“لا حرب دون مصر، ولا سلام دون سوريا”
لم يكن ذلك شعاراً رفعه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ، بل عنواناً لفهم عميق لدور وأهمية وقوة مصر، واستيراتيجية ً رسمت لتغييب هذا الدور وتقليل تلك الأهمية وإضعاف تلك القوة.
فمصر الدولة العربية الأقوى والأكبر والأهم، الدولة التي حاربت وقدمت الشهداء، والدولة التي تقع على حدود فلسطين، دولة العلم والعلماء، ومحضن الأزهر وعلمائه.
أريدَ لمصر أن تتخلى عن دورها الريادي وتتراجع عن قيادة العمل العربي، متخلية عن طموحات ورغبات شعبها، مكتفية بالدوران في الفلك الأمريكي (أي الصهيوني).
وعلى مدى ثلاثين عاماً تقهقرت مصر وتراجع دورها تدريجياً أحياناً وبشكل سريع أحياناً أخرى كثيرة، في مختلف القضايا والملفات. تدهور الإقتصاد، وصودرت الحريات، وخُنقت الإتحادات، وقتل عمل منظمات المجتمع المدني، وتوقفت الصناعة، وتعطل الإنتاج. اختطفت مصر اختطافاً مريعاً من قبل مجموعة من رجال الأعمال والمتنفذين، ضاربين بعرض الحائط كل ما تمثله مصر من ثقل وريادة وقيمة كبرى في قلب العالم العربي والإسلامي.
مع التراجع الإقتصادي والتبعية للولايات المتحدة، كان لا بد للدبلوماسية المصرية أن تفشل في ملفات مهمة مثل القضية الفلسطينية، والمشكلة اللبنانية والكارثة السودانية، فضلاً عن إحكام الحصار عليها من قبل دول حوض النيل بتخطيط وترتيب من “شركاء السلام”.
اتبع النظام في مصر لعقود طويلة سياسات محددة للسيطرة على الشارع وتخويفه وتطويعه. سياسة التجويع لإبعاد المواطن عن الإهتمام بالسياسة والإكتفاء باللهاث وراء رغيف الخبز، وسياسة الكذب والدعاية لإنجازات ومشاريع وتنمية لم ير منها المواطن غير ما صدّرته الصحف “القومية” وعرضه التلفاز “الوطني”، وسياسة تلفيق التهم الجاهزة لكل من عارض أو انتقد، من المنافع الشخصية إلى الأجندات الخارجية، وسياسة تقديس النظام ورمزه مبارك ليصبح هو مصر ومصر هو، لدرجة اتهام من ينتقده بعدم حب مصر، والإضرار بمصلحة البلاد لحساب جهات غير مصرية (ملحوظة: هذه السياسة استمرت حتى قبل تنحي مبارك بدقائق).
على مدى ثلاثين عاماً حاول البعض أن يلعب على الوتر الوطني العشائري الإقليمي الضيق، وافتعل عداوات مصطنعة للتغطية على العداوة الواضحة البينة الأصيلة مع العدو الصهيوني. أصبحت الفرعونية هي السمة البارزة للتعامل مع الأشقاء الذين “لا يحبوننا”، وأصبح الكل حاسداً لمصر على مكانتها ويريد أن يحتل مكانها. أصبح التهجم والشتائم والتهم سياسة رسمية من النظام وأبواقه الإعلامية بحق كل من حماس وحزب الله وإيران وسوريا وقطر، وحتى الجزائر. افتُعِلت معارك كروية لإلهاء الشعب عن معاركه الأساسية، وستراً لسياسة مبارك وحزبه ونظامه المتماهية تماماً مع العدو الصهيوني من حصار غزة والضغط على الفلسطينيين بل وحتى إجهاض أي عمل عربي أو إسلامي مشترك لنصرة فلسطين.
الآن…. انتهى ذلك العصر البائس. الآن ستلعب مصر (أو إن كنا نتحرى الدقة، فلديها فرصة أن تلعب) الدور المناط بها والمأمول منها أن تلعبه محلياً وإقليمياً ودولياً. هناك فرصة حقيقية للتنمية والنهضة الإقتصادية والعمرانية والثقافية والحضارية وتتبعها السياسية. فمصر تملك كل الإمكانات لذلك، وعلى رأسها الثروة البشرية الإنسانية الخلاقة، فضلاً عن شوق وطلب وانتظار من المحيط العربي والإسلامي لمصر ودورها الريادي والقيادي.
لم تفرح مصر وحدها البارحة، بل عمّت الفرحة العارمة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، إضافة للعديد من العواصم الإسلامية والعالمية. الآن نسأل: هل فعلاً يكره العرب مصر؟؟ هل يحسدونها على دورها؟ هل انتقاد مبارك ونظامه كان قدحاً في مصر كبلد؟ إذاً لماذا كان اهل غزة أول الفرحين بثورة إخوانهم؟ ولماذا خرج الناس يهللون بالآلاف في بيروت؟ لماذا توزع الحلوى أمام السفارة المصرية في أنقرة؟؟ هل ما زال من ضرب الخيال أن نتحدث عن العمل العربي المشترك وعن منظومة العمل الإسلامي والوحدة الإسلامية؟؟ هل هذه شعارات بائسة لزمن بائد؟ أم أنها قواعد لعمل يتناسب ويتناسق مع تاريخ وجغرافيا وسياسة ووعي ونبض وقلب ووجدان ومصالح هذه الأمة، كل الأمة؟؟
للذين ظلوا يطبلون لمبارك ويتهمون الشباب المتظاهرين حتى آخر لحظة، ثم انقلبوا بسحر ساحر إلى متضررين من الفساد والظلم والإستعباد: ما زلتم مصرين على إهانة الشعب ووصمه بالغباء يا أغبياء. لن تنطلي حيلكم على أحد. نبذكم الشعب وسيدوسكم بأقدامه يا أحذية الطغاة.
كل الشكر لمن قدم ولو القليل القليل لهذه الثورة المباركة (بعد سقوط الطاغية عاد للإسم بريقه ومعناه الطاهر بعد أن دُنّس، ولذلك لا أجد غضاضة في استعماله)، وكل الشكر لمن لم يفقد الأمل يوماً في نهضة ودور وقوة الشعوب. كل الشكر للشباب الذي رفض الإلتهاء بتوافه الأمور وشارك في صناعة مستقبل بلده. كل الشكر لكل من شارك في هز هيبة النظام في عيون المواطن بسياسة أو نقد أو عمل فني أو أدبي أو حتى نكتة. كل الشكر لشباب 6 أبريل، وحركة كفاية، والجبهة الوطنية للتغيير، والناصريين،والإخوان وكل أطياف المعارضة، بل كل كل اطياف الشعب المصري. كل الشكر لمن قرر أن يكون ميدان التحرير مكان صلاة الجمعة وصلاة الغائب وقداس الأحد. كل الشكر لمن جعل الثورة مثالاً يحتذى في التحضر والوعي. كل الشكر لعلماء الامة وعلى رأسهم شيخنا فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي الذين ضربوا مثلاً في دور العلماء وجهادهم وقت الشدة، العلامة يوسف القرضاوي الذي قال لمبارك من بداية الأزمة “أنصحه أن يخرج على قدميه، قبل أن يضطر للرحيل مكرهاً”. الكتور يوسف، والشيخ وجدي غنيم، والدكتور صفوت حجازي والدكتور راغب السرجاني والشيخ محمد جبريل، وغيرهم العشرات من العلماء الذي رأيناهم لا يخشون في الله لومة لائم بل يتقدمون الصفوف ويُرفعون على الأكتاف ليردد الناس هتافاتهم.
كل الشكر لمصر التي أسعدتنا، وأحيت فينا الأمل، وشحذت الهمم. كل الشكر لتونس الخضراء صاحبة الريادة والمثل والمبادرة. وكل الشكر والإحترام والتقدير للجزيرة ودورها في نقل الأحداث، إن لم نقل المشاركة في صنعها.
وقبل كل هؤلاء وبعدهم، كل الحمد والشكر والفضل لله تعالى أن استجاب الدعاء، ولم يضيع التعب هباءاً، ورحم الشعوب، وربط القلوب.
التهنئة لمصر، والعرب والمسلمين وأحرار العالم. التهنئة لفلسطين والقدس والأقصى. والدعوة مفتوحة للعبرة للجميع. والأمل معقود على هذا الشعب العظيم أن لا يفرط في ثورته وألا يسمح لأحد أن يلتف عليها وعلى مطالبها، وأن يستمر في دربه، فالطريق ما زال طويلاً.
نحب مصر وأهلها، و”نموت في دباديبهم”. والأرض – كل الأرض- اليوم، “بتتكلم عربي”، بلهجة مصرية حميمية.