلاقات التركية – الروسية ومسارها الإيجابي المطرد. لكن ذلك لا يعني أيضاً أننا إزاء “تحالف استراتيجي” بين الطرفين حالياً كما يحب البعض أن يصف العلاقة المستجدة بينهما، رغم أن ما سلف ذكره من مهددات وحدود وعلاقات اقتصادية مشتركة مع تناقض مساحات الاشتباك والمواجهة غير المباشرة بينهما قد يمهد الأرضية لشيء من ذلك على المدى البعيد، لكن ليس الآن.

من البديهي أنَّ تقاربَ ثم تعاون طرفين كانا على طرفي نقيض سابقاً سيضيق من مساحات المناورة والعمل التي نشط فيها فاعلون استثمروا حالة التناقض السابقة، سيما وأنَّ مسار التقارب يشمل أيضاً موسكو المؤثرة في عدد من ملفات المنطقة (في مقدمتها الأزمة السورية) والتي كانت أيضاً في فترة سابقة تتناقض في المواقف مع أنقرة.

سيعني ذلك تضييق مساحات المناورة أمام البارزاني في شمال العراق سيما وأن الاطراف الثلاثة الأقوى في المعادلة (أنقرة وطهران وبغداد) تبدو على قلب رجل واحد حتى الآن في الأزمة، وسيعني ذلك الكثير على صعيد الأزمة الخليجية والعلاقات التركية – السعودية مثلاً.

لكن التأثير الأكبر سيكون ولا شك في سوريا، مساحة التناقض الأبرز بين الطرفين سابقاً. لا يعني ذلك أن أنقرة ستتخلى تماماً ونهائياً عن دعمها للمعارضة السورية سيما مجموعات الجيش السوري الحر المرتبطة بها، إذ أن العلاقات الجيدة التي تربطها بالمعارضة السياسية والعسكرية والنفوذ الذي تملكه في أوساطها من أهم أوراق قوتها في الملف السوري إضافة لتواجدها العسكري المباشر على الأرض السورية، بل لعل الأول يتفوق على الثاني.

ولأن قدرة كل طرف على إنفاذ رؤيته ومصالحه في الحل السياسي المفترض أو المنتظر للقضية السورية مرتبط بشكل مباشر وطردي بأوراق قوته الذاتية والموضوعية في الملف السوري، ولأن تواجد تركيا ضمن الإطار الثلاثي الضابط لإيقاع الميدان يأتي في الأصل بسبب علاقتها بالمعارضة، فلا شك أنها معنية باستمرار هذه العلاقة والدعم الذي تقدمه لها وللسوري الحر، ولكن ليس وفق القواعد والسُقف والأهداف السابقة بطبيعة الحال، ذلك أن مسار التقارب بين تركيا من جهة وكل من روسيا وإيران من جهة أخرى قد فتح الآفاق على مرحلة جديدة ومختلفة كلياً في القضية السورية.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

التوتر التركي - الأمريكي: الحدود والمآلات

المقالة التالية

تركيا وشمال العراق: هل هو الحل العسكري؟

المنشورات ذات الصلة