الانتخابات المبكرة في تركيا: الدوافع والحسابات
الجزيرة نت
بعد سنة بالضبط من الاستفتاء الشعبي الذي أقر النظام الرئاسي في تركيا، أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة ستنظم تحديداً في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو القادم، أي قبل سنة وخمسة أشهر عن موعدها المقرر مسبقاً.
الطريق نحو الانتخابات
جاء إعلان اردوغان بعد لقاء قصير جمعه مع زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي الذي كان قد بادر للدعوة إلى تبكير الانتخابات، باعتباره شريكاً للحزب الحاكم ضمن ما أطلق عليه اسم “تحالف الشعب”.
وكانت تركيا قد اختارت تحويل نظام الحكم فيها من برلماني إلى رئاسي في تعديل دستوري أقر في نيسان/أبريل 2017 بنسبة %51.4، على أن تتم الانتخابات المحلية/البلدية في آذار/مارس 2019 والانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه.
فكرة الانتخابات المبكرة كانت حاضرة دائماً لدى حزب العدالة والتنمية، باعتبار أن الفترة الزمنية حتى نهاية 2019 طويلة جداً، ما يجعل البلاد عرضة لأي ضغوط أو اهتزازات تستهدف الملف الاقتصادي تحديداً. يرى الحزب أن الإشكال الدستوري ما زال قائماً على شكل تداخل “هجين” بين النظام البرلماني المستمر رسمياً والرئاسي المقر دستورياً والمطبّق فعلياً، ما يفرض التخلص من هذه الثنائية وتثبيت النظام الرئاسي في أسرع وقت ممكن.
دولت بهجلي الذي فتح الباب على إعادة نقاش النظام الرئاسي ثم إقراره كان هو نفسه الذي دعا للانتخابات المبكرة قبل إقرارها، وهو ما دعا الكثيرين للاعتقاد بأن الأمر متفق عليه مع الرئيس اردوغان، خصوصاً وأن اللقاء بين الرجلين لم يدم طويلاً وخرج منه القرار الحاسم بموعد للاقتراع أقرب من الذي اقترحه الأول.
دوافع وأسباب
يشكل التناقض الدستوري الأرضية التي بنيت عليها فكرة الانتخابات المبكرة، بحيث تخرج تركيا من الغموض وحالة عدم وضوح الرؤية، وتحسم الأمر بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية وبدء تطبيق النظام الرئاسي، ما يسمح باستقرار الأوضاع السياسية وينعكس إيجاباً على الاقتصاد.
ولكن يبقى تبكير الانتخابات الآن، بعد نفي ذلك مراراً، قراراً سياسياً له علاقة بحسابات الربح والخسارة في المقام الأول. فعملية غصن الزيتون في عفرين رفعت شعبية اردوغان وحزب العدالة والتنمية بشكل ملحوظ، حيث اعتبرت العملية نصراً قومياً كبيراً احتفى به الكل التركي، وهو على ما يبدو ما راهن عليه أيضاً حزب الحركة القومية. بهذا المعنى فتبكير الانتخابات يضمن عدم تقادم الانتصار وتراجع أهميته لدى الناخب التركي، وبالتالي ضرورة استثماره على الوجه الأمثل.
يُعرف اردوغان والعدالة والتنمية باعتمادهما على استطلاعات الرأي الدقيقة والتي يبدو أنها قدمت لهما نتائج مطمئنة، أو على الأقل أفضل من توقعات الموعد السابق للانتخابات المصيرية المختلفة عن كل سابقاتها من حيث أهميتها وحساسيتها وما سيترتب عليها لفترة طويلة.
في المقابل، ثمة من يرى بأن هناك خطرين حاول اردوغان تجنبهما بقراره، أحدهما داخلي والآخر خارجي وبينهما علاقات وترابط. فرغم بعض المؤشرات الاقتصادية الإيجابية مؤخراً، إلا أن تراجع الليرة المستمر في مقابل العملات الأجنبية أعطى إشارات موحية على ما أسماه الرئيس التركي “حرباً اقتصادية لن تركّع تركيا”. هنا يكون التبكير بالانتخابات من وجهة نظر الحزب عاملاً حاسماً ينهي الفترة الانتقالية ويضع تركيا على سكة نظام سياسي جديد مستقر وقوي.
يضاف إلى ذلك مستجدات الأزمة السورية التي تشير إلى تطورات كثيرة محتملة، لا تحمل كلها بالضرورة أخباراً سارة لتركيا فضلاً عن سوريا والسوريين. فالضربة الثلاثية الموجهة لنظام الأسد، والقصف المتبادل بين إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي، واحتمالات التوتر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، وأفكار استقدام لاعبين إضافيين للشمال السوريين، كلها تطورات تكتنف تعقيدات إضافية لأنقرة وتواجدها على الأراضي السورية وموقفها بين حلفاء الأمس في واشنطن وشركاء اليوم في موسكو. وبذلك يكون اردوغان قد استبق أي تطورات سلبية محتملة، بكل ارتداداتها على الأمن والاقتصاد التركيين، بإعلان موعد الانتخابات بعد حوالي شهرين فقط للتقليل قدر الإمكان من فرص تأثير هذه الأحداث.
التوقيت القاتل للمعارضة
إذن، من ناحية المبدأ فالانتخابات المبكرة تقدم للرئيس التركي وحزبه والحزب المتحالف معه أفضل الفرص للفوز مقارنة بإجراء الانتخابات في موعدها، باستثمار خيار متاح ديمقراطياً ودستورياً ويقع في إطار اللعبة الانتخابية التي يتقنها الرجل ويبرع فيها منذ 18 عاماً وأكثر، ما دفع الكثيرين لتسميته “داهية الانتخابات” أو “عبقري الصناديق”.
لكن التوقيت “المبكر جداً” له دلالته المستقلة بحد ذاتها، والمتعلقة بالمعركة الانتخابية والمنافسة مع الخصوم. فمدة 67 يوماً لا تبدو كافية للمعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري لترتيب أوراقها. ذلك أن المعارضة لم تنضو حتى الآن تحت تحالف أو اتفاق ما أسوة بحزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، ولا اتفقت على مرشح توافقي لمنافسة اردوغان، وستكون الفترة الزمنية ضيقة جداً عليها لاختيار مرشحيها وبرامجها الانتخابية والبدء بحملاتها الانتخابية.
هنا، ثمة خصوصية لـ”الحزب الجيد” بقيادة ميرال أكشنار والمنشق عن حزب الحركة القومية، الذي قد يكون أمام مشاركته في الانتخابات عائق قانوني يتعلق بتأسيسه حديثاً، أو على الأقل لن يجد الفرصة الزمنية الكافية لترتيب أوراقه، وهو مكسب خاص بالحركة القومية شريك العدالة والتنمية في التحالف في المقام الأول.
في المقابل، يبدو العدالة والتنمية أكثر جهوزية من باقي الأحزاب للانتخابات، فقد أنجز الجزء الأكبر والأهم من عملية التجديد في أطره القيادية وكوادره ومؤسساته، وبدأ فعلياً – وإن لم يكن رسمياً – الحملة الانتخابية منذ أسابيع من خلال المؤتمرات والمهرجانات الحاشدة التي تقدمها الرئيس وقيادات الحزب في مختلف المحافظات، إضافة طبعاً لحضور وجاهزية مرشحه القوي للرئاسة صاحب التاريخ والإنجازات والكاريزما: اردوغان.
التوقعات
في المقابل، تعتمد المعارضة التركية سردية خوف العدالة والتنمية من المواجهة الانتخابية وتراجع شعبيته المستمر وعدم قدرته على إدارة البلاد بنجاح وبالتالي اضطراره لخيار الانتخابات المبكرة لوقف نزيف أصواته وشعبيته.
كما أن المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري ستركز على فكرة إجراء الانتخابات في ظل حالة الطوارئ التي جددت للمرة السابعة مؤخراً. ورغم أن ذلك لا يتعارض مع الدستور التركي، إلا أنها ثغرة ستحاول المعارضة جهدها الاستفادة منها بالدرجة القصوى.
أخيراً، ثمة رهان واضح من حزبي الشعب الجمهوري (الكمالي) والسعادة (الإسلامي) على إمكانية ترشح الرئيس السابق عبدالله غل كمرشح توافقي في مواجهة اردوغان، وهو الخيار الذي لا يبدو واقعياً ولا مقبول الفرص في ظل ما سبق ذكره إضافة لشخصية غل البعيدة عن المغامرة والمخاطرة.
والمغامرة تحديداً هي الوصف الأمثل لما أقدم عليه اردوغان، فنتيجة الانتخابات ليست مجرد عملية حسابية تجمع فيها نسب الأحزاب أو المرشحين، وإنما عملية معقدة جداً تتداخل فيها عدة عوامل داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وثقافية وإعلامية ونفسية، في مرحلة حساسة من عمر الدولة التركية وبعد استفتاء شعبي كانت له مفاجآته وبعد 16 عاماً من حكم العدالة والتنمية.
ورغم القرب النسبي لموعد الانتخابات، ما زال الوقت باكراً للحديث عن الفرص والتوقعات واستطلاعات الرأي، على الأقل باعتبار أن أحزاب المعارضة لم تحدد مرشحيها للرئاسة بعد، باستثناء “الحزب الجيد” الذي أعلن عن ترشيح أكشنار نفسها.
بيد، ليس من قبيل المبالغة القول إنه من الصعب ظهور منافس جدي وقوي للرئيس الحالي بالنظر لكل ما سبق تفصيله. بل يبدو اردوغان قادراً على حسم المنافسة من الجولة الأولى ودون الحاجة لجولة إعادة مع أقرب منافسيه، أو الفوز في الجولة الثانية في أسوأ الأحوال.
وأما الانتخابات البرلمانية فيصعب توقع نتائجها منذ الآن حيث لم تتضح بعد البرامج الانتخابية وقوائم المرشحين لمختلف الأحزاب، فضلاً عن عدم التأكد من قدرة أحزاب المعارضة على التحالف وخوض المنافسة معاً. لكن، وفي كل الأحوال، فالانتخابات البرلمانية تفقد في هذه المنافسة شيئاً من أهميتها لصالح الرئاسية، باعتبار بدء تطبيق النظام الرئاسي الذي تتراجع في ظله أهمية الأحزاب لصالح مؤسسة الرئاسة من جهة وتشكّل تيارات سياسية أوسع تمثيلاً من الأحزاب من جهة أخرى.