رغم عدم بدئها رسميا بقرار من الهيئة العليا للانتخابات، فإن الحملات الانتخابية قد بدأت فعليا في تركيا من خلال اللقاءات الجماهيرية التي يشارك بها المرشحون الرئاسيون. ولئن كانت المنافسة شبه واضحة في الانتخابات الرئاسية، وخصوصا بين أردوغان وكليجدار أوغلو، فإن حسابات الانتخابات البرلمانية أكثر تعقيدا وتركيبا مما تبدو.
تراجع البرلمان
لعقود طويلة، حُكمت تركيا بالنظام البرلماني الذي يتمتع فيه البرلمان بأهمية كبيرة، إذ يقضي العرف بإسناد تشكيل الحكومة لرئيس الحزب الأول في الانتخابات البرلمانية، مع صلاحيات رمزية لمنصب رئيس الجمهورية. ورغم أن دستور عام 1982 منح الرئيس بعض الصلاحيات التعطيلية تجاه الحكومة، فإن ذلك لم يقلل من أهمية البرلمان.
ومع إقرار النظام الرئاسي في البلاد عام 2017، تراجعت أهمية البرلمان والأحزاب مقابل أولوية منصب الرئاسة، لا سيما وأن النظام المقرَّ منح الرئيس صلاحيات واسعة جدا. وقد كان ذلك من ضمن الأسباب التي أسهمت في تشظي الأحزاب الكبيرة، الأمر الذي لم ينجُ منه حتى اللحظة من الأحزاب الكبيرة الممثلة في البرلمان إلا “الشعوب الديمقراطي”.
اليوم، وعلى بُعد أقل من شهر ونصف الشهر من الانتخابات المقررة في الـ14 من مايو/أيار المقبل، تبدو الانتخابات البرلمانية أكثر أهمية وحساسية وتعقيدا مما كانت عليه في الاستحقاق السابق في 2018، مع احتفاظ السباق الرئاسي بالأولوية بالتأكيد.
ومن ضمن أسباب ذلك منظومة التحالفات القائمة، وحالة الاستقطاب الشديد، ووعود المعارضة بإعادة البلاد للنظام البرلماني بما يعني حاجتها للحصول على أغلبية ثلثي مقاعد البرلمان لإقراره مباشرة أو لنسبة 60% منها لعرضه على استفتاء شعبي. كما أن أولوية الأحزاب المؤسَّسة حديثا وضعيفة الحضور جماهيريا هي التمثيل في البرلمان المقبل لضمان البقاء في المشهد السياسي مستقبلا.
كما أن الرئيس المنتخب، أيا كان، لن يرغب بأن تكون أغلبية البرلمان مع التحالف المناوئ له لئلا يعيق ذلك عمله وقراراته، ولذلك فإن كل تحالف مشارك في الانتخابات، لا سيما تحالف الجمهور الحاكم وتحالف الشعب/الأمة المعارض، حريص على الفوز بمنصب الرئاسة وأغلبية البرلمان معا.
ومن الجدير ذكره أن تعديل قانون الانتخاب قلل من استفادة الأحزاب الصغيرة أو ضعيفة الحضور في الانتخابات البرلمانية لمجرد انضمامها لأحد التحالفات، ما فرض البحث عن صياغات إضافية لمحاولة تعظيم فرصها في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
حسابات دقيقة
ثمة صيغة منطقية للأحزاب المنضوية في التحالف ذاته تعتمد على فكرة التنسيق، أي عدم تقديم أحد الأحزاب مرشحين أقوياء في الدوائر التي يملك فيها حزب آخر من التحالف حضورا قويا، وبالتالي فرصة أكبر في الفوز. بيد أن هذه الصيغة لا تبدو عملية، كما أنها لا تعظّم عدد النواب الممكن الفوز به للحد الأقصى، ما يترك التحالفات أمام أحد 3 خيارات.
-
الخيار الأول هو الاعتماد على الذات:
وذلك من خلال تقديم قوائم مستقلة للحزب باسمه وشعاره، وهي صيغة قد تبدو كافية للأحزاب الكبيرة لكنها غير مفيدة للأحزاب الصغيرة التي قد تجد نفسها خارج البرلمان. وقد أعلنت معظم الأحزاب المشاركة في الانتخابات عن نيتها دخول الانتخابات بقوائمها الذاتية، لكن ذلك قد لا يكون في عموم الدوائر الانتخابية في كل البلاد، وإنما على الأقل في نصف الدوائر أي 41 محافظة كما يشترط القانون. هذا الخيار، في نهاية المطاف، مغامرة كبيرة بالنسبة لبعض الأحزاب.
-
أما الخيار الثاني فهو تشارك أحزاب في قائمة:
أي عكس الأول، وذلك بأن تنتظم كل الأحزاب المنضوية تحت حلف معين في قائمة مشتركة تضم مرشحين منها جميعا. هذا الخيار أدعى لأن يجمع كل الأصوات الموجهة لأحزاب التحالف، وبالتالي يرفع عدد النواب الفائزين من هذا التحالف للحد الأقصى. لكنه خيار قد لا يكون مشجعا للماكينات التنظيمية والانتخابية للأحزاب لتعمل بالشكل الأمثل، كما أنه قد يتسبب في بعض الأخطاء التصويتية بسبب غياب أسماء الأحزاب وشعاراتها (اللوغو).
-
والثالث تخصيص الأحزاب الكبرى عددا من الأماكن بقوائمها لمرشحي الأحزاب الصغرى:
وهو خيار عملي وجُرّب سابقا في انتخابات عام 2018. ويفترض في هذا الخيار أن يُقدَّم المرشحون المذكورون في أماكن يمكنهم الفوز بها. وهذا هو منطق التفاهمات التي أبرمتها الطاولة السداسية المعارضة بحيث تدعم الأحزاب “الصغرى” الأربعة ترشح كليجدار أوغلو مقابل ضمانها دخول البرلمان على قوائم حزبه.
عمليا، يبدو أن التحالفين الرئيسيين سيذهبان لنموذج يمزج بين الخيارات الثلاثة، وربما الأربعة، المذكورة. ففي المقام الأول، أعلنت معظم الأحزاب أنها ستخوض الانتخابات بقوائمها، لكن ذلك لم يمنع نقاشها وبحثها عن سبل المشاركة بقوائم مشتركة أو ترشيح كما سلف ذكره.
الأمر يبدو أسهل في تحالف الجمهور الحاكم، بسبب التقارب الأيديولوجي بين الأحزاب المنضوية تحته. ورغم ذلك فإن التحالف لم يعلن حتى لحظة كتابة هذه السطور عن نيته تقديم قائمة مشتركة، وإن كان ذلك يبقى احتمالا نظريا قائما حتى تسليم القوائم للهيئة العليا للانتخابات في التاسع من الشهر الجاري.
في المقابل، تخوض أحزاب تحالف الشعب/الأمة المعارض نقاشات معمقة وحالة من التفاوض حول نموذج القائمة المشتركة وكذلك ترشح ممثلين عن الأحزاب الصغرى على قوائم الشعب الجمهوري، إضافة لنية الأخير وحزبَي الجيد والديمقراطية والتقدم خوض الانتخابات بقوائمها الذاتية.
هذا النموذج، أي الجمع بين الخيارات الثلاثة، ليس بالسهولة المتوقعة بل هو عملية بالغة التركيب والتعقيد. ذلك أن الأمر يتطلب دراسة وافية تجمع بين نتائج الانتخابات السابقة لكل الأحزاب التي خاضتها (بعض الأحزاب تأسست بعدها)، ونتائج استطلاعات الرأي لمختلف الأحزاب اليوم، والتركيبة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية لكافة محافظات ودوائر البلاد، وأعداد النواب المطلوبين في كل دائرة، بحيث يُقرر الخيار الأمثل لكل دائرة انتخابية بشكل منفرد.
بمعنى، أن بعض أو معظم الأحزاب ستقدم قوائمها في 41 محافظة على أقل تقدير، بينما ستختار في بعض الدوائر تقديم قوائم مشتركة من جميع أعضاء التحالف، وفي بعض الدوائر الأخرى ضم مرشحين من الأحزاب الصغرى على قوائم الأحزاب الكبرى.
أكثر من ذلك، فقد تحدثت مصادر في تحالف الشعب/الأمة المعارض أنها قد تسعى لنموذج “تحالف داخل التحالف”، بحيث تقدم الأحزاب المتقاربة أيديولوجيا قوائم مشتركة بينها في المحافظات والدوائر التي تملك فرصا أفضل فيها. أي أن يقدم حزبا الشعب الجمهوري والجيد قوائم مشتركة من جهة، وأحزاب السعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم قوائم مشتركة في دوائر أخرى، ويمكن أن يفعل حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية الأمر نفسه في بعض الدوائر.
هنا، يبدو الأمر أصعب وأعقد على تحالف المعارضة، بسبب الاختلافات السياسية والأيديولوجية بينها، وعدم توافقها على العدد الأمثل لمرشحي الأحزاب الصغرى على قائمة الشعب الجمهوري.
ذلك أن أحزاب السعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم ترغب في تشكيل كتلة برلمانية (20 نائبا) لكل منها من خلال الترشح على قوائم الشعب الجمهوري، بينما يرى الأخير أن هذا الرقم مبالغ به جدا، ما يعني أن الأيام القليلة المقبلة قد تشهد مفاوضات محمومة وربما خلافات محتملة بين أعضاء الطاولة السداسية بهذا الخصوص.
أخيرا، فإن فرص الأحزاب والتحالفات المتنافسة في الانتخابات المقبلة ستعتمد إلى حد كبير على تفاصيل القوائم التي ستسلمها للهيئة العليا للانتخابات لإقرارها، من حيث النموذج أو النماذج المعتمدة مما سبق، وأسماء المرشحين، وترتيبهم، وتركيبة القوائم، وطبيعة المحافظات والدوائر الانتخابية.. إلخ.
ولذلك من الصعوبة بمكان توقع نتائج الانتخابات البرلمانية بشكل صحيح قبل اتضاح معالم هذه القوائم على أقل تقدير، فضلاً عن تأثيرات قانون الانتخاب التي أشرنا لها في مقال سابق هنا، والتي تشمل مثلا تفاوتا محتملا بين النسبة التي يمكن أن يحصل عليها تحالف ما وعدد النواب الذين سيفوز بهم في البرلمان المقبل، بحيث يمكن أن يحصل على أقل من 50% من الأصوات، ولكن يفوز بغالبية أعضاء البرلمان، وهو أمر سنعود له تفصيلاً في مقال جديد إن شاء الله.