أخيراً، تشكلت في تركيا حكومة انتقالية تسير شؤون البلاد حتى انتخابات الإعادة، في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر كما قررت اللجنة العليا للانتخابات، على أمل أن تصوغ مشهداً سياسياً جديداً في البلاد يؤدي إلى الاستقرار بعد الفترة الانتقالية الحالية. لكن، هل الحل فعلاً في الانتخابات المبكرة؟ أم أنها قد تكون مجرد مستوى متقدم من المشكلة؟
الحكومة الانتقالية
بعد انقضاء المهلة الدستورية (45 يوماً) دون تشكيل حكومة ائتلافية، استخدم الرئيس التركي صلاحياته الدستورية بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة تسير شؤون البلاد حتى ذلك الحين. وتنص المادتان 114 و 116 من الدستور التركي على تشكيلها من الأحزاب الممثلة في البرلمان حسب نسب تمثيلها فيه، مع إبقاء وزارات العدل والداخلية والمواصلات بيد مستقلين.
بيد أن حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية أصرا على عدم المشاركة احتجاجاً، وهو ما دفع العدالة للبحث عن حلول يمكنه من خلالها دحض فكرة تشكيله حكومة ثنائية مع الشعوب الديمقراطي الذي يعتبر الذراع السياسية لحزب العمال الكردستاني في فترة يشن فيها الأخير هجمات مكثفة ضد الجيش والشرطة التركيين، وكان له ما أراد عبر إشراكه شخصيتين من رموز القوميين، وهما طوغرول توركيش ابن مؤسس حزب الحركة القومية، ويالتشين طوبتشو الرئيس السابق لحزب الاتحاد الكبير.
ولئن نصَّ الدستور على أنها حكومة تسيير أعمال بصلاحيات تنفيذية محدودة جداً، إلا أن الظروف التي تمر بها البلاد – سياسياً وأمنياً واقتصادياً – تضعها أمام ملفات حساسة، أهمها الإعداد للانتخابات والعملية العسكرية ضد العمال الكردستاني وإيقاف التدهور الاقتصادي. بينما تتهددها مخاطر الفشل والعجز في ظل الخلاف البيّن بين تيارها الأساسي (العدالة والتنمية وحلفائه من المستقلين) وشريكه السياسي الأكبر (الشعوب الديمقراطي) لا سيما في ملف “الإرهاب”.
معايير الانتخاب
لا شك أن عدم الاستقرار هو العنوان الأبرز للمرحلة الحالية في تركيا منذ انتخابات السابع من حزيران/يونيو الفائت التي خسر العدالة والتنمية فيها الأغلبية المطلقة، لكن ليس من المقطوع به أن تصوغ الانتخابات القادمة مشهداً سياسياً جديداً ومستقراً، فالعملية الانتخابية ليست محض حسابات رياضية أو عملية جامدة يمكن التنبؤ بها، بل هي عملية دينامية تتغير باستمرار وتخضع لمزاج ورأي الناخب يوم الاقتراع. ويبالتالي فنحن بحاجة إلى إلقاء نظرة سريعة على المعايير والعوامل التي سيكون لها تأثير بارز على رأيه آنذاك، وأهمها:
أولاً، الحالة الاقتصادية، التي تمس حياة المواطن اليومية وتساهم في تشكيل آرائه ومنها صوته الانتخابي، والتي تأثرت بوضوح خلال الفترة الانتقالية حيث وصلت الليرة التركية إلى مستويات قياسية في التراجع أمام الدولار واليورو. وهو تذبذب مرشح للاستمرار في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي، والإعتداءات المستمرة من العمال الكردستاني، إضافة للظروف الإقليمية والدولية وعلى رأسها محيط تركيا اللاهب، والأزمة اليونانية والأزمة الصينية المؤثرة في الاقتصاد العالمي وخاصة اقتصاد الدول النامية ومنها تركيا.
ثانياً، الحالة الأمنية التي دخلتها البلاد ما بعد الانتخابات الأخيرة، وعنوانها الأبرز العمليات شبه اليومية لحزب العمال الكردستاني وحملة الدولة المكثفة ضده. ولا شك أن قدرة الحكومة – المشكلة في غالبها من العدالة والتنمية – على فرض سيطرتها على هذا الملف سيكون في صالح الأخير، بينما سيخصم من رصيده إخفاقها أو ازدياد أعداد الضحايا، سيما المدنيين. كما سيكون لانخراط تركيا المتوقع في الحرب على تنظيم الدولة، بعد تجديد البرلمان تفويضه للجيش مؤخراً للقيام بعمليات عسكرية خارج الحدود والسماح بتموضع قوات أجنبية على الأراضي التركية، أثر ملحوظ على هذه الحالة الأمنية، سيما إذا ما شن التنظيم عمليات استباقية و/أو انتقامية على تركيا.
ثالثاً، إدارة الحملة الانتخابية، والرسالة التي ستقدمها الأحزاب المختلفة للمواطن في برامجها الانتخابية، كتعبير عن إذعانها لرسائله لها في الانتخابات الأخيرة، ولعل المعنيَّ الأول بهذا الأمر هو العدالة والتنمية، الذي عكف منذ اليوم الأول على دراسة تصريحاته ومواقفه وسياساته التي ساهمت في عزوف الناخبين عنه. من جهة أخرى من المتوقع أن يلعب الحزب الحاكم على وتر “الاستقرار” في البلاد والذي سيكون هو كحزب عنوانه (إذ غاب الاستقرار حين فقد أغلبيته) بينما ستعمد المعارضة إلى تحميل الحزب الحاكم مسؤولية عدم الاستقرار بل وتعمّد إذكائه، وستعتمد النتائج بذلك إلى حد كبير على مدى قدرة أي من الطرفين على إقناع الناخب بوجهة نظره.
النتائج المتوقعة
من بديهيات السياسة أن يسعى كل حزب لزيادة نصيبه من الأصوات والمقاعد النيابية في الانتخابات القادمة، وفي مقدمتهم العدالة والتنمية، الذي فقد أغلبيته وفرصة تشكيله للحكومة بمفرده لأول مرة بعد 13 عاماً من الحكم، وهو ما عرّض رؤيته ومشروعه “تركيا الجديدة” لشكوك ومهددات. ولذلك فهو يسعى بكامل قوته للعودة إلى تلك الأغلبية، سيما وأنه خسرها بفارق 18 مقعداً برلمانياً فقط، حتى إن المعارضة اتهمه بتعمد إفشال جهود تشكيل الحكومة الائتلافية لإعادة الانتخابات.
وقد عكف الحزب من اللحظة الأولى لإعلان النتائج على دراسة أسباب التراجع والعمل على تلافيها، وخصوصاً فيما يتعلق بالنظام الرئاسي وقوائم المرشحين والتواصل مع الجمهور، بينما أجل – فيما يبدو – الحديث عن عملية السلام مع الأكراد إلى ما بعد الانتخابات القادمة تحت ضغط الواقع الأمني الحالي. كما تسربت أنباء عن دراسته لفكرة التحالفات الانتخابية مع بعض الأحزاب اليمينية القريبة منه أيديولوجياً، مثل السعادة والاتحاد الكبير، للحصول على 90 ألف صوت التي كانت الفارق بينه وبين الأغلبية المطلقة في الجولة السابقة، وهي مغامرة سياسية قد تؤتي أكلها وقد تأتي بعكس ما هو مرجو منها بطبيعة الحال.
بيد أن التوقع بنتائج الانتخابات القادمة ليس أمراً سهلاً لعدة أسباب، أهمها حداثة التجربة الديمقراطية التركية، وبُعد نتائج شركات استطلاع الآراء عن توقع النتائج بنسبة مقبولة، وتقديمها لنتائج متفاوتة بسبب تسييس بعضها وعدم احترافية البعض الآخر، إضافة إلى طول الفترة الانتقالية نسبياً في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية المذكورة، وهو ما يعيدنا إلى قول الرئيس التركي الأسبق دميريل “24 ساعة فترة طويلة جداً في السياسة” فكيف بشهرين كاملين؟!.
تأمين الانتخابات
بيد أن التحدي الأكبر والجوهري أمام الانتخابات القادمة ليس نتائجها ولا تركيبة البرلمان المشكل بعدها، بل إمكانية إجرائها وفق معايير النزاهة المقبولة محلياً ودولياً.
ذلك أن أحد أهم شكاوى وادعاءات العدالة والتنمية بعد انتخابات السابع من حزيران/يونيو كانت الضغوط التي تعرض لها الناخبون جنوب شرقي البلاد من قبل مسلحي حزب العمال الكردستاني للتصويت بكثافة لحزب الشعوب الديمقراطي، وهو ما دلل عليه بالنتائج شبه الكاملة في معظم الصناديق الانتخابية، وغياب التصويت للأحزاب أخرى أو حتى إبطال الصوت سهواً أو عمداً.
كان ذلك في فترة الهدوء والرغبة في العمل السياسي تحت واجهة الشعوب الديمقراطي، فكيف ستكون الحال عليه في ظل العمليات العسكرية شبه اليومية بين الحكومة التركية وحزب العمال؟! ففي حين حذر نائب رئيس الوزراء والناطق باسم الحكومة الانتقالية نعمان كورتولموش من إجراء الانتخابات في ظل انتشار “رائحة البارود”، جزم الزعيم الكردي صلاح الدين دميرطاش بغياب الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات في الجنوب الشرقي، وهو ما يمكن اعتباره تحذيراً و/أو تهديداً مباشراً.
فالمخاوف إذن حقيقية من احتمال تعمد العمال الكردستاني إفشال العملية الانتخابية برمتها في المنطقة عبر وجوده العسكري والشعبي، بينما يتخوف الأكراد من الوجود المكثف في المقابل للجيش والدرك في المنطقة خلال الانتخابات وفق خطة الحكومة لتأمين عملية الاقتراع، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تأجيل الانتخابات كما يطالب بعض الأكراد وما سيترتب على ذلك من إطالة أمد الفترة الانتقالية بكل سلبياتها، أو قد يضع نزاهة الانتخابات محل شك – ولو نظرياً – لأول مرة في التاريخ السياسي الحديث لتركيا.
إن الحالة الأمنية والعسكرية السائدة اليوم، والتواجد العسكري المركز للعناصر الكردية المقاتلة من جهة وللقوى الأمنية التركية من جهة أخرى سيعطي صورة عن “اقتراع تحت ظلال البنادق”، ما لم يحسم الموقف بصفقة/تهدئة بين الطرفين قبل الانتخابات، وهو ما سيعطي الذريعة لأي طرف يريد التشكيك بنزاهة وحرية وشفافية الانتخابات، وهو أمر أخطر بكثير من حسابات النتائج وانعكاساتها.
فالتشكيك بالعملية الانتخابية ونفي نزاهتها سيفتح باباً قد لا يسهل غلقه بعد ذلك، من رفض البعض لشرعيتها وقبول نتائجها، وهو ما قد يدفع تركيا نحو المجهول ويصعّب من إمكانية إنهاء الفترة الانتقالية بكل ما فيها من ضبابية وعدم استقرار، كما سيزيد من مخاطر إعلان بعض المناطق الكردية إدارات ذاتية محلية كما حصل أكثر من مرة وفي أكثر من بلدة كردية خلال الفترة السابقة.
إن تطوراً كهذا يضيف بعداً آخر على حالة التعقيد الحالية بخصوص عملية السلام مع أكراد تركيا ومستقبل التجرية التركية برمتها ويعقّد إمكانية خروجها من عنق الزجاجة، وقد يفتح الباب لتدخلات خارجية لطالما استدعاها الأكراد كحَكَم أو “عين ثالثة” في القضية الكردية وعملية السلام الخاصة بها. وبالتالي، ستحمل المعركة الانتخابية القادمة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل كل تلك الخلفيات والأبعاد والدلالات، وستكون لمجرياتها ونتائجها آثار وانعكاسات مباشرة على مجمل المشهد السياسي التركي داخلياً وخارجياً، وربما على قضايا ودول المنطقة المختلفة، سيما سوريا والعراق.