مرة أخرى، جدد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان استعداده للاستقالة من رئاسة حزبه إن لم يتصدر الانتخابات البلدية المرتقبة بعد أيام، وتحدى رؤساء أحزاب المعارضة أن يحذوا حذوه في ذلك.
ورغم تكرر هذا التحدي في عدة استحقاقات سابقة، فإنه لم يفقد أهميته وبريقه بسبب السياق الذي وضعت فيه هذه الانتخابات وجعلها بمثابة وأهمية الانتخابات البرلمانية، التي قد تغير الخريطة السياسية المستقرة في تركيا منذ 12 عاما. فادعاءات الفساد التي تلاحق أسماء بارزة في الحكومة منذ ثلاثة أشهر، والتسريبات التي تتدفق كالسيل منذ أسابيع، والحرب الدائرة بين الحكومة وما تسميه “التنظيم الموازي”، كل ذلك يجعل هذه الانتخابات المحلية فارقة ومحورية في تاريخ تركيا الحديث.
معايير الفوز
ولأن الإحصاء هو فن الكذب بالأرقام، تختلف معايير الأحزاب المختلفة في تقييم نتيجة الانتخابات. فبينما ترى المعارضة أن حصول العدالة والتنمية على نسبة أقل من نسبته في آخر انتخابات نظمت (البرلمانية عام 2011 بنسبة 49.8%) دليل على تراجعه، يعتبر العدالة والتنمية نتيجة الانتخابات البلدية السابقة (عام 2009 بنسبة %38) الحد الذي يعد بتخطيه.
لكن نظرة عميقة على المشهد التركي ومتابعة دقيقة لمستجداته تقدمان تقييما مختلفا عن مجرد الأرقام ونسبة كل حزب من أصوات المواطنين في عموم تركيا.
في هذا السياق، يبدو عدد البلديات التي سيفوز بها كل حزب من المدن الكبرى أكثر أهمية من نسبة التصويت له، إضافة إلى ذلك فإن لمدن معينة أهمية رمزية وتأثيرا كبيرا في تحديد الفائز من الخاسر في هذه المعركة الديمقراطية، إذا تحولت رئاسة بلديتها من حزب لآخر.
فإسطنبول، بعدد سكانها ورمزيتها وتمثيلها لأطياف وأعراق وطوائف المجتمع التركي، هي بيضة القبان والمؤشر الكبير على الفوز، وهي منذ سنوات طويلة في يد العدالة والتنمية.
ولذلك فقد اضطر حزب الشعب الجمهوري لاسترضاء وترشيح أحد كبار سياسييه السابقين والذي كان قد أخرجه من صفوف الحزب قبل سنوات، كما دفع جماعة غولن لتأييده.
كما تبدو معركة إزمير، قلعة حزب الشعب الجمهوري التقليدية، شرسة حيث دفع الحزب الحاكم بأحد أنجح وزرائه، وهو وزير المواصلات السابق، لتلك البلدية التي تعاني من مشاكل مزمنة في قطاع المواصلات تحديدا.
كما تجدر الإشارة إلى ديار بكر، أكبر المدن الكردية، التي يطمح العدالة والتنمية إلى إزاحة حزب السلام والديمقراطية عن كرسيها.
أما في أنقرة فقد لجأ حزب الشعب الجمهوري، اليساري الكمالي وأقوى أحزاب المعارضة، إلى ترشيح شخص يميني محسوب على حزب الحركة القومية ليستميل المحافظين والقوميين وربما أيضا جماعة غولن لاسترداد بلدية العاصمة التي يرأسها العدالة والتنمية منذ سنوات طويلة.
سيناريوهات
في ضوء العديد من الأسباب والإرهاصات، وعلى رأسها الحرب الضروس بين الحكومة وجماعة غولن واتهامات الفساد التي طالت بعض الوزراء والتنصت على أعلى المناصب السياسية في الدولة، غدا الاستحقاق الانتخابي المقبل أقرب إلى استفتاء على العدالة والتنمية، بل لعله سيحدد مستقبل أردوغان السياسي.
– ذلك أن نتيجة سيئة جدا للحزب (أقل من 35%) ستعني أن شعبيته انخفضت كثيرا وستعطي مصداقية للتسريبات التي تتهم قياداته بالفساد، وهذا سيضع الزعيم التركي أمام خيارين أحلاهما مر:
– تغيير النظام الأساسي في حزبه للترشح مرة رابعة لرئاسة الوزراء (وهذا تراجع عن الوعد الذي قطعه على نفسه) أو الدعوة لانتخابات مبكرة ستفضي ربما إلى ائتلاف حكومي أو خروج العدالة والتنمية من الحكم من الباب الخلفي، لكن هذا السيناريو مستبعد جدا وفق المعطيات الحالية.
– كما أن نتيجة استثنائية (أعلى من 45%) ستعني أنه استثمر الأزمة ورفع بها من رصيده لدى الشعب، مما سيعطي أردوغان دفعة قوية للترشح لرئاسة الجمهورية في أغسطس/آب القادم، بعد تعديل دستوري يزيد من صلاحيات المنصب الأقرب للفخري.
– أما السيناريو الأوفر حظا والأكثر منطقية، فهو حصول الحزب الحاكم على المركز الأول بفارق مريح لكن غير كاسح عن منافسيه، مما يبقي جذوة الخلاف السياسي متقدة في انتظار المعركة القادمة في انتخابات الرئاسة.
ومن نافلة القول إن مصير أردوغان السياسي سيحدد مصير رفيق دربه رئيس الجمهورية الحالي عبد الله غل، إذ لا يتوقع أن يتنافس الاثنان على منصب واحد، بل يعتقد كثير من المراقبين أن قراريهما سيتخذ بالتنسيق بينهما، فإما أن يستمر كل منهما في منصبه وإما يتم اللجوء لنموذج بوتين مدفيدف في تبادل المسؤوليات.
العامل الخارجي
بعيدا عن الاستغراق في نظرية المؤامرة، توحي سياقات عديدة بحضور العامل الخارجي بقوة في المشهد التركي، تحديدا منذ أحداث حديقة “جزي” قبل عشرة أشهر.
كما أن هناك أحداثا وتطورات عدة يمكن اعتبارها مظاهر وإشارات على تداخل البعدين الداخلي والخارجي في الأزمة التركية الحالية، في مقدمتها وجود زعيم حركة الخدمة الداعية فتح الله غولن في ولاية بنسلفانيا الأميركية، وادعاء الحكومة أن ملفات التنصت يتم تسريبها ونشرها من الولايات المتحدة.
هذا فضلا عن تصريحات الكثير من السياسيين الأوروبيين المنتقدة لأداء الحكومة التركية، كالمفوض الأوروبي المكلف بالتوسعة وسياسة الجوار ستيفان فولي، والناطق باسم الاتحاد المسيحي في ألمانيا مايكل ستوبغان، إضافة لتقرير الاتحاد الأوروبي الأخير بخصوص تركيا الذي اعتبر الأسوأ على الإطلاق.
وبناء على ذلك، يمكننا أن نتوقع تأثيرا لا يستهان به من المجتمع الدولي، خصوصا الاتحاد الأوروبي الذي تنتظر تركيا على بابه منذ سنوات طويلة، وفق سيناريوهات مختلفة حسب نتائج الانتخابات المرتقبة لاسيما إذا تراجع العدالة والتنمية، مما سيحجم إمكاناته ويقلل من خياراته في إطار المواجهة مع ما يسميه “الانقلاب القضائي” عليه.
الأمر الذي قد يعني أن رؤية أردوغان وحكومته لعام 2023، الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية، ومشاريعهما العملاقة (أو المجنونة كما تسميها الحكومة) قد تكون في مهب الريح.
جماعة الخدمة
بيد أننا لا يجب أن نغفل أن نتيجة الصناديق بعد أيام ستحدد قبل كل هذا مصير جماعة غولن داخليا وربما دوليا، ذلك أن الحركة، التي تقدر كتلتها التصويتية بحدود 3%، كانت تستمد قوتها من نفوذها في مؤسسات الدولة والتحالف مع العدالة والتنمية، وقد فقدت عنصر القوة الثاني وفي طريقها لخسارة الأول، مما يعني أنها أمام لحظة فارقة في تاريخها.
يرى مراقبون أن الحركة قد تقدم على إنشاء حزب سياسي تقدم من خلاله أطروحاتها، ويكون واجهة سياسية تحميها من بطش الحكومة بها، لكن هذا الخيار لا يبدو ورديا جدا لهذه الجماعة التي لم تعتد الاحتكاك المباشر بالمواطنين وتقديم برامج سياسية بقدر ما أجادت دوما أساليب العمل السري وتكوين التحالفات الانتخابية، فضلا عن أن نسبتها التصويتية لن تسعفها في تخطي حاجز دخول مجلس الأمة (10%).
كما أن تأسيسها لحزب سيضعها في منافسة مع حلفائها الحاليين ضد الحكومة، لذلك قد يبدو منطقيا أكثر أن تلجأ الجماعة لتمديد وتعميق هذا التحالف مع المعارضة التركية لشهور قادمة.
يبقى أن نشير إلى أن الحركة المثيرة للجدل قد تكون أمام تحد وجودي إن وجهت لها الحكومة التركية اتهامات بالإرهاب أو الخيانة العظمى على هامش التنصت غير القانوني على قيادات الدولة وتسريب معلومات حساسة لأجهزة استخبارات أجنبية.
مثل هذا القرار قد يؤدي إلى ملاحقة قياداتها وطلب الحكومة التركية من الولايات المتحدة تسليمها غولن ووضع يدها على مدارسها التي تعد بالمئات في القارات الخمس أو ربما مطالبة الدول المختلفة بإغلاقها تماما، لاسيما وأن هذه المدارس تواجه حاليا مخاطر الحظر والإغلاق في دول كثيرة مثل أذربيجان وألمانيا وتركمانستان.
وهكذا، فإن تجميع قطع الصورة الصغيرة سيجلي المشهد الكبير، الذي يشي بأن الانتخابات البلدية المقبلة ستبلور الكثير من القرارات والتوجهات في المستقبل القريب، بما فيها مصير القيادات السياسية، وبالتبعية مصير ووجهة تركيا في السنوات القليلة القادمة فيما يخص السياسة الخارجية والدور الإقليمي، ملف الخلاف الأبرز بين الحكومة والمعارضة.
إن ملفات التنصت على أهم مسؤولي الدولة لسنوات عدة والإشاعات التي تروج عن عددها ومحتواها وتأثيرها من جهة، وتهديد أردوغان باجتثاث “التنظيم الموازي” من مختلف المواقع الحكومية من جهة أخرى، يؤكد أن الانتخابات البلدية الوشيكة ليست نهاية المعركة ولا هدفها، بل لا تعدو أن تكون شارة البدء في الحرب الصفرية النهائية بين الطرفين، بكل ما يملكان من عناصر القوة والضغط داخليا وخارجيا.