في مفاجأة غير متوقعة، قدمت المعارضة التركية ممثلة بحزبَي الشعب الجمهوري والحركة القومية مرشحها المشترك للانتخابات الرئاسية، وهو الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو. ولم تكن المفاجأة مقتصرة على تقديم المعارضة مرشحاً من غير لونها السياسي أو الفكري، بل في المزايا التي يتمتع بها الرجل لتجعله مرشح المعارضة التوافقي في مواجهة مرشح العدالة والتنمية، الذي سيكون في أغلب الأحوال رئيس الوزراء الحالي رجب طيب اردوغان.
مرشح المعارضة والمواصفات المطلوبة
ذلك أن المعارضة كانت تبحث منذ أشهر عن “مرشح توافقي” يمكن أن تجتمع كل اطيافها خلفه لمحاولة منع اردوغان من الفوز برئاسة الجمهورية التركية في الانتخابات التي ستنظم في العاشر من آب/أغسطس القادم، وكانت تسعى لإيجاد شخصية محافظة وقوية وفي نفس الوقت ملتزمة بنظام الدولة العلماني، حتى تستطيع إقناع حواضنها الشعبية بالتصويت لها. هذه الصفات شبه المتناقضة، مضافاً إليها أن يكون المرشح بعيداً عن دوائر العدالة والتنمية، جعلت من إيجاد تلك الشخصية عملاً صعباً للغاية، حتى جاءت المفاجأة باختيار إحسان أوغلو، والتي اعتبرها الكثير من المراقبين “ضربة معلم” للمعارضة. لماذا؟
لأن الرجل صاحب سيرة ذاتية لا بأس بها عبر ترؤسه لبعض المؤسسات الثقافية داخل تركيا، تبعها رئاسته لمنظمة التعاون الإسلامية (منظمة المؤتمر الإسلامي سابقاً)، وهو حاصل على درجة الأستاذية في التاريخ، ويعتبره الإعلام من “المحافظين” أو الإسلاميين في تركيا، وبذلك فقد يحقق هدف المعارضة من الحصول على أصوات القوميين والإسلاميين وربما بعض مناصري العدالة والتنمية الذين لا يريدون رؤية اردوغان رئيساً (إما لرغبتهم في عدم تركه رئاسة الحزب، أو لتخوفهم من قيادته القوية في الرئاسة على حساب الحكومة). من ناحية أخرى حرصت المعارضة على نشر صور للرجل مع زوجته غير المحجبة في رسالة للمعارضة العلمانية أن الرجل ليس “إسلامياً” صرفاً قد يخشى من توجهاته. وبذلك، يبدو أن المعارضة وجدت مرشحاً جمع بين المتناقضات التي كانت تحتاج إليها.
إحسان أوغلو .. مرشح من؟
بيد أن تفسير الأمر بهذا التبسيط قد يكون مخلاً بالسياق وبعيداً عن حقائق الواقع، فلا المعارضة التركية أبدت قبل اليوم هذا النوع من التخطيط الدقيق، ولا المشهد السياسي التركي داخلي محض منذ فترة طويلة، حيث اختلط فيه الواقع الداخلي بالمصالح الإقليمية والدولية، بدءاً بأحداث حديقة “جزي”، مروراً باتهامات الفساد التي واجهت الحكومة، وانتهاءً بالانتخابات البلدية، ولا يتوقع للانتخابات الرئاسية المقبلة أن تشذ عن هذه القاعدة.
وهنا، يبدو أننا نحتاج أن نولي عمل السيد أكمل الدين أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي بين عامي 2005 و 2013 أهمية خاصة، باعتبار أن سياسات المنظمة – وأمينها العام – تعبير مباشر عن دولها الأعضاء وسياساتها، وباعتبار أن مركزها جدة، وباعتبار أن مواقف الرجل في مركزه لم ترق للمنشود منه، تركياً على الأقل، في قضايا هامة وخطيرة مثل العدوان على غزة والثورة السورية والانقلاب في مصر.
من ناحية أخرى، يبدو احتفاء وسائل الإعلام الدائرة في فلك جماعة فتح الله كولن بالرجل – المغمور داخل تركيا – ملفتة للنظر، وتوحي بأكثر من مجرد اقتناع بمرشح قدمته المعارضة. فالدعاية التي تقوم بها هذه الدوائر للبروفيسور إحسان أوغلو قبل اعتماد الترشح الرسمي، فضلاً عن بدء الحملات الانتخابية، جعلت بعض المراقبين يعتبرونه مرشحاً توافقياً لمنافسي العدالة والتنمية في الداخل، وخصومه في الخارج.
فرص النجاح وعوائقه
يصعب، في بلد عريق بالحياة الحزبية مثل تركيا، توقع شكل المنافسة وفرص النجاح حين يتنافس رجل دولة بحجم اردوغان (حال تأكيده الترشح) وبين شخصية أكاديمية قادمة من خارج الحياة السياسية الحزبية كإحسان أوغلو، إذ أن مجرد المقارنة الشخصية بين الرجلين وحظوظهما قد تبدو خارج السياق.
لكن دعم حزبي المعارضة الرئيسين (الشعب الجمهوري والحركة القومية) للرجل، وتوقع انضمام أحزاب أخرى ومستقلين لحملته، مع دعم جماعة كولن، وفرضية تمويل حملته الانتخابية خليجياً، تجعل من الرجل رقماً صعباً، ولا يمكن القطع بهزيمته بسهولة. فحسابات بسيطة من قبيل مجموع أصوات الحزبين الرئيسين في المعارضة في الانتخابات البلدية السابقة في مقابل أصوات العدالة والتنمية تري أن الفارق ليس مستحيل الجَسر إذا ما توفرت للرجل حملة انتخابية جيدة.
من جهة أخرى، لا يبدو تكتل المعارضة لدعم الرجل شاملاً ونهائياً، خاصة أن الحاضنة الشعبية لحزب الشعب الجمهوري العلماني الكمالي أظهرت امتعاضاً من ترشيح حزبها للرجل، باعتبار أنه “استسلام” وتراجع أمام المد المحافظ في تركيا، وعلت أصوات كثيرة من بعض نواب الحزب في البرلمان تطالب بترشيح شخصية من داخل الحزب نفسه، بغض النظر عن حسابات الربح والخسارة. كما أن الرجل غير معروف بشكل جيد داخل تركيا بسبب بعده عن الحياة السياسية وتقلده ومنصباً إقليمياً، إضافة لافتقاده الخبرة والكاريزما والإنجازات التي يملكها منافسه المبدئي اردوغان، الذي كان هو نفسه قد رشحه للأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
اردوغان والقرار الصعب
أمام هذه المعطيات المتعددة، بدا لكثير من المراقبين أن العدالة والتنمية – كما الكثيرين – قد تفاجأ بالاسم وطريقة الترشيح، وبات عليه أن يعيد تقييم الموقف ثم يحسم أمر مرشحه للرئاسة في ضوء التطورات الجديدة.
فإما أن يصر الحزب على ترشيح اردوغان كما هو شبه معلن حالياً، على اعتبار أن إحسان أوغلو مرشح ضعيف أمامه، مع وجود خطر انقسام أصوات الإسلاميين وانضمامها لمرشح المعارضة بسبب اسم اردوغان المتعلق في حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي الحاصلة في تركيا، وإما أن يتخطى ذلك ويسحب البساط من تحت أقدام المعارضة ومرشحها، بتقديم مرشح “توافقي” أو بعيد عن حالة الاستقطاب المذكور، مثل الرئيس الحالي عبدالله غول، ولن يعدم حينها إيجاد سيناريوهات لا تخرج اردوغان تماماً من المشهد السياسي، كأن يبقى مثلاً رئيساً للحزب دون الحكومة، كما يدور في كواليس العدالة والتنمية منذ فترة.
وهنا، لا يجب إغفال أن ادعاءات الفساد والرشى التي لاحقت أسماء بارزة في الحكومة والحزب الحاكم كان قد تم توقيتها لتستبق الانتخابات البلدية وتؤثر فيها، فما الذي ينتظر تركيا قبيل الانتخابات الرئاسية؟ وهل يؤدي استمرار اردوغان في الترشح إلى تفعيل ملفات معينة قد تحرج حكومته وحزبه للتقليل من فرص فوز الأخير، مثل الملفين الكردي والعلوي داخلياً، و”داعش” أو غيرها خارجياً؟ وهل هدف المعارضة من هذا الترشيح الفوز بالرئاسة أم مجرد تقليل نسبة وتأثير فوز العدالة والتنمية؟ وهل سيكون سقف ترشيح المعارضة للدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو هو الانتخابات الرئاسية فقط، أم أنه تمهيد لتحالف انتخابي مشابه أو أوسع نطاقاً في مواجهة الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2015؟
أسئلة كثيرة تنتظرإجابات شافية، لا يدعي أحد من المراقبين أنه يملكها، في ظل تدحرج الأحداث في المنطقة وتأثيراتها على المشهد التركي الداخلي، وفي ظل استقطاب واسع النطاق بين الحكومة والمعارضة خلع ثوبه المحلي وارتدى زياً إقليمياً ودولياً منذ فترة. هكذا، تبدو الانتخابات الرئاسية التركية التي ستشهد لأول مرة انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب انعطافة مهمة في تاريخ تركيا المعاصر، وباباً لمرحلة جديدة قد تختلف تماماً عن تلك الحالية، داخلياً وخارجياً.