التحول للنظام الرئاسي في تركيا: تحديات وسيناريوهات
الجزيرة نت
بعد تمهل لعدة أيام، صادق الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على مشروع التعديلات الدستوري للتحول إلى النظام الرئاسي، وأعلنت الحكومة ثم اللجنة العليا للانتخابات عن إجراء الاستفتاء الشعبي عليه في 16 نيسان/أبريل القادم.
بين التأييد والرفض
نادى كل من نجم الدين أربكان وتورغوت أوزال من قبل بالنظام الرئاسي، لكن العدالة والتنمية كان أول من طرحه بشكل عملي على طاولة النقاش ثم التفعيل.
يرى الحزب في النظام الرئاسي حلاً للمشاكل البنيوية التي يعاني منها دستور 1982 المطبق حتى الآن في تركيا، وتسريعاً لآلية اتخاذ القرار، وانعتاقاً من الائتلافات الحكومية سيئة السمعة في تاريخ البلاد، وخروجاً من ازدواجية السلطة التنفيذية التي تبدو حالياً برأسين، فضلاً عن الصفة الأبرز للنظام الرئاسي أي الاستقرار السياسي.
فالنظام الرئاسي يغني عن الائتلافات الحكومية الضعيفة بالعادة والمتأزمة دائماً في تركيا وينتج حكومات قوية ومتجانسة ومستقرة بغض النظر عن تركيبة البرلمان، كما أنه سينقذ البلاد من تقاطع صلاحيات المؤسسات المختلفة الذي أدى سابقاً إلى خلافات كبيرة بين منصبي الرئاسة ورئاسة الوزراء منذ تسعينات القرن الماضي أسفر أحدها عن أزمة سياسية وإفلاس اقتصادي ولم يسلم منها ثنائي مثل اردوغان وداود أوغلو المتفقين في المشروع والخلفية الفكرية ومعظم السياسات.
ويرى مؤيدو المشروع أن النظام الرئاسي ضرورة لبلد مثل تركيا تجربته الديمقراطية ما زالت في منتصف الطريق ويمتاز مشهده السياسي والفكري باصطفافات واضحة ويعاني منذ عشرات السنين من ضعف الحكومات وانهيار الائتلافات وتسلط نظم الوصاية. كما يعتبرون أن الفصل بين الحكومة والبرلمان في النظام الرئاسي يقوّي وظيفتي البرلمان التشريعية والرقابية بعد تحرره من الاعتبارات الحزبية وضغوط الحكومة.
بالإضافة لذلك يرى العدالة والتنمية أن المرحلة المقبلة تحتاج تركيا سريعة في اتخاذ القرار وحازمة في تطبيقه بما يتواءم مع متطلبات مشروع “تركيا الجديدة” الذي يعمل الحزب عليه ليتم شروطه وأركانه مع مئوية تأسيس الجمهورية في 2023 سيما في شق الإصلاحات الاقتصادية، وهو مشروع يراه الكثيرون تأسيساً للجمهورية الثانية.
من جهته، يرى حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة أن النظام الرئاسي في صيغته المقرة من البرلمان يجمّع صلاحيات واسعة في يد شخص واحد هو الرئيس، مثل إعلان حالة الطوارئ وإبرام الاتفاقات الدولية وإصدار مراسيم تشريعية. ويقول إن ذلك يمهد الطريق لما أسماه “الدكتاتورية الديمقراطية” أي التفرد في القرار والتغول على باقي المؤسسات، وبالتالي فهو يرى الحل في ترسيخ النظام البرلماني ومعالجة ثغراته الحالية وإعادة الرئيس لمنصبه الفخري وصلاحياته الرمزية.
ينتقد الشعب الجمهوري منح الرئيس حق تعيين ما يقرب من نصف أعضاء كل من المحكمة الدستورية ومحكمة النقض ومجلس الدولة والهيئة العليا للقضاة، وهو ما اعتبره تسييساً للقضاء وتدخلاً في عمله، كما ينتقد صعوبة محاسبة الرئيس بسبب هذه التعيينات ونسبة النواب المطلوبين لفتح التحقيق معه ثم محاكمته وهي نصف أعضاء البرلمان ثم ثلثيه على التوالي.
ومما يأخذه المعارضون على مشروع النظام الرئاسي ما يعتبرونه إضعافاً لعمل البرلمان، بحيث لم يشترط حصول الحكومة على ثقة البرلمان، ولا يعطي الأخير حق سحب الثقة منها أو من أي من الوزراء فضلاً عن أن متابعته لعمل الوزراء تأتي عن طريق الأسئلة المكتوبة وليس الاستجواب الشفهي.
العوامل المؤثرة في التصويت
يشكل شريكا المشروع أي حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية حوالي %60 من أعضاء البرلمان الحالي، لكن مسار الاستفتاء أعقد من هذه العملية الحسابية المبسطة بكثير ويعتمد على الخريطة الفكرية والمجتمعية والاقتصادية للشعب التركي وليس مجرد التوزع الحزبي في البرلمان، كما يتأثر بعدة عوامل أخرى.
سيبني حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية حملتيهما الانتخابية على فكرة أن النظام الرئاسي يمنح قوة واستقراراً لتركيا، ولذلك فإن شعار الحزب الحاكم سيكون “نعم، من أجل تركيا قوية”. بينما ستحاول المعارضة أن تقنع الناخب بأن التعديل الدستوري يكرس التفرد والسلطوية ويعرض الديمقراطية في البلاد للخطر.
تظهر معظم استطلاعات الرأي المجراة حتى الآن تقدماً طفيفاً للمؤيدين للمشروع على معارضيه بنسبة تتراوح بين %50-55 وتصاعداً مضطرداً في نسبتهم، لكن بعد المسافة الزمنية حتى موعد الاستفتاء وعدم بدء الحملات الانتخابية وبالتالي النقاش المجتمعي حتى الآن إضافة لاختلاف ديناميات الاستفتاء عن الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية يدفعنا لتحليل العوامل المؤثرة في رأي الناخب أكثر من نتائج الاستطلاعات المرشحة للتغير مع الوقت.
ثمة استقطاب سياسي ومجتمعي بخصوص النظام الدستوري فرض نفسه بين اليمين المحافظ والقومي من جهة واليسار العلماني والكردي من جهة أخرى، رغم وجود نسبة تتراوح بين 10-30% في كل حزب لن تلتزم بقرار حزبها المعلن. وفي ظل هذا الاستقطاب يبدو المعارضون أقل حماسة للحملة الانتخابية من المؤيدين، فضلاً عن انشغال حزب الشعوب الديمقراطي بمشاكله الداخلية وتوقيف قياداته رهن التحقيق وهو ما قد يدفعه إلى مقاطعة الاستفتاء أو على الأقل عدم الحشد له، الأمر الذي سيصب في مصلحة المؤيدين.
إعلان اردوغان بأنه “سيكون في الميادين” داعماً للحملة الانتخابية المؤيدة للتعديل سيكون له أثره بطبيعة الحال على الناخب، خصوصاً وان الأمر يتعلق بمشروع كان هو أول الداعين إليه والعاملين لإقراره إضافة لارتباطه به مباشرة باعتباره الرئيس الحالي وأهم المرشحين مستقبلاً. هذه المشاركة الفاعلة ستزيد من حدة الاصطفاف وستضيف لإصرار أنصار العدالة والتنمية على التأييد وأنصار المعارضة على الرفض، بينما لا يمكن توقع أثرها الإجمالي على النتيجة سيما وأنه سبق لاردوغان المشاركة الفاعلة قبل انتخابات حزيران/يونيو 2015 البرلمانية والتي تراجع فيها العدالة والتنمية إلى حدود %40 قبل أن تعاد الانتخابات.
كما لا يمكن إغفال أهمية الحالة الاقتصادية والأوضاع الأمنية خلال الحملات الانتخابية وقبيل الاستفتاء وتأثيرها بشكل كبير على رأي الناخب، وهو تفصيل لا يغيب عن صانع القرار بطبيعة الحال مما يضاعف من أهمية التدابير الأمنية والإجراءات الاقتصادية التي ستعتمدها الحكومة.
أخيراً، ستعتمد النتيجة إلى حد بعيد على قرار “المترددين” الذي تقدر نسبتهم بـ%15 والذين يشكل أنصار أحزاب يمينية مثل السعادة والاتحاد الكبير جزءاً مهماً منهم، حيث صدّرت هذه الأحزاب خطاباً يدعم فكرة النظام الرئاسي لكنه يتحفظ على بنود المشروع المطروح للتصويت، وهو ما يضاعف من أهمية الحملات الانتخابية وكيفية إقناع الناخب من قبل الطرفين.
سيناريوهات المستقبل
ليس من المبالغة القول إن تركيا على أبواب مرحلة جديدة تماماً في تاريخها الحديث بمجرد إجراء الاستفتاء وبغض النظر عن نتيجته.
قد يلجأ حزب الشعب الجمهوري للمحكمة الدستورية للطعن على مسار الاستفتاء متذرعاً بصلاحيات الرئيس الواسعة أو إجراء الاقتراع في ظل حالة الطوارئ، لكن ذلك لن يؤثر على موعد الاستفتاء في الغالب لعدم اختصاص المحكمة به، وبالتالي يمكن الحديث بأريحية عن تركيا ما بعد 16 نيسان/أبريل.
السيناريو الأوفر حظاً هو إقرار التعديل الدستوري في استفتاء 16 نيسان/أبريل وبالتالي تحول تركيا نحو النظام الرئاسي بعد عشرات السنين من البرلماني، وهذا مسار له فرصه وتحدياته.
لقد عرفت تركيا 65 حكومة منذ تأسيس الجمهورية قبل 93 عاماً مما يجعل متوسط عمر الحكومة 17 شهراً فقط، وهي صفحة عدم الاستقرار التي ستطويها البلاد مع النظام الرئاسي. فالحكومة التي سيشكلها الرئيس لا تحتاج لثقة البرلمان ولا يمكنه إسقاطها كما إنها ستكون متحررة من سطوة الأحزاب ومصير الائتلافات، وبالتالي فستكون أطول عمراً وأكثر مهنية وتخصصاً. كما أن الصلاحيات المعطاة للرئيس ستمنحه القدرة على بلورة رؤيته وتنفيذ سياساته مع سرعة اتخاذ القرار وتقليل التداخل بين السلطات.
سيناريو نجاح التعديل الدستوري يفرض فترة انتقالية تعنى بتشريعات “المواءمة” بين الأوضاع الحالية والمستقبلية، وهي تشريعات تتعلق بقوانين الانتخاب والأحزاب وصلاحيات الرئيس خلال الفترة الانتقالية، بحيث تصبح أكثر مناسبة للنظام الرئاسي وفلسفته وجوهره، قبل بدء تطبيقه بشكل كامل في 2019. كما أن انتقال النظام الرئاسي من النظرية للتطبيق سيفرز بعض الضرورات والثغرات والأخطاء التي ينبغي استدراكها وتصويبها لتصل للشكل الأمثل بما يضيف لرصيد التجربة.
في المقابل، فإن سيناريو فشل التعديل الدستوري في الحصول على %50 من أصوات الناخبين سيضع البلاد أمام أزمة دستورية وانسداد سياسي، حيث سيُعتبر ذلك فشلاً للحزب الحاكم والحكومة وستروّج المعارضة أنهما قد فقدا شرعيتهما. من جهة أخرى، لا تملك المعارضة للمشروع القوة البرلمانية لإقرار مشروع مضاد يعيد البلاد للنظام البرلماني الصرف والرئيس لمنصب فخري. وهذا يعني بقاء المشاكل البنيوية في الدستور التركي والتعارض بين مؤسساته، فيكون الحل هو انتخابات مبكرة لحسم الخلاف عبر الاحتكام للشعب مرة أخرى كما ألمح اردوغان ويلدرم مؤخراً، وهو امتحان مفتوح الخيارات ستمر به تركيا في ظلال الأزمة الاقتصادية والتحديات الأمنية وسيولة المشهد في الإقليم.
وفي كلتا الحالتين، أقِرَّ الاستفتاء الشعبي التعديل الدستوري أم رُفض، ثمة حاجة لتلمس مظاهر الاستقطاب السياسي والمجتمعي في البلاد والعمل على تخفيفها وعلاجها، كما أن أنقرة ستكون معرضة أكثر من أي وقت مضى للضغوط الخارجية سيما إن أقر الاستفتاء في ظل حالة الطوارئ وصعّدت المعارضة من خطابها.
في الخلاصة، ما بين تعديل دستوري سينقل البلاد لنظام سياسي مختلف تماماً وبين رفض سيدفعها نحو مجهول الانتخابات المبكرة، تمر تركيا فعلاً بانعطافة تاريخية هامة في تاريخها الحديث سيكون له ما بعده على مدى سنوات طويلة قادمة.