البارزاني ودروس الاستفتاء المُرَّة
عربي 21
قد يختلف المراقبون في تقييم ساحات ودرجات الربح والخسارة بعد استفتاء كردستان العراق بالنسبة لبعض الأطراف ذات العلاقة مثل بغداد وأنقرة وطهران، لكنهم يتفقون على أن أول الخاسرين وأكبرهم هو رئيس الإقليم مسعود البارزاني.
فقد أصر الرجل على خطوة الاستفتاء أحادية الجانب دون التشاور مع حكومة بغداد المركزية ورغم الاعتراضات والتحذيرات التركية والإيرانية وبغض النظر عن التحفظات الدولية، حيث لم يكن يدعمه في تلك الخطوة علناً إلا الكيان الصهيوني.
كان تعويل الرجل – فيما ذهبتُ إليه من تقييم في مقالات سابقة – أن نسبة عالية من المشاركة في الاستفتاء ثم الموافقة على الانفصال ستقوي موقفه التفاوضي مع بغداد على شروط أفضل للإقليم جغرافياً ومالياً وغيرها من المجالات من جهة، وستكون ورقة في يده ويد الأكراد في أي مرحلة مستقبلية يرون فيها فرصة مؤاتية لتفعيل مسار الانفصال والاستقلال منجهة أخرى، وسيكون حينها البارزاني نفسه بطلاً قومياً سجل له التاريخ أنه قام بالخطوة الأولى على طريق الانفصال من جهة ثالثة. أكثر من ذلك، كان الاستفتاء سيمنحه فرصة للهروب إلى الأمام من الأزمات السياسية والاقتصادية والإدارية التي يعاني منها الإقليم والاستحقاقات الانتخابية المطلوبة، وكان ذلك سيرفع من شعبيته وفرصه في الانتخابات التي كانت ينوي إجراءها في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
كل ذلك يبدو اليوم هباءً منثوراً، بعد التحركات الميدانية التي قامت بها القوات الحكومية العراقية وقوات الحشد الشعبي للسيطرة على مختلف المناطق “المتنازع عليها”، أي التي لا ينص دستور 2005 على تبعيتها للإقليم ولكن الأخير يطالب بها أو يسيطر عليها بفعل الأمر الواقع على هامش المواجهة مع داعش، وفي القلب منها كركوك.
بعد إجراء الاستفتاء، وفيما بدا محاولة لنزع فتيل الأزمة والانحناء لعاصفة التهديدات المحلية والإقليمية وتجنب الحصار والمواجهة، عرض البارزاني على بغداد بدء عملية تفاوض ثم قدم مبادرة لـ”تجميد” نتيجة الاستفتاء، لكن ذلك لم يرض بغداد وأنقرة وطهران بطبيعة الحال، الذين طالبوا بإلغاء الاستفتاء تماماً والتفاوض بدونه وكأنه لم يتم.
في كشف حساب سريع، خسر البارزاني – ومعه الإقليم – ما يلي:
أولاً، مدينة كركوك بكل ما تعنيه من رمزية تاريخية وثقل اقتصادي.
ثانياً، مجمل المناطق المتنازع عليها.
ثالثاً، الكثير من مجالات السيادة ومقومات الانفصال والاستقلال، الآن أو قريباً، مثل المعابر والمطارات والقواعد العسكرية ومنشآت النفط والغاز الطبيعي وغيرها.
رابعاً، ثقة ودعم دولة صديقة وشبه حليفة كتركيا بعد سنوات من العلاقات أكثر من الجيدة والدعم على مختلف الصعد.
خامساً، الاستفتاء كورقة ضغط، بعد أو وضعت نتيجته على الرف وفقدت معناها وجدواها.
سادساً، تسيُّدَ المشهد الكردي في الإقليم بلا منافس حقيقي.
سابعاً، سمعته كسياسي مخضرم وقائد تاريخي، إذ ظهر كسياسي مغامر لم يحسب خطوة الاستفتاء وما بعدها بشكل دقيق وتسبب بخسارة كبيرة للمشروع الكردي.
ثامناً، جزءاً من شعبيته وفرصة تقديم إنجاز قبيل الانتخابات التي كان مزمعاً إجراؤها خلال الشهر القادم.
في محصلة المشهد وبناءً على كل هذه الخسائر التي لا يمكن التقليل منها، فنحن إزاء ثلاث نتائج رئيسة، هي الإعلان عن تنحي البارزاني عن قيادة الإقليم والذهاب للتفاوض – الآن أو لاحقاً – بدون أوراق القوة والضغط التي كانت في يده قبل الاستفتاء وتبخر أحلام الاستقلال أو حتى الكونفدرالية في المدى المنظور.
وبناء على كل ما سبق، ثمة دروس كثيرة ينبغي على البارزاني وأكراد الإقليم وأكراد المنطقة ومختلف الأطراف والقوى والتيارات والأحزاب استخلاصها والتعلم منها للمستقبل، أهمها ما يلي:
الأول، أهمية الحسابات الدقيقة قبل القرارات المصيرية، ووضع كل الخيارات وكافة التطورات المحتملة والسيناريوهات المستقبلية قيد الدراسة قبل اتخاذ القرار.
الثاني، إبعاد القرارات المصيرية المؤثرة في مستقبل دولة أو شعب أو مجتمع ما عن الحسابات الشخصية والفئوية والحزبية.
الثالث، أهمية الحفاظ على الأصدقاء والحلفاء في ظل التطورات المتلاحقة والمتسارعة والمتغيرة في المنطقة.
الرابع، خطأ المراهنة على الخارج في القرارات المصيرية المؤثرة في مصير الشعب والوطن والجوار، ولعلها من الدروس التاريخية التي كنا نؤكد عليها سابقاً والتي تكررت أهميتها.
الخامس، أن رغبة شعب ما أو طرف ما في الاستقلال والانفصال لا تكفي لتحقيق ذلك، حتى ولو كان هناك إجماع تام بنسبة %100 افتراضاً، فهناك عوامل أخرى مؤثرة في المسألة أهمها القدرات الذاتية والاكتفاء المالي والاقتصادي والتفاهم مع الطرف الآخر والغطاء الدولي وغيرها. بمعنى أن المشروعية لأي تحرك أو مسار سياسي لا تكفي لاتخاذ قرار بشأنه، فهناك حساب الظروف المحيطة والعوامل المساعِدة والمعيقة التي ستؤثر في مسار الأحداث وتحقيق النتائج، هو سؤال المآلات والنجاعة لا سؤال الحق والمشروعية إذن.
هذه استخلاصات على هامش الحدث والتطورات التي تلته، ويبقى هناك درس أهم منها كلها أن المنطقة لا تملك رفاهية الاستمرار في مسلسل التشتت والتشرذم والتقسيم وهو درس قديم جديد لا يبدو أن الكثيرين مقتنعون أو واعون به.
أخيراً، يبدو الإعلان عن نية البارزاني ترك منصبه وتوزيع صلاحياته مع الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وبغض النظر هل الأمر تضحية به ككبش فداء أو تحمل منه لمسؤولياته بعد كل ما حدث، فرصة محتملة للخروج من الأزمة والتفاوض مع بغداد على حقوق الإقليم وإعادة العلاقات مع تركيا وإيران لما كانت عليه وتجاوز أزمة الاستفتاء وتداعياتها.