كتبت في أكثر من مقال سابق أن الانتخابات البرلمانية المقبلة لا تشكل تحدياً كبيراً لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 2002، إذ تشير الغالبية الساحقة من استطلاعات الرأي إلى قدرته على تشكيل حكومة بمفرده مرة أخرى. والحال كذلك، تبقى حسابات العدالة والتنمية محصورة في النسب والأرقام، بينما تبقى التحديات الحقيقية الماثلة أمامه أبعد من صندوق الانتخابات القادم.
تحدي الاستمرار والتجديد
يقول الإداريون أن المحافظة على النجاح أصعب بكثير من تحقيقه للمرة الأولى، والعدالة والتنمية يقود التجربة التركية منذ عام 2002، وخاض خلال هذه الفترة 9 منافسات انتخابية متتالية (عدا عن البرلمانية القادمة) ما بين رئاسية وبرلمانية ومحلية واستفتاءات شعبية فاز فيها جميعها. ولئن كانت تركيا يومها غارقة في الديون والفوضى والأزمات، ما أدى إلى بروز نتائج سياساته سريعاً وبشكل واضح، فإنها اليوم قوة إقليمية ذات نهضة اقتصادية بارزة، الأمر الذي يصعّب من إمكانية تحقيق الإنجازات بنفس الوتيرة السابقة. فالفترة الزمنية المطلوبة لرفع مستوى الدخل القومي ثلاثة أضعاف ستكون أطول بكثير من تلك المطلوبة لزيادة ضعف رابع في المستقبل القريب مثلاً.
تحدي نظم الوصاية
خاض الحزب التركي الحاكم معارك هادئة وصامتة وطويلة المدى مع نظم الوصاية في تركيا، ابتداءً بالعسكرية مروراً بالإعلامية وليس انتهاءً بالقضائية، لكن الإنجازات التركية في هذا المضمار لا تعني أن التجربة أصبحت حرة لا قيود عليها ولا توحي طبعاً بأن تركيا أضحت جزيرة الديمقراطية في المنطقة. إن منجزات العدالة والتنمية خلال الفترة الماضية كانت عبارة عن معارك جزئية متقطعة متباعدة، تحتاج الآن إلى خيط ناظم لها جميعاً، يحفظ لها نسقها ويعطيها ديمومة أبعد حتى من الحزب نفسه ونجاحاته بحيث يصبح من الصعب جداً النكوص عنها لاحقاً، وأعني تحديداً صياغة دستور مدني يحل محل دستور عام 1982 العسكري.
تحدي التشظي
تحمل السنوات الثلاثين الأخيرة بين طياتها نموذجين عن حزبين حاكمين اندثرا أو كادا بعد انتقال رئيس الحزب لرئاسة الجمهورية، وهما حزب الوطن الأم مع الرئيس الراحل تورغوت أوزال وحزب الطريق القويم مع الرئيس الأسبق سليمان دميريل. إن انتقال مؤسس الحزب وزعيمه اردوغان للقصر الرئاسي ليس حدثاً عرضياً في مسيرة العدالة والتنمية، كما أن حرمان 70 نائباً من الترشح للانتخابات المقبلة بسبب مادة “الفترات الثلاث” في نظام الحزب الداخلي مع الغموض الكبير بخصوص مستقبلهم، إضافة إلى الخلافات التي ظهرت مؤخراً بين بعض القيادات وفي مقدمتها الثنائي اردوغان – داود أوغلو، تطرح استفهامات وجيهة حول مدى تماسك الحزب في الفترة المقبلة وسط مناخ عاصف وفي ظل تاريخ سياسي تركي مليء بالانشطارات والانشقاقات، العدالة والتنمية نفسه أهم أمثلتها.
تحدي الحاضنة الشعبية ومطالبها
في مسعاه لتجنب مخاطر الحظر والإغلاق، سار العدالة والتنمية على مدى ثلاثة عشر عاماً وفق سياسة تحييد الخصوم وتطمين مختلف الأطراف والبعد عن الأدلجة، وقد قبل منه ناخبوه هذه السياسة باعتبار أنها فترة انتقالية لا يملك فيها القوة، ولا يستند فيها على قاعدة صلبة من الأنصار. لكن الفترة الأخيرة حملت الكثير من المتغيرات الداخلية والخارجية التي أظهرت مدى حاجة الحزب لهذه الحاضنة الشعبية التي يمكنها أن تلتف حوله وتدعم سياساته المستقبلية. بيد أن هذه الحاضنة باتت أقرب للتيار الإسلامي المحافظ وأبعد عن التنوع السابق، بما يعني أولأ أن نسب التصويت للحزب قد تتراجع، وثانياً أن هذه القاعدة الانتخابية ستحتاج إلى إنجازات أكبر لتقتنع بالتصويت له، جزء منها ذات طابع محافظ أو أيديولوجي أو هوياتي، وهو ما انعكس على قائمة مرشحي الحزب التي أصبحت أقل ليبرالية وأكثر محافظة. من ناحية أخرى، فالأجيال الجديدة التي لم تعايش الانقلابات العسكرية و/أو لم تشهد الأزمات السياسية والاقتصادية في فترة ما قبل العدالة والتنمية تبدو أقل أقل خشية على الحزب وتجربته من السلطة مقارنة بالجيل السابق، وقد انعكس ذلك مللاً ثم “تكاسلاً” في نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية حين اعتبرت النتيجة محسومة، وهو ما يدعم فكرة الحاجة لإنجازات إضافية أو تحديات جديدة.
تحدي تركيا القوية
وبناء على كل ما سبق واختصاراً له، يبدو أن التحدي الأكبر أمام اردوغان ورفاقه هو ما رفعوه شعاراً لهم، أي بناء تركيا القوية أو الكبيرة بحلول الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية عام 2023. وهو هدف دونه الكثير من الضغوط الخارجية والعديد من التحديات الداخلية، ويحتاج إلى استقرار سياسي صاغه الحزب بمطلب النظام الرئاسي، كما يتطلب مقومات اقتصادية ضخمة تتمثل مصادرها في “المشاريع المجنونة” التي يعمل عليها الحزب.
لستُ أدعي أن التجربة التركية أمام خطر وشيك، ولا أقول بأن النجاح أمام التحديات المذكورة مستحيلاً أو صعب المنال، لكنني أقول أن كل ما سبق يعني أن العدالة والتنمية يسير في حقل من الألغام وفق توازنات معقدة ومتداخلة، وأن المرحلة القادمة ليست أبداً أسهل من السابقة، رغم كل النجاحات التي حققتها تركيا حتى الآن في مختلف المجالات، إذ أن لكل مرحلة أهدافها وتحدياتها ومصاعبها وأعداؤها، التي لا ينفع إزاءها الارتكان إلى الإنجازات السابقة أو الحالية.