لم تكن اتهامات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان للولايات المتحدة الأمريكية بشن حرب على المنطقة من أجل السيطرة على النفط مجرد زلة لسان أو حدث عارض، بل هي تعبير عن دخول العلاقات الأمريكية – التركية مرحلة جديدة، تختلف عن علاقة التبعية التي صبغت فترة الحرب الباردة وعلاقة التحالف التي ميزت حكم العدالة والتنمية حتى فترة قريبة.
قاعدة متقدمة للناتو
ذلك أن تركيا، ومنذ أن دخلت حلف شمال الاطلسي بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تعتبر القاعدة المتقدمة للحلف وللولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، مستفيدة من أهميتها الجيواستراتيجية وموقعها الوسطي بين أوروبا وآسيا، وإطلالتها على الشرق الأوسط ودول البلقان وشرق آسيا، إضافة لكونها ممراً بحرياً مهماً في التجارة الدولية والحروب، وممراً بديلاً للنفط الروسي عبر خط جيهان – باكو.
وعلى مدى عشرات السنوات قدمت تركيا، التي تملك ثاني أكبر جيش في الحلف، للولايات المتحدة الأمريكية خدمات جليلة، على رأسها مشاركتها الفاعلة في حرب الخليج الثانية عام 1991، ثم موافقتها على تفعيل مادة الدفاع في الحلف والتي تلزم الأعضاء بمساعدةأي عضويتعرض لعدوان. وبناء على تفعيل هذه المادة، أتاحت تركيا للولايات المتحدة استخدام أراضيها ومجالها الجوي في الحرب على أفغانستان عام 2001، وكانت من الدول المشاركة في قوات “إيساف” وما زالت موجودة في أفغانستان حتى الآن في مهمات لوجستية غير حربية.
وفي مقابلهذه الخدمات التركية للحليف الأمريكي، فقد تعاملت واشنطن مع أنقرة على أنها أحد أهم شركائها في المنطقة، فحرصت على زيادة دورها في الإقليم، ودعمت ملف انضمامها للاتحاد الأوروبي ليس فقط مكافأة لها على ولائها ولكن أيضاً لمحاولة موازنة جناح ألمانيا – فرنسا في الحلف. من جهة أخرى، أبدت الولايات المتحدة اهتماماً ببعض الملفات الحساسة لتركيا، حيث تواترت تسريبات عن دور رئيس لاستخباراتها في عملية القبض على زعيم حزبالعمال الكردستانيعبدالله أوجلان عام 1999 وتسليمه لأنقرة، ثم أضافت الحزب على قائمة المنظمات الإرهابية عام 2004.
النموذج الحليف
يقول ستيفن لارابي، الخبير في مؤسسة راند للدراسات والأبحاث ومؤلف سلسلة كتبعن تركيا، إنانتهاء الحرب الباردة وتراجع “الخطر الأحمر”أشعر البعض بانحسار دور وأهمية تركيا في المنطقة، بينما دحضت التطورات اللاحقة وعلى رأسها أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وتعافي الدور الروسي وحروب الخليج المتعددة هذه النظريات ودفعت واشنطن إلى إعادة النظر في علاقات البلدين.
من ناحيتها فقد استشرفت تركيا مع حزب العدالة والتنمية ونظرياتأأحمد داود أوغلو التغيرات الإقليمية والدولية وحاولت استثمار اللحظة التاريخية، مستفيدة من نهضتها الاقتصادية التي زادت من قدرتها التنافسية في السياسة الخارجية، فاستهل الحزب حكمه بتقديم أوراق اعتماده لدى الإدارة الأمريكية – تحالفاً او تجنباً – كحزب خدمي غير أيديولوجي في الملفات الداخلية، وكنموذج يجمع بين الديمقراطية والإسلام في المنطقة، وربما كقوة توازن في مواجهة المشروع الإيراني.
بشكل مفاجئ، شاب العلاقة بين الطرفين الكثير من التوتر طيلة فترتي الرئيس بوش الابن، سيما مع رفض البرلمان التركي في آذار/مارس من عام 2003 السماح للقوات الأمريكية باستعمال أراضيه خلال حربه على العراق (رفضت مسودة القرار بفارق أربعة أصوات رغم ضغط الحكومة لتمريرها)، ثم تغاضي السياسات الأمريكية في العراق عن المصالح التركية خاصة دعمها الخفي لتطلعات الأكراد في الشمال نحو الحكم الذاتي والاستقلال، توَّجها مصادقة الكونغرس على قرار غير ملزم بتقسيم العراق إلى ثلاث كيانات.
لكن القفزة السياسية والاقتصادية التي حققتها تركيا واتجاهها نحو الشرق الأوسط والعالم العربي رفعا من أسهمها لدى إدارة الرئيس أوباما، الذي أعاد رفع شعار “النموذج التركي للإسلام المعتدل”، فاختار زيارتها في أول رحلة خارجية له وتعمد مخاطبة العالم الإسلامي من عاصمتها. ردت تركيا الجميل بقيامها بأدوار نشطة خصوصاً فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي حيث استضافت مفاوضات سورية – إسرائيلية غير مباشرة كادت أن تتوج باتفاق، لولا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في بداية عام 2009 والذي كان بداية أزمات متلاحقة ومتصاعدة بين حليفي واشنطن.
مرحلة جديدة
بيد أن شهر العسل بين البلدين لم يدم طويلاً، ففيما تلى من سنوات اتسعت الهوة بين موقفيهما إزاء العديد من القضايا، ابتداءً من التوتر مع إسرائيل، مروراً باستراتيجية حل الأزمة السورية، وليس انتهاءً بالموقف التركي من الانقلاب في مصر. ويبدو أن هذه النزعة نحو شيء من الاستقلالية في سياسة الحليف التركي الخارجية أزعجت واشنطن، الأمر الذي انعكس توتراً وضغطاً خفياً منها على أنقرة تمثل في:
- موافقة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي في الرابع من آذار/مارس عام 2010 على مشروع قرار اعتبر ما تعرض له الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى “إبادة جماعية”.
- مواقف سياسية وتغطيات إعلاميةحادة اللهجة نحو الحكومة التركية في أحداث حديقة “جزي” منتصف العام 2013.
- تهميش دور تركيا وإرهاصات استبدال إيران بها، بعد اتفاق الأخيرة مع دول (5 زائد 1)، والذي تبعه مؤتمر جنيف 2 لحل الأزمة السورية سياسياً.
- إصرار العديد من المنظمات الاقتصادية الدولية وعلى رأسها مؤسسة”فيتش” للتصنيف الائتماني على تصنيف متدن وغير منصف لتركيا، ولا يخفى نفوذ واشنطن في هذه المؤسسات.
- عدم تجاوب الإدارة الأمريكية حتى الآن مع المطالب التركية بتسليمها فتح الله كولن زعيم جماعة الخدمةالذي تتهمه تركيا بإنشاء “تنظيم مواز” حاول الانقلاب على الحكومة من خلال القضاء.
- خفوت الحماسة الأمريكية إزاء ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
في ظل هذه الأجواء، وبعد سنوات من الفصام بين الموقفين التركي والأمريكي بخصوص حل الأزمة السورية تحديداً، أعلن الرئيس الأمريكي بشكل شبه منفرد عن إنشاء تحالف دولي لمحاربة تنظيم الدولة. حضرت تركيا اجتماع جدة التنسيقي دون أن توقع على وثيقة الانضمام للحلف، الأمر الذي فسر على أنه إجراء احترازي لحماية أرواح الرهائن الأتراك في يد التنظيم.
ارتفع سقف الخطاب التركي إزاء التنظيم بعد تحرير الرهائن، لكن دون أن يقترن ذلك بإجراء ميداني ضده، في ظل الحرب الشرسة بينه وبين مجموعات الحماية الكردية في عين العرب/كوباني على الحدود التركية. ورغم الضغوط الدولية المتزايدة على أنقرة للتدخل في مواجهة التنظيم والضغط الكردي الداخلي على الحكومة للتدخل، لم تتجاوز الأخيرة خطوات الإعداد والترقب، مقدّمة بين يدي موافقتها المبدئية على الانخراط في الحرب البرية في سوريا ثلاثة شروط، هي المنطقة الآمنة على الحدود، حظر الطيران، وتدريب وتسليح فصائل من المعارضة السورية، وفق رؤيتها الداعية إلى حل شامل للأزمة السورية يشمل إسقاط النظام في دمشق.
ويمكننا أن نقرأ بين طيات التردد التركي تخوفاً من نوايا التحالف أو النتائج بعيدة المدى للتدخل العسكري في ظل تجارب أفغانستان والعراق الماثلة للعيان، إضافة إلى خشيتها من استفادة حزب العمال الكردستاني من دعم شقه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي، ومما يزيد من قلق أنقرة في هذا الإطار الإعلان عن وجود “فريق خبراء أمريكي” مع القوات الكردية في كوباني وتصريح مسؤول ألماني حول إمكانية تسليح حزب العمال لمواجهة داعش.
إلى أين؟
رغم التصريحات الدبلوماسية المتبادلة، إلا أن أجواء التوتر والتضارب في مواقف الطرفين لا تخفى على المراقبين، الأمر الذي قد يعني أننا إزاء حرب تدار تحت الطاولة لمحاولة حسم قضايا التفاوض بينهما حول التدخل التركي.
فقد ردت أنقرة بحدة على خبر لصحيفة نيويورك تايمز عن دعم الحكومة التركية “للإرهاب” أرفقته بصورة لاردوغان وداودأوغلو لدى خروجهما من أحد المساجد مدعية أنهما كانا في اجتماع تنسيقي مع قادة تنظيم الدولة. وبينما اضطر نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن لتقديم اعتذار واضح عن تصريحات نسبت له وجه فيها لأنقرة نفس التهمة، نفت الحكومة التركية صحة تصريحات رسمية أمريكية تحدثت عن موافقة أنقرة على استعمال الأخيرة لقواعدها الجوية في الحرب. كما لا يمكن تفسير فشل تركيا في الفوز بمقعد دولة غير دائمة العضوية في مجلس الأمن بفارق كبير عن إسبانيا (60 في مقابل 132 صوتاً) إلا كعقاب أو إنذار أمريكي بسب الاختلاف في الرؤى والمواقف.
من جهته، صعّد الرئيس التركي من حدة خطابه في نقد الولايات المتحدة متحدثاً عن خطط “الآخرين” للحرب في المنطقة، نافياً أن يكون الهدف من إنفاقهم مئات ملايين الدولارات على السلاح إحقاق السلام بل السيطرة على آبار النفط، “فيما يموت أبناؤنا وأشقاؤنا بقنابلهم وصواريخهم”، وتناغم معه رئيس الوزراء داود أوغلو الذي قال إن تركيا “لن تخوض حروباً بالنيابة عن أحد”، إضافة إلى عدة تصريحات صدرت عن عدد من المسؤولين الأتراك تدور حول فكرة أن “كوباني ما هي إلا ذريعة، بينما الهدف هو توريط تركيا”.