التحالف الدولي ضد داعش .. تركيا شريك أم هدف؟

منذ اليوم الأول الذي أعلن  فيه أوباما عن تشكيل تحالف دولي ليقضي على ما أسماه الإرهاب مستهدفاً تنظيم الدوية الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش)، تمايز موقف تركيا عن باقي الدول المشاركة فيه، العربية والغربية على السواء، ولها في ذلك أسباب كثيرة، بعضها واضح ومعلن وبعضها الآخر غامض ومسكوت عنه.

الملفت في الأمر أن الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية أبدت تفهماً كبيراً لموقف تركيا المتحفظ رغم حاجتهم الكبيرة والملحة (التي لم يتحرجوا في التعبير عنها علناً) لتركيا كعنصر رئيس في هذا التحالف.

تبدو هذه الأسباب المعلنة مقنعة جداً للحلفاء والمراقبين، وكافية لتفهم التحفظ الذي يغلف الموقف البتركي منذ اللحظة الأولى. ذلك أن حدوداً بطول مئات الكيلومترات مع كل من العراق وتركيا، مع الخطر المحيط بحياة 49 مواطناً تركياً محتجزين لدى داعش، ومخاطر مواجهة أعمال انتقامية في الداخل التركي، إضافة إلى كون تركيا الدولة المسلمة الحدودية الوحيدة في حلف الناتو – مع ما يحمل ذلك من إمكانات وجود تعاطف شعبي بدرجة أو بأخرى مع التنظيم- كافية لتقدم تركيا خطوة وتؤخر أخرى إزاء الحلف الوليد.

لكن هذه الأسباب – فيما يبدو – تشكل الجزء البدلوماسي المعلن عنه من هواجس تركيا ومخاوفها، بينما يبدو المسكوت عنه حتى الآن أهم وأخطر على المستوى الاستيراتيجي، وهو ما يمكن تلخيصه بعدة نقاط سريعة:

أولاً، إدراك تركيا لطبيعة الحلف والعملية التي ينوي البدء بها، وسيرورة الأحداث المحتملة وتطوراتها ومدتها الزمنية المفترضة، بما يدخل المنطقة في دوامة جديدة من الفعل وردود الفعل، تحت عنوان عريض هو عودة الولايات المتحدة العسكرية للمنطقة وفرض قواعد لعبة جديدة فيها.

ثانياً، توقع القيادة التركية أن تؤدي العمليات العسكرية الوشيكة إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين والسوريين نحو تركيا، تتراوح التقديرات بشأن عددهم من مليونين إلى أربعة ملايين إنسان، بكل ما يحمله ذلك من أعباء اقتصادية واجتماعية وسياسية، بل وأمنية.

ثالثاً، العواقب الاقتصادية الوخيمة للتدخل العسكري على تركيا نفسها، فقد بنت الأخيرة نهضتها الاقتصادية خلال 12 عاماً على ركيزة رئيسة هي “الاستقرار” في الداخل والخارج، فبنت جسور التعاون الاقتصادي والتلاقي الثقافي مستفيدة من موقعها المتوسط بين العالم العربي وأروبا ودول البلقان وفق نظرية تصفير المشاكل مع دول الجوار. بينما سيحول التحالف الدولي المنطقة التي تغلي بالأحداث إلى ساحة معركة متوسعة ومتدحرجة وبالتالي طاردة لأي استثمار أو رأس مال، مما سينعكس سلباً على تركيا وغيرها من دول المنطقة.

رابعاً، الحملة الإعلامية الشرسة ضد تركيا في وسائل إعلام أمريكية وعالمية معروفة التوجه، ومحاولة وصم تركيا بدعم “الإرهاب” وداعش تحديداً، واستعمال صور ملفقة وأخبار كاذبة وتقارير غير موضعية لذلك. ورغم أن الحملة قد تكون مجرد وسيلة ضغط لدفع تركيا نحو دور أكثر فعالية في التحالف (لنفي التهمة عن نفسها)، إلا أنها قد  تكون أيضاً مقدمة لاتهام تركيا لاحقاً وفرض خطوات لا تتفق مع مصالح أمنها القومي، سيما وأن الحملة العسكرية غير محددة الإطار الجغرافي أو الزمني أو العملياتي ومتروكة تماماً لتطورات الميدان.

 

إن حقائق الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك) التي جعلت من موقع تركيا المركزي نعمة لها طوال كل هذه السنوات التي كان عنوانها “صفر مشاكل”، هي نفس الحقائق التي تجعل اليوم هذا الموقع نقمة عليها تحمل الخطر الكبير بعد أن تحولت المنطقة إلى “صفر هدوء”.

وفي موازاة ذلك، فإن الحراك المتفجر في كل من العراق وسوريا، والعقوبات على روسيا، وظهور داعش، واتفاق إيران مع الغرب (دول 5+1)، والحملة الغربية على تركيا منذ أعوام بسبب جنوحها نحو شيء من الاستقلالية في سياساتها الخارجية، كلها عوامل تثير الهواجس لدى تركيا حول الأهداف الحقيقية للغرب من وراء هذا التحالف وسيناريوهات تطور الأحداث لاحقاً. يغذي هذه الهواجس أنها تأتي بعد سنوات من ظهور داعش، وبدون التطرق لوجود وشرعية النظام السوري، ومجيئها مباشرة بعد التغيرات التي طرأت على القيادة التركية إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

والأمر كذلك، تبدو تركيا  – على الأقل حتى الآن ووفق المعطيات الموجودة – خاسرة في كلا الحالتين، سواء شاركت في التحالف أو رفضت، وسواء كانت مشاركتها علنية وكبيرة أو سرية ورمزية، وهو ما يفسر غموض وتحفظ أنقرة حتى الآن إزاء حدث بهذه الضخامة والخطورة وانعكاساته المحتملة على مستقبل المنطقة ككل.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

تركيا وخارطة المنطقة الجديدة

المقالة التالية

الانقلاب والإخوان والصفقات .. محاولة للفهم

المنشورات ذات الصلة