بعد أقل من شهر من تفجير أنقرة الذي استهدف منطقة أمنية تعج بالمؤسسات الحكومية والوزارات وقيادات القوات المسلحة، أتى تفجير 13 آذار/مارس الأخير كثالث هجوم إرهابي كبير في العاصمة التركية خلال خمسة أشهر، موقعاً 35 ضحية و125 جريحاً، ليطرح أسئلة أعقد من أسئلة اللحظة الآنية.
ذلك أن الحكومة التركية بدت وكأنها تعاملت بشكل مناسب مع الحدث آنياً، وحاولت – ونجحت إلى حد بعيد – أن تمنع أهدافه قصيرة المدى من أن تتحقق. فهذا النوع من التفجير يسعى في العادة إلى هدفين رئيسين:
1- بث الخوف والذعر بين الناس، وهو ما تعاملت معه الحكومة بسياسة التعتيم الإعلامي على أخبار الهجوم وصوره المخيفة في الساعات الأولى، وتقديم رواية حكومية في أسرع وقت ممكن، وتفنيد الأكاذيب والشائعات، وإيصال الفرق الطبية في أسرع وقت ممكن، وتأمين منظومة متناسقة وموثوقة وسريعة للحصول على معلومات عن القتلى والجرحى، وهو ما نجحت به إلى حد بعيد.
2- إظهار عجز الحكومة/الدولة عن حماية مواطنيها وإثبات اليد العليا لمن نفذ الهجوم، وفي هذا السياق تأتي الردود الأمنية والعسكرية الحكومية، من تأمين المنطقة، إلى سرعة التحقيق وكشف الفاعلين، إلى الرسائل السريعة والخطاب الحازم من المسؤولين الحكوميين، إلى توقيف المشتبه بعلاقاتهم بالهجوم، وصولاً إلى قصف مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، لإظهار “قدرة الدولة” وفق تعبير داود أوغلو.
بيد أن دلالات وتداعيات التفجير الأخير تتخطى هذين السياقين إلى تأثيرات وانعكاسات مهمة على المدى البعيد، لعل أهمها:
أولاً، مرحلة جديدة من المواجهة عنوانها العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة بدأها العمال الكردستاني – أو على الأصح استأنفها بعد عدة سنوات من التوقف – منذ تفجير شباط/فبراير الماضي، وهي مرحلة متقدمة على “حرب المدن” التي بدأها الأخير في تموز/يوليو 2015 بعد سنوات من الهدنة في ظلال عملية التسوية بينه وبين الدولة التركية.
بيد أن التفجير الأخير حمل أيضاً متغيراً عن الهجوم الذي سبقه وهو استهداف المدنيين وتقصُّدُ إزهاق أكبر عدد ممكن من الأرواح، عبر 300 كلغ من المتفجرات، واستهداف ميدان العاصمة المركزي وشارعه الرئيس في مساء يوم إجازة وفي نقطة التقاء موقف الحافلات مع مخرج “المترو”.
ولعل إعلان وزير الداخلية التركي أفقان آلا عن إحباط عشرات العمليات الانتحارية قبل تنفيذها يشير إلى قرار واضح للحزب – والمنظمات المرتبطة به – بالاستمرار في هذا النهج، وهذا يعني أن علينا أن نتوقع هجمات جديدة، وإن كنا لا نتمناها.
ثانياً، تفعيل المنظمات اليسارية. حيث تواجه الحكومة التركية منذ أشهر طويلة مجموعة من المنظمات المصنفة إرهابية من قبلها، وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة – داعش وجبهة حزب التحرير الشعبي الثوري. بيد أن الأيام القليلة الماضية حملت متغيرين مهمين على هذا الصعيد:
أولهما الإعلان عن تشكيل ما سمي بـ”حركة الثورة المتحدة للشعوب” من عدة فصائل يسارية مسلحة، في مقدمتها حزب العمال الكردستاني، والحزب الشيوعي الماركسي – اللينيني، والحزب الشيوعي التركي – الماركسي اللينيني، وتنسيقية الثوار البروليتاريين وغيرهم، لمواجهة ما أسموه نظام التسلط للجمهورية التركية وحزب العدالة والتنمية “الفاشي”.
ثانيهما، إعلان منظمة “صقور حرية كردستان” اليسارية الراديكالية المسلحة مسؤوليتها عن الهجوم، بعد أن كانت قد أعلنت مسؤوليتها أيضاً عن سابقه وعن هجوم صاروخي على مطار صبيحة جوكتشان في إسطنبول في كانون الأول/ديمسبر 2015، بعد سنوات طويلة من غيابها عن الفعل حيث كانت آخر عملية معلنة لها عام 2011 (!).
إن هذا التفعيل لمنظمات يسارية راديكالية هامشية بعد سنوات من الخمول والغياب، وتجمعها مع بعضها البعض تحت أطر جامعة في مواجهة تركيا وحزبها الحاكم اليوم، في ظل الأزمة التركية – الروسية يثير علامات استفهام كبيرة حول الدور الروسي في تفعيلها وتوجيهها ضد أنقرة، كما يوحي بمزيد من الأسئلة عن مستقبل هذه المواجهة في ظل استمرار (أو تراجع) الأزمة بين البلدين.
ثالثاً، أسئلة المنظومة الأمنية. فثلاثة تفجيرات كبيرة خلال خمسة أشهر تكلفة باهظة قد تكون لها فاتورتها التي على القيادات الأمنية – وربما السياسية – دفعها. وقد حصل ذلك فعلاً إثر التفجير السابق حيث أعفي عدد من القيادات الأمنية – وفي مقدمتهم مدير أمن العاصمة – من مناصبهم للتحقيق في أي إهمال أو تقصير (أو تواطؤ؟) أمني. بيد أنه من غير المتوقع حدوث تغييرات كبيرة وسريعة في المدى القريب، أولاً لنجاح أجهزة الأمن في إحباط عدد كبير من العمليات، وثانياً لعدم إظهار الحكومة وأجهزتها الأمنية بمظهر العاجز والخاسر (أحد أهداف التفجير الإرهابي).
رابعاً، الحاضنة الشعبية لحزب العمال الكردستاني، التي يبدو أن دعمها له في ظل موجة التصعيد الأخيرة منذ تموز/يوليو الفائت قد تراجع بشكل ملفت، إذ لا يجد طيف واسع من الأكراد مسوغاً أو مشروعية لحرب الشوارع التي يخوضها الحزب بعد سنوات الهدوء والتنمية في ظل عملية التسوية السياسية ومع حكومة لا تتنكر لحقوقهم. بيد أن الحزب يراهن على استدامة العنف وزيادة عدد القتلى وكمية الدم المسفوح لجرهم للمواجهة جراً. ولعل قيام فتاة جامعية بالعملية الانتحارية الأخيرة – وقد ساعدها شابان آخران – مؤشر مهم لا ينبغي إهماله في هذا السياق.
خامساً، الملف الكردي في تركيا. إذ من المتوقع أن يدفع الهجوم الحكومة إلى مزيد من التشدد في مواجهة حزب الشعوب الديمقراطي (يعتبر الذراع السياسية للعمال الكردستاني) الذي فشل في التخلص من سيطرة القيادات العسكرية، وبالتالي تفعيل وتسريع ملف نزع الحصانة البرلمانية عن بعض نوابه للتحقيق معهم، بشكل منفرد أو مع برلمانيين آخرين. وهي خطوة – بغض النظر عن مدى أحقيتها ومشروعيتها – ستغذي سردية الاستهداف والمظلومية الكردية أكثر فأكثر.
هكذا، يبدو هجوم أنقرة الأخير تطوراً يحمل انعكاسات ذات طابع استراتيجي على تركيا خاصة فيما يتعلق بملفها أكرادها، وهو ملف غير بعيد عن تطورات الأزمة السورية وإعلان حزب الاتحاد الديمقراطي (الامتداد السوري للكردستاني) عن “فيدرالية” في شمال سوريا، وهو ما يعني أن تركيا تسير في حقل ألغام شديد الوعورة.
وعليه، فإن فلسفة المواجهة ينبغي ألا تقتصر على الحل الأمني – العسكري بحال من الأحوال، بل لا بد من منظومة متكاملة، لا تغفل أي بعد من أبعاد المشكلة، وفي مقدمتها السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي والإعلامي.
على صانع القرار التركي أن يفرض الأمن والنظام في البلاد، لكن عليه أيضاً أن يدير الملف بروية وحكمة، بعيداً عن الانجرار وراء الاستفزاز والرغبة في الرد والحزم. إذ يبدو أن استراتيجية حزب العمال تعمل على زيادة عداد الدم، وخطة الشعوب الديمقراطي تستهدف العودة للحظر والعمل السري، لجر الشباب الكردي إلى الشارع مرة أخرى، في مواجهة تعيد تفعيل مطالب الإدارة الذاتية والحكم الذاتي – وليس المواطنة المتساوية – اقتداءً بنظرائهم في العراق وسوريا.
وعليه، فإن استراتيجية المواجهة ينبغي أن تعمل على دحض هذه السردية، وتجفيف الموارد البشرية لهذه المنظمات، من خلال التواصل المباشر مع الشعب، والإسراع بإعادة الإعمار والتنمية في مناطق الجنوب الشرقي، وتفعيل الإصلاحات الدستورية والقانونية مرة أخرى، وفتح المجال أمام عملية التسوية من جديد كأفق وحيد لإغلاق المشكلة الكردية في تركيا، وهي خطوات تحتاج تضحية “الأم” كما تحتاج حزم “الأب” سواء بسواء، أي معادلة الأمن والحريات التي يصعب الحفاظ على توازنها وفق المعطيات الحالية والتطورات المتسارعة، لكن تركيا لا تملك طريقاً أخرى للحل، ولا تملك للأسف رفاهية الانتظار وخسارة الوقت.