الانتخابات المحلية التركية: النتائج والدلالات والانعكاسات
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
حملت نتائج انتخابات الإدارات المحلية (البلدية) في تركيا، التي أجريت في الواحد والثلاثين من آذار/مارس الفائت، عدة مفاجآت أضافت للأبعاد السياسية التي حُمّلت لها خلال الحملة الانتخابية وزادت من أهميتها.
أجريت هذه الانتخابات، الأولى بعد سريان تطبيق النظام الرئاسي العام الفائت، في ظلال أزمة اقتصادية ما زالت تركيا تحاول علاج تبعاتها، وتحت سقف تحالفات انتخابية ضمنية غير مقرة رسمياً بين مختلف الأحزاب، وبعد حملة انتخابية ساخنة حمّلتها أبعاداً أكبر من حجمها حيث عدَّتها المعارضة بداية نهاية حكم العدالة والتنمية بطرحها شعار “بعد آذار يأتي الربيع”، فيما اعتبرها الأخير معركة وجودية لبلده من خلال شعار “بقاء تركيا”.
ما كشفته النتائج الأولية، بانتظار إعلان اللجنة العليا للانتخابات عن النتائج الرسمية النهائية خلال أيام، من تراجع عدد البلديات التي فاز بها العدالة والتنمية وخسارته بلديتي أنقرة وإسطنبول أحدث جدلاً كبيراً داخل تركيا واستدعى عدة مواقف من خارجها ضاعفت من الحمولة السياسية للانتخابات.
تقدم هذه الورقة تحليلاً تفصيلياً للنتائج الأولية للانتخابات البلدية التركية، وتدرس أسبابها ودلالاتها، وتبحث في الانعكاسات المترتبة عليها، خصوصاً فيما يتعلق بالأحزاب السياسية الرئيسة ومنظومة التحالفات القائمة وحظوظ المعارضة في إثبات حضورها ومنافستها لحزب العدالة والتنمية في أحد أكثر القطاعات التي تميز بها وهي البلديات، وتأثيرات كل ذلك على مستقبل الطرفين في ظل تململ تيارات معارضة داخلها.
أهم النتائج
توجه 48 مليوناً و340 ألفاً و184 ناخباً من أصل 57 مليوناً و93 ألفاً و410 يحق لهم الاقتراع يوم الأحد الماضي للصناديق، لاختيار رؤساء بلديات المحافظات والمدن والبلديات الفرعية في المدن الكبرى ومجالسها البلدية، بنسبة مشاركة بلغت %84.67[1].
تصدر اللجنة العليا للانتخابات، المخولة دستورياً بإدارة العملية الانتخابية بكل مراحلها، النتائجَ النهائية الرسمية في فترة قد تصل إلى 12 يوماً من يوم الاقتراع، حيث تبحث في الطعون المقدمة لها من الاحزاب السياسية على ثلاث مراحل، لكن من غير المتوقع اختلافها كثيراً عن النتائج الأولية، باستثناء إسطنبول التي قد يفوز بها العدالة والتنمية مجدداً في حال قبلت طعونه بسبب الفارق البسيط نسبياً بين مرشحه ومرشح الشعب الجمهوري في المدينة، ولكنه احتمال ضعيف على أي حال.
حسب النتائج الأولية، تقدم حزب العدالة والتنمية الأحزاب الأخرى بنسبة تصويت بلغت %44.33 فائزاً ببلدية 39 مدينة، تبعه حزب الشعب الجمهوري بنسبة %30.12 وبلدية 21 مدينة، ثم حزب الحركة القومية بنسبة %7.31 و11 بلدية، فحزب الشعوب الديمقراطي بنسبة %4.24 وبلدية 8 مدن. كما حصل الحزب الشيوعي التركي على بلدية واحدة ومرشحٌ مستقل على أخرى، فيما لم يكسب حزبا السعادة والجيد بلدية أي مدينة مكتفيين ببعض البلديات الفرعية في المدن الكبرى.
الجدول رقم 1: نتائج الأحزاب الرئيسة في الانتخابات البلدية[2].
الحزب | نسبة التصويت % | بلديات المدن | البلديات الفرعية | ||
المدن الكبرى | المحافظات | المجموع | |||
العدالة والتنمية | 44.33 | 15 | 24 | 39 | 536 |
الشعب الجمهوري | 30.12 | 11 | 10 | 21 | 191 |
الجيد | 7.45 | 0 | 0 | 0 | 18 |
الحركة القومية | 7.31 | 1 | 10 | 11 | 145 |
الشعوب الديمقراطي | 4.24 | 3 | 5 | 10 | 50 |
السعادة | 2.71 | 0 | 0 | 0 | 9 |
جدول رقم 2: مقارنة نتائج الانتخابات البلدية مع سابقتها في 2014:
الحزب | تصويت 2014 | تصويت 2019 | بلديات 2014 | بلديات 2019 |
العدالة والتنمية | 45.5 | 44.33 | 50 | 39 |
الشعب الجمهوري | 29.5 | 30.12 | 13 | 21 |
الحركة القومية | 14.7 | 7.31 | 8 | 11 |
الشعوب الديمقراطي[3] | 3.5 | 4.24 | 10 | 8 |
الجدول من إعداد الباحث
حسابات الفوز والخسارة
بسبب قانون الانتخاب المتعلق بالانتخابات المحلية والذي يمنح الناخب صوتاً منفصلاً ومستقلاً لكل من بلديتي المدينة الكبرى والصغرى (الفرعية) والمجلس البلدي للأخيرة[4]، ليس هناك معيار واحد لتقييم أداء الأحزاب السياسية في الانتخابات الأخيرة. فهناك عدة مؤشرات لقياس تقدم الأحزاب وتراجعها، أهمها:
أولاً، نسبة التصويت لها والتي تشكل ثقل كل حزب في المجلس البلدي للبلديات الفرعية، وتعتبر مؤشراً على شعبية الحزب في الشارع التركي.
ثانياً، عدد بلديات المحافظات والمدن الكبرى التي يفوز بها الحزب من أصل 81.
ثالثاً، عدد البلديات الفرعية التي يفوز بها الحزب في المدن الكبرى، والتي تحدد ثقله ونسبة تمثيله في المجالس البلدية للمدن الكبرى.
رابعاً، البلديات ذات الأهمية الرمزية، وفي مقدمتها العاصمة أنقرة وإسطنبول التي تحوي حوالي خُمُس إجمالي الناخبين فضلاً عن ارتباطها الوثيق باردوغان وحزب العدالة والتنمية.
خامساً، إجمالي نسبة التصويت وعدد البلديات على مستوى التحالفات وليس فقط الحزب[5].
وفقاً لهذه الرؤية، لا يمكن القول بأن هناك فائز وخاسر بالمطلق في الانتخابات البلدية التي جرت، خصوصاً وأن هناك تمايزاً ملحوظاً بين نسبة التصويت للأحزاب وعدد البلديات التي فازت برئاستها.
وفي انتظار انتهاء المسار القانوني الذي تشرف عليه اللجنة العليا للانتخابات للبت في الطعون المقدمة لها، وبالنظر للجدولين السابقين، يمكن رصد الخلاصات التالية من نتائج الانتخابات:
1) في العموم، ثبتت نتائج الانتخابات ثقل الأحزاب المختلفة في الشارع التركي بالمقارنة مع انتخابات 2014، وكذلك رسخت حالة الاستقطاب بين المحورَين المتنافسين، تحالف الجمهور بقيادة العدالة والتنمية وتحالف الأمة بقيادة الشعب الجمهوري.
2) تقدمَ العدالة والتنمية باقي الأحزاب في المنافسة الانتخابية رقم 15 على التوالي منذ تأسيسه، وبفارق مريح عن أقرب منافسيه.
3) تراجعَ العدالة والتنمية بشكل ملحوظ من حيث عدد البلديات التي فاز بها، من 50 إلى 39 أي بنسبة تزيد على %20، رغم ثبات نسبة التصويت له، إضافة لخسارته بلديتي أنقرة وإسطنبول.
4) يمكن اعتبار حزب الشعب الجمهوري أكبر الفائزين، حيث رفع عدد بلديات المدن الكبرى والمحافظات التي يديرها من 13 إلى 21 رغم ثبات نسبة التصويت له.
5) عزز القوميون الأتراك حضورهم رغم انشقاق الحزب الجيد عن الحركة القومية، حيث رفع الأخير رصيده من 8 إلى 11 بلدية، في حين بقي مجموع تصويت الحزبين القوميين في مستوى نسبة الحركة القومية في 2014 قبل الانشقاق.
6) تراجع نصيب حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) من 10 إلى 8 بلديات في مناطق الأغلبية الكردية في الشرق والجنوب الشرقي رغم حفاظه على نفس نسبة التصويت تقريباً التي كان كسبها سلفه حزب السلام والديمقراطية في انتخابات 2014.
العدالة والتنمية: أسباب التراجع
رغم ثبات نسبة التصويت له وتقدمه على باقي الأحزاب بفارق كبير جداً، إلا أن خسارة حزب العدالة والتنمية وفق النتائج الأولية لـ12 بلدية من بينها أنقرة وإسطنبول تعني تراجعاً واضحاً له بالمقارنة مع انتخابات 2014. ورغم “خطاب الشرفة” التقليدي الذي ألقاه اردوغان وتحدث فيه عن انتصار حزبه وتقدمه، يبدو أنه يرى الانتخابات من زاوية التراجع كذلك من خلال الحديث عن فشل الحزب في كسب ثقة الناخبين في بعض المدن وأن الحزب سيعمل على إعادة كسبها في المرحلة المقبلة لكسب ثقته[6].
أهم أسباب تراجع العدالة والتنمية:
الأول، طول فترة حكم الحزب وما رافق ذلك من تحديات متعلقة بتراجع حجم الإنجاز مع الوقت، ورغبة الناخب بالتجديد، وارتفاع سقف التوقعات والمطالب من السلطات التنفيذية، وصعوبة إقناع فئة الشباب تحديداً، وما اعترى بنى الحزب من سلبيات دفعته لعملية تجديد في العامين الماضيين شملت عدداً كبيراً من رؤساء البلديات.
الثاني، الظروف الداخلية التي جرت في ظلها الانتخابات وخصوصاً الأزمة الاقتصادية التي ما زالت ارتداداتها السلبية على المواطن التركي مستمرة وتحولت لمادة الحجاج الرئيسة للحملة الانتخابية[7].
الثالث، الاستقطاب والتحالفات الانتخابية التي ترسخت أكثر في هذه الانتخابات، والتي يبدو أنها أفادت المعارضة أكثر من العدالة والتنمية، بحيث صبت أصوات ثلاثة أحزاب هي الشعب الجمهوري والجيد والشعوب الديمقراطي بشكل شبه كامل لصالح مرشحي الأول في المدن الكبرى، بينما تحالف العدالة والتنمية فقط مع الحركة القومية الذي كان تعرض لانشقاق أفقده نصف قاعدته التصويتية لصالح الحزب الجيد المنشق عنه.
الرابع، العامل الفردي/الشخصي للمرشحين وخصوصاً في أنقرة وإسطنبول حيث قدم الشعب الجمهوري مرشحاً قومياً في أنقرة وآخر محافظاً في إسطنبول لكسب أصوات إضافية في القوميين والمحافظين الذين يشكلون قاعدة العدالة والتنمية التصويتية، بينما كان مرشح الأخير في أنقرة محمد أوزحسكي غير مرضي عنه لأنه ليس “ابن المدينة” وإنما قادم إليها من مدينة قيصري.
الخامس، رسالة التحفظ التي قدمها طيف من أنصار العدالة والتنمية والناخبين الأتراك له، والتي قد تشمل الخطاب الحاد وخصوصاً خلال الحملة الانتخابية ووضعها في سياق “الخطر الوجودي” على البلاد، ومنظومة التحالفات، وبعض السياسات والقرارات مثل إبعاد عدد من قيادات الحزب السابقة وعملية التجديد في أطر الحزب القيادية وخصوصاً البلديات وطريقة إدارة الأزمة الاقتصادية والتعامل مع الوجود السوري في البلاد والذي تحول لمادة جدل انتخابي[8].
رغم ذلك، من المهم الإشارة إلى أن تراجع العدالة والتنمية نسبي ورمزي أكثر منه خسارة على المستويين الشعبي والواقعي. ليس فقط لأنه ما زال يملك الرئاسة وأغلبية والبرلمان مع حليفه الحركة القومية، ولكن أيضاً لأن نتائج الانتخابات البلدية أفقدته فقط رئاسة بعض البلديات الكبرى، بينما كررت فوزه بأغلبية البلديات الفرعية في المدن الكبرى ما يمنحه أغلبية مجالسها البلدية ويجعل رئيسها من الحزب المعارض غير قادر على إدارتها فعلياً دون التوافق مع العدالة والتنمية[9].
الدلالات والانعكاسات
تكتسب الانتخابات البلدية في تركيا أهمية أكبر من بلدان أخرى وتحظى بصلاحيات وموازنات واسعة فضلاً عن كونها مساحة الاحتكاك الأكبر بين الأحزاب السياسية والمواطن، ولطالما كانت بداية صعود أي حزب للأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة من فوزه في الانتخابات البلدية التي سبقتها[10].
كما أن للانتخابات البلدية أهمية إضافية بالنسبة للعدالة والتنمية بعدِّها أحد أهم المجالات التي عرّفت الناخب التركي عليه ثم أكسبته ثقته بعدما قدمه في البلديات من إنجازات على مدى سنين حكمه. كما أن عدداً من قيادات الصف الأول في الحزب كانت بداياته في البلديات، وفي مقدمتهم اردوغان نفسه الذي اكتسب شعبية كبيرة خلال ترؤسه بلدية إسطنبول الكبرى.
في السياق العام، ثبتَّت نتائج الانتخابات استقرار النظام السياسي والرئاسي في البلاد على عكس بعض التخوفات، أولاً باعتبارها انتخابات إدارات محلية لا تمس السلطتين التشريعية والتنفيذية بشكل مباشر وثانياً لفوز تحالف الجمهور الذي يضم العدالة والتنمية والحركة القومية بأغلبية أصوات الناخبين وبلديات المدن والمحافظات. أوصد ذلك البابَ أمام إعادة النقاش حول النظام الرئاسي أو أي مطالبات محتملة بانتخابات مبكرة كانت المعارضة ألمحت لها قبل الانتخابات، وهو ما يفسر ثبات سعر الليرة بعد إعلان النتائج من جهة وإصرار اردوغان على أن الانتخابات المقبلة ستجرى فقط في 2023 من جهة أخرى[11].
وحملت النتائج رسالة احتجاج واضحة من الناخبين على العدالة والتنمية وإن لم تصل حد التخلي عن الحزب، من خلال المفارقة الواضحة بين تراجع عدد البلديات التي كسبها وبين ثبات نسبة التصويت له وعدد البلديات الفرعية/الصغرى التي تحفظ له أغلبية المجالس البلدية في أنقرة وإسطنبول والمدن الكبرى.
في الدلالات كذلك، تحظى خسارة الحزب لإسطنبول وأنقرة بأهمية رمزية استثنائية، لكن دون ارتدادات سياسية كبيرة، حيث يمكن إرجاع ذلك إلى تماسك تحالف المعارضة ووضوح تأثيرات الأزمة الاقتصادية أكثر في المدينتين فضلاً عن العامل الشخصي للمرشحين.
ومما يقلل من تأثير النتائج على المشهد السياسي العام ثبات نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية بمفرده (%44) وبمجموع تحالفه مع الحركة القومية (%52) وكذلك نسبة تصويت الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة (%30)، ما يعني أن مزاج الناخب التركي لم يتغير بشكل جذري يمكنه قلب الخريطة الحزبية والسياسية للبلاد. فضلاً عن اختلاف الظروف السياسية والاقتصادية لتركيا اليوم عنها في بدايات العدالة والتنمية الذي انتقل سريعاً من البلديات نحو البرلمان والحكومة ثم الرئاسة.
لكن النتائج تحمل فرصة مهمة للمعارضة وخصوصاً الشعب الجمهوري للاحتكاك بالناخب التركي أكثر في البلديات الأهم والأكبر والأكثر تعداداً للسكان، مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير وغيرها. ما يمثل فرصة لها لتغيير الصورة النمطية عنها وتقديم صورة مختلفة، خصوصاً وأن الحزب حرص على تقديم خطاب ومرشحين أقرب لثقافة الشعب القومية – المحافظة لخطب وده[12].
الأهم أن الانتخابات تحمل دلالات وتأثيرات مباشرة على الديناميات الداخلية للأحزاب السياسية المختلفة التي شهدت في الفترة الأخيرة ظهور تيارات معارضة داخلها، وفي المقدمة منها الشعب الجمهوري والعدالة والتنمية.
تُبعد هذه النتائج حزب الشعب الجمهوري عن احتمالات الصراعات الداخلية وتثبت موقع رئيسه كمال كيليتشدار أوغلو وتقوي نفوذه، بعد أن كان منافسه المرشح السابق للرئاسة محرم إينجة قد أجل طلبه بمؤتمر استثنائي للحزب لتغيير رئيسه لما بعد هذه الانتخابات[13]. اليوم، وقد رفع الحزب بقيادة كيليتشدار أوغلو نصيبه من البلديات بأكثر من %50، واستعاد بلديتي أنقرة وإسطنبول بعد 25 سنة من غيابه عنهما، وحافظ على نسبة تصويته، وقوّى تحالفه مع الأحزاب الأخرى، سيكون أقوى بكثير في مواجهة المطالبات الداخلية بالتغيير بدعوى الفشل المتكرر بالانتخابات أمام العدالة والتنمية منذ استلامه رئاسة الحزب.
في المقابل، تراجع عدد بلديات حزب العدالة والتنمية وخسارته لأنقرة وغالباً إسطنبول ستفاقم تفاعلاته الداخلية، خصوصاً وأنه مدعو لمراجعة النتائج ودلالاتها ورسائلها لبلورة مساره المستقبلي. من المرجح أن يدعو الرئيس التركي لمؤتمر طارئ لحزبه للتدارس وسبل المعالجة التي سينشأ عنها متغيرات في بعض المواقع القيادية وربما شملت تعديلاً وزارياً قريباً. وسيكون من المهم متابعة مسارات التغيير ودرجتها في خطاب الحزب وسياساتها ومدى سريانها على منظومة تحالفاته كذلك، لكن الأكيد أن العدالة والتنمية سيحرص على تقديم معنى “التطوير والتجديد” بناء على رسائل الناخب في صندوق الاقتراع.
الأهم أن مؤشر التراجع النسبي للحزب في هذه الانتخابات قد يشجع بعض القيادات السابقة فيه بقيادة الرئيس السابق عبدالله غل لتسريع وتبكير تأسيس حزب سياسي جديد ينافس العدالة والتنمية، وهو المشروع الذي تخطى مرحلة التفكير المبدئي وينتظر موعد الإطلاق[14]. بيد، ثمة تحديان رئيسان يقفان أمام هذه الخطوة، الأول ثبات نسبة التصويت للعدالة والتنمية ما يعني عدم تراجع شعبيته واستمرار الالتفاف حول الحزب واردوغان، والثاني احتمال توجه اردوغان إيجاباً نحو بعض القيادات السابقة ما قد يقلل من فرص نجاح المشروع الجديد وبالتالي قد يؤجل و/أو يلغي إعلانه.
سياقات مماثلة تواجه أحزاباً سياسية أخرى، في مقدمتها السعادة والحزب الجيد اللذيْنِ فشلا بكسب بلدية أي من المدن أو المحافظات التركية واكتفيا بلعب دور المساندة لإنجاح مرشحي الشعب الجمهوري على حساب مرشحي العدالة والتنمية، الأول من خلال تقديم مرشحيه الخاصين والثاني من خلال التحالف المباشر مع الشعب الجمهوري. تفاعل نتائج الانتخابات ستكون أوفر حظاً لدى الحزب الجيد الذي لا تحظى رئيسه ميرال أكشنار بالإجماع على قيادتها[15]، في حين لن تكون لها تداعيات كبيرة على حزب السعادة الذي تحكمه منظومة أفكار أيديولوجية وقوانين أكثر انضباطاً.
الوجود السوري في تركيا، والذي تحول لمادة جدل خلال الحملة الانتخابية[16]، لم يكن عاملاً حاسماً في النتائج وإنما مجرد عامل مساهم ضمن عوامل أخرى أفقدت العدالة والتنمية بعض البلديات الفرعية مثل بلدية أسنيورد في إسطنبول التي شهدت احتقاناً ضد السوريين قبل أسابيع فقط من الانتخابات[17]. وليس من المرجح أن تؤدي النتائج إلى قرارات سلبية أو تبدل سياسات تركيا تجاههم، إلا برفع سوية ضبط وجودهم وتنظيمه وتأطيره بحيث لتقليل الاحتكاكات السلبية التي تحصل بين الحين والآخر بين الأتراك والسوريين وتجنب ارتداداتها.
أخيراً، ثمة دلالة واضحة للانتخابات الأخيرة أبعد من التوازنات السياسية والمنافسة الحزبية وتتعلق مباشرة بمستوى نضج التجربة الديمقراطية التركية. فقد أضافت الانتخابات ونتائجها وتعامل الأحزاب معها إلى رصيد تركيا وسمعتها على هذا الصعيد من خلال:
أولاً، إجراء انتخابات مجمع على نزاهتها وسيرها دون شوائب تذكر.
ثانياً، قبول جميع الأحزاب بالنتائج رغم الطعون المقدمة والمطالبات بإعادة الفرز والتي تتم تحت سقف المسار القانوني الذي تديره اللجنة العليا للانتخابات وليس خارجه. ومن مظاهر ذلك الخطاب المؤكد على احترام إرادة الناخب والخضوع لها وبُعد جميع الأطراف عن تسخين الشارع رغم التراشقات السياسية.
ثالثاً، الصورة التي قدمها العدالة والتنمية كحزب حاكم منذ 17 عاماً يكتفي بالتظلم لدى اللجنة العليا للانتخابات رغم ادعائه بحصول ما اعتبره تلاعباً[18].
رابعاً، ارتفاع مستوى التعددية والتنوع في رئاسة البلديات وتراجع هيمنة العدالة والتنمية عليها لا سيما المدن الكبرى منها.
خامساً، ستجبر الانتخابات التحالفَيْن المتواجهين وحزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري على وجه الخصوص على الحوار والتنسيق، أولاً على صعيد التنسيق بين الرئاسة والحكومة من جهة والبلديات الكبرى من جهة أخرى، وثانياً في إدارة البلديات الكبرى التي سيرأسها الشعب الجمهوري بينما يملك العدالة والتنمية أغلبية مجالسها البلدية ورئاسة بلدياتها الفرعية. ذلك أن إدامة المشاريع الكبرى المستمرة وإطلاق مشاريع جديدة وإقرار ميزانيات البلديات وغيرها الكثير لن تتم إلا بتوافق وتنسيق بين الرئيس ومجلسه البلدي، أي بين الشعب الجمهوري ومن خلفه تحالف الأمة والعدالة والتنمية ومن خلفه تحالف الجمهور، وهو تحد كبير في البدايات لكنه سيساهم على المديين المتوسط والبعيد في تخفيف الاحتقان وخفض حدة الاستقطاب وفتح قنوات الحوار والتواصل ثم التعاون والتنسيق بين الطرفين.
خاتمة
أجريت انتخابات الإدارات المحلية أو البلدية التركية في ظل سياقات سياسية واقتصادية، في مقدمتها الأزمة الاقتصادية وحالة الاستقطاب والتحالفات الانتخابية القائمة، حمّلتها دلالات سياسية أكثر بكثير من سابقاتها وصلت لحد اعتبارها معركة وجودية بالنسبة للبلاد ومستقبلها وأمنها القومي، وهو الجدل الرئيس – إضافة للأوضاع الاقتصادية – في الحملة الانتخابية التي شهدت خطاباً حاداً وتراشقات عالية السقف كالعادة.
ولئن أسفرت النتائج الأولية عن فوز العدالة والتنمية بفارق مريح عن منافسيه للمرة الخامسة عشرة على التوالي منذ تأسيسه عام 2001، وبغض النظر عن إمكانية تبدل نتيجة بلدية إسطنبول الكبرى نظرياً على الأقل وإن كانت فرص ذلك ضعيفة جداً، إلا أنه كان فوزاً بطعم الخسارة بسبب فقدانه لعدد مهم من بلديات المحافظات والمدن في مقدمتها أنقرة وإسطنبول.
بالنظر لهذه النتائج، ومع فوز العدالة والتنمية بأغلبية البلديات الفرعية في المدن الكبرى ما يعني استئثاره بأغلبية المجالس البلدية للأخيرة، يمكن القول بأن الناخب التركي قد وجه رسالة تحذير للعدالة والتنمية ورئيسه اردوغان ولكن لم يدر لهما ظهره بالكلية. أي أنه يريد تغييراً وتعديلاً في الخطاب والممارسة وربما أمور أخرى أكثر مما يريد استبدال الحزب ورئيسه، وهو ملمح يحيل إلى وعي المواطن وذكائه في استخدام صوته الانتخابي بشكل متمايز في مختلف المناصب المطلوب اختيارها، ما يجعل رسالته واضحة تفاعَلَ معها الساسة الأتراك وفي مقدمتهم اردوغان مباشرة وفي العلن.
النتائج الأولية وتثبيتها لحالة الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد تتيح أمام اردوغان والعدالة والتنمية فرصة التعديل والتطوير من جهة والعمل على التعافي من الأزمة الاقتصادية بتطبيق الخطة متوسطة الأمد التي أعلنتها الحكومة لإصلاح المشاكل البنيوية في الاقتصاد التركي[19]، مستفيدين من جو الاستقرار وتراجع حدة الاستقطاب حتى الانتخابات المقبلة في 2023. خصوصاً وأنه لا تأثيرات مباشرة للانتخابات ونتائجها على الاقتصاد، فالبلديات لا تشرع وتقر السياسات الاقتصادية ولا تقوم على تنفيذها ومتابعتها، وبالتالي فهي غير مسؤولة عن الواقع الاقتصادي بشكل مباشر ولا ينتظر منها تعديله سلباً أو إيجاباً إلا عبر معنى الاستقرار الذي نتج عن نتائجها في المقام الأول.
من جهة أخرى، منحت النتائج المعارضة وخصوصاً حزبَ الشعب الجمهوري فرصة غير مسبوقة لتغيير الصورة التقليدية عنه فكراً وممارسة وتقديم نموذج إدارة في البلديات يمكن أن يزيد من رصيده لدى الناخب التركي تمهيداً لانتخابات الرئاسة والبرلمان بعد أكثر من أربع سنوات. ستكون هذه فرصة ذهبية للشعب الجمهوري ليغير صورة “الهزائم المتكررة” أمام العدالة والتنمية إذا ما أدار البلديات بشكل ناجح ومتصالح مع ثقافة الشعب، بينما قد تكون الفرصة الأولى والأخيرة إذا ما فشل في ذلك أو أخفق في كسب ثقة المواطنين من بوابة البلديات التي تعتبر الأهم بالنسبة للمواطن لملامستها حياته اليومية وكذلك بحسبها بصمة خصمه العدالة والتنمية وميزته التنافسية أمام الأحزاب الأخرى.
وفي كل الأحوال، فإن فترة السنوات الأربع المقبلة حتى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزمنة صيف 2023 ستكون فرصة لمختلف الأطراف للتعديل والتطوير والتجاوب مع رسائل الناخب لمحاولة كسب وده فيها، وهو مكسب كبير له يفوق مكاسب مختلف الأحزاب في هذه الانتخابات.
[1] نتائج انتخابات الإدارات المحلية، موقع أخبار الانتخابات (بالتركية)، 1 نيسان/أبريل 2019، ( تاريخ الدخول: 7 نيسان/أبريل 2019):
[2] المصدر السابق.
[3] لم يخض حزب الشعوب الديمقراطي الانتخابات البلدية عام 2014 رغم أنه أسس قبل ذلك بعام. خاضت الحركة الكردية اليسارية تلك الانتخابات عبر حزب السلام والديمقراطية الذي انضم لاحقاً تحت راية حزب الشعوب الديمقراطي المؤسَّس عام 2013.
[4] تقسم تركيا إدراياً إلى 81 محافظة 30 منها تعتبر “مدينة كبرى”. في المحافظات الـ51 يختار الناخبون رئيس بلدية المحافظة، فيما يختارون في المدن الكبرى الـ30 رئيس بلدية المدينة الكبرى ورؤساء بلديات أحيائها وضواحيها، ما يمكن تسميتها بالبلديات الفرعية أو الصغيرة.
[5] على عكس الانتخابات البرلمانية السابقة، لم يسن تشريع يسمح بالتحالفات الانتخابية الرسمية في البلديات، لكن الأحزاب المنضوية تحت التحالفين السابقين نسقت فيما بينها بشكل معلن ولكن غير رسمي عن طريق عدم تقديم مرشحين بشكل متبادل في بعض البلديات.
[6] Turkey has completed the March 31 elections with decmocratic maturity, Turkish Presidency site, 31 March 2019, (Entrance Date: 7 April 2019):
[7] كيف أثر الوضع الاقتصادي على نتائج الانتخابات في تركيا، الجزيرة نت، 1 نيسان/أبريل 2019، (تاريخ الدخول: 7 نيسان/أبريل 2019):
[8] الحاج، سعيد، السوريون في قلب الانتخابات التركية مجدداً، عربي 21، 19 آذار/مارس 2019، (تاريخ الدخول: 7 نيسان/أبريل 2019):
[9] يتكون المجلس البلدي للمدن الكبرى من ممثلي الأحزاب السياسية بنفس نسب فوزها بالبلديات الفرعية للمدينة الكبرى.
[10] الرنتيسي، محمود، الانتخابات البلدية التركية: تداعيات تتخطى المحلي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 10 آذار/مارس 2019، (تاريخ الدخول: 8 نيسان/أبريل 2019):
[11] Erdogan’s Party Faces Election Setbackin Turkey, Wall Street Journal, 31 March 2019, (Entrance Date: 8 April 2019): https://on.wsj.com/2I4XVRT
[12] جمال، إسماعيل، 17 عاما من حكم اردوغان أجبرت المعارضة العلمانية الكمالية على استخدام «الخطاب المحافظ»، القدس العربي، 7 نيسان/أبريل 2019، (تاريخ الدخول: 8 نيسان/أبريل 2019):
[13] CHP’s İnce may roll up sleeves to re-challenge leadership after elections, Daily Sabah, 23 March 2019, (Entrance Date: 8 April 2019):
[14] الحاج، سعيد، غل – داود أوغلو وأحاديث تأسيس حزب جديد، عربي 21، 18 شباط/فبراير 2019، (تاريخ الدخول: 8 نيسان/أبريل 2019):
[15] الخلافات الداخلية ما زالت تعصف بالحزب: استقالات جديدة بين مؤسسي الجيد، ترك برس، 12 أيلول/سبتمبر 2019، (تاريخ الدخول: 8 نيسان/أبريل 2019): https://bit.ly/2Vut4kI
[16] السوريون ورقة انتخابية في برامج مرشحي البلديات التركية، عنب بلدي، 27 آذار/مارس 2019، (تاريخ الدخول: 8 نيسان/أبريل 2019): https://bit.ly/2KlQSq3