الآفاق المستقبلية للدور التركي في القضية الفلسطينية
ورقة في ندوة: العلاقات العربية – الإقليمية: الواقع والآفاق (ديسبمر 2017)
مركز دراسات الشرق الأوسط
عادت تركيا للمنطقة العربية مع العدالة والتنمية اهتماماً وانخراطاً وبطريقة مختلفة عن مقارباتها السابقة لقضاياها، معتمدة على قوتها الناعمة والمشتركات مع العالم العربي مع اهتمام خاص بالقضية الفلسطينية لأسباب عدة.
وكما أن تركيا العدالة والتنمية لم تنقضْ تماماً أسس سياستها الخارجية السابقة وإنما أعادت تفسيرها بشكل مختلف وأكثر توازناً ومبادرة، فإن مقاربة تركيا للقضية الفلسطينية والعلاقات مع دولة الاحتلال أيضاً شهدت متغيرات لم تعن التناقض تماماً مع السابق ولكنها متغيرات ذات دلالة وتأثير بارزين.
ويمكن تناول مقاربة تركيا للقضية الفلسطينية ضمن مراحل زمنية ثلاث، تبدأ أولاها من تأسيس العدالة والتنمية وحتى 2009 وهي التي تميزت بعلاقات جيدة بين أنقرة وتل أبيب مع انفتاح تدريجي على الطرف الفلسطيني خصوصاً حركة حماس بعد فوزها بالانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية عام 2006. والثانية بين 2009 و2016 التي شهدت توتراً ملحوظاً وأزمات متكررة ثم قطيعة دبلوماسية بين تركيا ودولة الاحتلال على خلفية الاعتداء على سفينة “مافي مرمرة” وقتل عشرة ناشطين أتراك. والثالثة ما بعد 2016 التي تضمنت عودة العلاقات الدبلوماسية لكن دون العودة لحالة التحالف الاستراتيجي التي ميزت العلاقات بينهما في تسعينات القرن الماضي.
اليوم، ومع عودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، يعود السؤال ليفرض نفسه عن الدور الذي يمكن لتركيا أن تلعبه في القضية الفلسطينية خصوصاً على الصعيد الفلسطيني – “الإسرائيلي” وبدرجة أقل على الصعيد الفلسطيني الداخلي.
تقدّم هذه الورقة فرضية تقول إن الموانع والعوائق أمام لعب تركيا دوراً محورياً في القضية الفلسطينية ما زالت حاضرة، وهي عوائق ذاتية وموضوعية، ولكن الآفاق المستقبلية لهذا الدور تبدو أفضل حظاً بسبب بعض المتغيرات سيما المتعلقة بالسياسة الخارجية التركية نفسها، خصوصاً حالة التوتر والتأزم المستمرة والمرشحة للتصاعد بين تركيا وكل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
خلفية تاريخية
أسست الجمهورية التركية التي ورثت الدولة العثمانية على عدة أسس، من بينها الانكفاء على الذات والتغريب تحت مسمى التحديث فأدارت الظهر تماماً للشرق وفي القلب منه المنطقة العربية[1]. وعلى مدى عشرات السنوات بنيت السياسة الخارجية التركية على أسس واضحة التبعية للغرب، فكانت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية محور العلاقات السياسية، وعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) محور العلاقات العسكرية والأمنية، وملف عضوية الاتحاد الأوروبي محور العلاقات الاقتصادية[2].
وفي المرات القليلة التي تدخلت فيها تركيا في قضايا المنطقة – وخاصة ما يتصل بالقضية الفلسطينية – كان تدخلها مضراً للدول العربية وفي صالح دولة الاحتلال التي ربطتها بها علاقة خاصة، فكانت أولى دول العالم الإسلامي اعترافاً بها، وأقامت معها عام 1958 تحالفاً عسكرياً سمي “الاتفاق الطارئ” بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا[3]، ووقعتا مع إيران اتفاقية “الرمح الثلاثي” في نفس العام[4]، ثم أبرمتا مع إثيوبيا اتفاقية “حزام المحيط” أو “الاتفاق الإطاري” في نفس العام[5]، وتعاونت معها استخباراتياً وعسكرياً على مدى سنوات طويلة[6].
ورغم بعض التوترات بين الطرفين، مثل رفض تركيا استخدام الولايات المتحدة قواعدها لتزويد “إسرائيل” بالسلاح في حرب 1973[7]، وتصويت تركيا لصالح القرار رقم 3379 الصادر عن الأمم المتحدة والذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية[8]، إلا أن العلاقات شهدت عهدها الذهبي في تسعينات القرن الماضي حيث وقعا 22 اتفاقية في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية عام 1996[9].
مع العدالة والتنمية، بنيت سياسة تركيا الخارجية على توصيات ونظريات داود أوغلو، الذي سمي مهندس السياسة الخارجية التركية وتحدث في كتابه الأشهر “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” عن فرصة بلاده في مرحلة تشكل النظام العالمي الجديد واتجاه مركز الحضارة من الغرب إلى الشرق للتحول إلى “دولة مركز” في محيطها، وأهم هذه النظريات:
العمق الاستراتيجي: دعا الرجل إلى صياغة جديدة للعلاقة مع دول الجوار قائمة على استثمار الفرص المشتركة وشرح باستفاضة كيف أن مكانة تركيا الدولية سترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى قدرتها على صياغة سياسة خارجية معتمدة على أولويات تكتيكية ضمن ثلاث ساحات تأثير جيوسياسي هامة، هي المناطق البرية القريبة التي يقع العالم العربي ضمنها، والأحواض البحرية القريبة، والمناطق القارية البعيدة[10].
تصفير المشاكل: تقول هذه النظرية ببساطة إن أي دولة تعاني من أزمات مع دول جوارها لن تكون قادرة على صياغة سياسة خارجية ناجحة أو تحظى بمكانة دولية مرموقة[11].
القوة الناعمة: وهو أسلوب ونهج متناغم مع إرث الجمهورية التركية، ومتناسق مع الخصائص المشتركة بينها وبين دول الجوار من النواحي الاقتصادية والثقافية والفكرية والتاريخية والجغرافية[12].
ما فعله الرجل إذن لم يكن ثورة راديكالية في السياسة الخارجية، وإنما تغيير الإطار الناظم (البارادايم) لهذه السياسة وجعلها سياسة متعددة الأبعاد تتعامل مع جميع الأطراف وتبني الجسور مع الجميع.
وقد تبنت تركيا العدالة والتنمية في سياساتها نحو الشرق الأوسط أربع استراتيجيات رئيسة، هي:
الأولى، ضمانة الأمن للجميع، على مستوى المجموعات والدول دون تمييز.
الثانية، الارتقاء بمستوى الحوار السياسي إلى أعلى درجة، من خلال دبلوماسية تركية نشطة.
الثالثة، التكامل الاقتصادي مع الشرق الأوسط من خلال الترابط التجاري المتبادل، باعتباره شرطاً رئيساً لإحلال السلام في المنطقة.
الرابعة، احترام التعددية الثقافية والمذهبية والعرقية في المنطقة، كشرط من شروط الاستقرار في المنطقة[13].
ساهمت هذه السياسة في تحرير السياسة الخارجية التركية من احتكار المحور الغربي لها، وحسّنت صورتها في المنطقة، ومنحتها القدرة على لعب دور في القضية الفلسطينية وتقبل هذا الدور من قبل الفلسطينيين والعرب، وأعادت صياغة علاقة التحالف بينها وبين دولة الاحتلال، وعمّقت علاقاتها مع الجانب الفلسطيني مع الوقت.
فالسنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية لم تشهد أي تغير ملحوظ في العلاقات مع تل أبيب. عام 2005، زار كل من وزير الخارجية في حينها عبدالله غل ثم رئيس الوزراء في حينها رجب طيب اردوغان “إسرائيل” لدعم “جهود السلام”[14]، ولعبت أنقرة دور الوسيط بين “إسرائيل” وبعض الدول العربية والإسلامية، من ذلك ترتيب لقاء بين وزيري خارجية “إسرائيل” وباكستان في 2005[15]، والتوسط في مفاوضات تسوية غير مباشرة بين “إسرائيل” وسوريا عام 2008[16].
لكن العدوان الصهيوني على قطاع غزة نهايات 2008 وبدايات 2009 كان نقطة تحول في العلاقات بين تركيا و”إسرائيل” حيث اعتبرته الأولى طعنة في ظهرها وخيانة لجهدها المبذول على جبهة العلاقات السورية – “الإسرائيلية” والتي رعت تركيا فيها مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين[i]. مرت العلاقات الثنائية لاحقاً بعدة محطات من التوتر والأزمات، أهمها حادثة منتدى دافوس الشهيرة بين اردوغان وبيريز[17]، وأزمة إهانة السفير التركي[18]، وصولاً للأزمة الكبرى والقطيعة الدبلوماسية إثر اعتداء القوات “الإسرائيلية” على سفينة مافي مرمرة المتجهة إلى قطاع غزة لكسر الحصار عنه في المياه الدولية وسقوط 10 شهداء أتراك عام 2010[19]، قبل أن يوقع الطرفان اتفاقاً لتطبيع العلاقات الدبلوماسية في 2016[20].
تركيا ودولة الاحتلال
يتضح مما سبق أن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب قديمة وعميقة رغم مرورها بالكثير من مراحل المد والجزر، فانضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي منذ عام 1952 وسعيها منذ منتصف القرن الماضي لدخول الاتحاد الأوروبي قربها من “إسرائيل” وأبعدها عن العالم العربي لعشرات السنين.
وحتى في ظل العدالة والتنمية، ومع القطيعة الدبلوماسية بين الطرفين، إلا أن العلاقات التجارية والاقتصادية بقيت نشطة ومتنامية. لكن عودة العلاقات بين الطرفين بعد اتفاق التطبيع في 2016 لم يعنِ العودة لحالة التحالف الاستراتيجي السابقة.
وقبل تحليل الوضع الحالي ومحاولة استشراف المستقبل، ينبغي الوقوف على المحددات التي شكلت وتشكل إطار علاقة تركيا في عهد العدالة والتنمية بدولة الاحتلال، وأهمها:
أولاً، البناء على العلاقة الممتدة بين الطرفين على مدى عشرات السنوات، وعدم القدرة على – وربما غياب النية لـ – إحداث تغييرات جذرية ومباشرة فيها لأسباب متعددة، وعلى ذلك دلائل وقرائن كثيرة.
ثانياً، مراعاة الأوضاع السياسية في البلاد حين تسلم الحزب الحكم، وخصوصاً وصاية المؤسسة العسكرية التركية على المشهد السياسي، وهي صاحبة العلاقات المتميزة مع “إسرائيل” والتي أجبرت رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان ذا الخلفية الإسلامية على توقيع أوسع وأخطر الاتفاقيات العسكرية والأمنية بين الطرفين في تاريخ الجمهورية التركية قبل أن تجبره على الاستقالة بعدها بقليل.
ثالثاً، وضع العلاقة تحت بند الخطوط العامة للأمن القومي التركي ومصالح تركيا التي أعاد الحزب الحاكم تفسيرها وصياغتها ولم ينقلب عليها بشكل دراماتيكي.
رابعاً، نظرية الحزب في ضرورة تطويع السياسة للاقتصاد في السياسة الخارجية أي “الارتباط المعزز” بينهما في ظروف العلاقات الطبيعية مع الدول، والفصل أو “فك الارتباط” بينهما في فترات التوتر، أي الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية رغم الخلافات السياسية، وهو ما فعلته تركيا بعد أزمة الاعتداء على سفينة مرمرة في 2010[21].
خامساً، تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أي طرف، وصعوبة تحركها منفردة دون شركاء إقليميين، بغض النظر عن مدى ارتفاع سقف الخطاب.
سادساً، اعتبار العلاقة مع دولة الاحتلال جزءاً من منظومة علاقات تركيا الغربية – الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي – ومفتاحاً لنيل ثقة هذه الأطراف من خلال العلاقة الجيدة – أو على الأقل غير المتأزمة – معها.
سابعاً، حاجة تركيا لـ”إسرائيل” في عدة مجالات وتحديداً التعاون الأمني وتطوير الأسلحة والصناعات الدفاعية في سنوات حكم العدالة والتنمية الأولى، وهي الحاجة التي تراجعت كثيراً مع مرور السنوات لكنها لم تنته تماماً.
ثامناً، مراعاة التدرج في العلاقة، بحيث تنعكس قوة وضع الحزب الداخلي على العلاقة مع دولة الاحتلال، تخففاً من بعض الالتزامات والروابط، بشكل هادئ وبطيء لا يؤدي إلى أزمات حادة معها ولا يستثير الغرب ضد أنقرة.
تاسعاً، عدم تجاوز السقف العربي – الدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والالتزام بالحل السياسي لها وفق رؤية “حل الدولتين” والمبادرة العربية للسلام، بل والدعوة لإشراك حركة حماس في عملية التسوية[22].
عاشراً، عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي للفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية لعدم الإضرار بالعلاقة مع دولة الاحتلال قبل الأزمة معها[23].
وبناء على هذه المحددات وفي ضوئها نسج العدالة والتنمية علاقات تركيا مع “إسرائيل” على مدى سنوات، حتى تأزمت العلاقة معها على عدة مراحل كما ورد آنفاً. ورغم أن الحكومة التركية لم تكن داعمة لفكرة أسطول الحرية ورحلته لكسر الحصار عن قطاع غزة عام 2010، إلا أن الاعتداء عليه وقتل عشرة مواطنين أتراك (تسعة مباشرة، وواحد بعد أشهر من العلاج تأثراً بجراحه) وضعها في موقف الذود عن سيادة البلاد ومواطنيها.
ولذلك فقد اتخذت تركيا عدداً من الإجراءات العقابية تجاه “إسرائيل”، مثل سحب السفير التركي وطرد السفير “الإسرائيلي”، وإلغاء مناورات عسكرية ثنائية مبرجمة مسبقاً، وإلغاء صفقات سلاح ومنها شراء طائرات بدون طيار منها، فضلاً عن تجميد عشرات الاتفاقيات في مختلف المجالات معها[24]. وأعلنت شروطها الثلاثة لعودة العلاقات إلى سابق عهدها مع “إسرائيل”، والتي تمثلت في الاعتذار عن الاعتداء، ودفع تعويضات مادية لعائلات الشهداء العشرة، وكسر الحصار عن قطاع غزة.
أتت إعادة العلاقات مع تل أبيب ضمن رؤية ناظمة للسياسة الخارجية التركية بعد 2015 أسمتها حكومة بن علي يلدرم “تكثير عدد الأصدقاء، وتقليل عدد الخصوم” في المنطقة والعالم[25]، لعدة أسباب أهمها:
1- إخفاق تركيا في إحداث اختراقات مهمة على صعيد السياسة الخارجية خلال السنوات القليلة الأخيرة وخاصة في الملف السوري.
2- العزلة التي عانت منها أنقرة في الإقليم على خلفية مواقفها وتناقضها مع عدد من الدول الفاعلة، بعد انقطاع أو تراجع العلاقات مع كل من إيران والعراق وسوريا ومصر والإمارات ودولة الاحتلال ثم لاحقاً روسياً، وعدم توافقها التام مع حلفائها الغربيين في الناتو والاتحاد الأوروبي. ويضاف لذلك الضغوط الغربية على تركيا لمحاولة إعادة احتوائها ضمن المنظومة الغربية بعد أن أبدت توجهاً نحو هامش استقلالية نسبي في سياستها الخارجية، من خلال اتهامها بدعم “الإرهاب”[26].
3- الأجندة التركية المحلية المزدحمة بأحداث خطيرة ومتلاحقة، والتي أدت لضعف قدرة تركيا على التركيز والإنجاز في الملفات الخارجية، أهمها أحداث “جزي بارك”[27]، وادعاءات الفساد بحق الحكومة والحزب عام 2013[28]، ثم استئناف حزب العمال الكردستاني لعملياته العسكرية عام 2015، فضلاً عن منافسات انتخابية وتغيرات في المشهد السياسي الداخلي للحزب وتركيا في مقدمتها الفترة الانتقالية بين انتخابات حزيران/يونيو وتشرين الثاني/نوفمبر 2015 وما تميزت به من عدم استقرار سياسي وهزات اقتصادية وتردي الحالة الأمنية.
4- الأزمة التركية – الروسية على هامش إسقاط أنقرة لمقاتلة روسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، والتي تسببت بخسارتين استراتيجيتين لتركيا: الأولى عسكرية – ميدانية أمام روسيا والثانية سياسية – استراتيجية أمام حلفائها الغربيين بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فتحولت من دولة إقليمية صانعة للسياسات إلى مجرد ترس ضمن ماكينة الناتو، ثم مسار تطبيع العلاقات مع روسيا الذي تضمن تغير سقف تركيا في الأزمة السورية[29].
هذه الأسباب وغيرها دفعت تركيا لاعتماد ثلاثة متغيرات مهمة في سياستها الخارجية، هي تدوير زوايا الخلاف مع عدد من الدول والقوى منها دولة الاحتلال وروسيا والإمارات وإيران، وإدماج شيء من القوة الخشنة مع القوة الناعمة المعتمدة حصراً في السابق مثل القواعد العسكرية في العراق والصومال وقطر والعمليات العسكرية خارج الحدود سيما في سوريا، والبحث عن شراكات ومسارات تعاون مع عدة أطراف في مقدمتها قطر والسعودية ثم روسيا ثم إيران[30].
وإضافة لهذه الرؤية وأسبابها، كان ثمة شعور بالحاجة للعلاقات مع تل أبيب لعدة سياقات، أهمها دور الأخيرة المرغوب تركياً في ترطيب الأجواء مع واشنطن لتقليل دعمها المقدم للفصائل الكردية المسلحة في سوريا والمصنفة على قوائم الإرهاب التركية، والرغبة في دعم الجالية اليهودية الفاعلة في روسيا لمسار التقارب بين أنقرة وموسكو، والتعاون الاستخباري في ظل حالة السيولة السائدة في المنطقة منذ فترة، ومحاولة حجز مكان لأنقرة في السيناريوهات التي ترسم لمستقبل المنطقة، فضلاً عن الطموح بلعب دور المستورد والممر للغاز الطبيعي شرقي المتوسط الذي تخطط دولة الاحتلال لتصديره خلال سنوات.
أما بالنسبة لدولة الاحتلال، فيبدو أن التطورات المتسارعة في المنطقة وخصوصاً في المشهد السوري إضافة إلى حالة عدم الاستقرار والضبابية العامة في الإقليم قد دفعتها لخطب ود حليفتها القديمة، فضلاً عن الملف الاقتصادي في بعد الطاقة تحديداً الغاز الطبيعي[31].
الأسباب سابقة الذكر والحاجة التركية للاتفاق دفعتا بأنقرة إلى تنازلات نسبية في شروط إعادة العلاقات، فقبل اردوغان اعتذار نتنياهو على الهاتف بعد أن كان اشترط أن يكون مكتوباً وعلنياً، ثم قبلت تركيا أن تتحول صيغة “التعويضات” بكل ما تحمله من مسؤولية سياسية وجنائية وقانونية للاحتلال إلى صيغة “صندوق” يوزع المال على عوائل الشهداء، وفي مقابل إلغاء كل الدعاوى المرفوعة في تركيا ضد مسؤولين صهاينة، بينما تحول شرط كسر الحصار على غزة إلى إجراءات لتخفيف الحصار وإدخال مساعدات على هامش الاتفاق وليس كجزء منه[32].
تبادل الطرفان السفراء، وعقدا لقاءً تشاورياً هو الأول من نوعه منذ 2010، وزار وزير السياحة التركي تل أبيب، وزار وفد اقتصادي تركي “إسرائيل” متوقعاً نمو التجارة البينية، وزار وزير الطاقة “الإسرائيلي” تركيا والتقى نظيره التركي.
من جهة أخرى، أكد أكثر من مسؤول تركي أن العلاقات مع تل أبيب لن تكون على حساب الفلسطينيين، ولن تعني أن تركيا ستصم آذانها عن الظلم الواقع عليهم[33]، أو أنها ستغير سياساتها تجاه القضية الفلسطينية[34]، أو ستعتبر حماس حركة إرهابية مثلاً[35].
في حساب الإيجابيات والسلبيات، ثمة إيجابيات شكلية أو تفصيلية قد تلمس الفلسطينيين مثل إجراءات تخفيف الحصار (التي يمكن للاحتلال أن يتراجع عنها لاحقاً) أو إمكانية لعب تركيا دوراً ضاغطاً على الاحتلال أو ضابطاً لمواقفه لاحقاً. لكن هذه “الإيجابيات” المفترضة تكاد تكون لا شيء أمام الخسائر الاستراتيجية لتقارب دولة مسلمة بحجم تركيا مع دولة الاحتلال وعودة التنسيق الاستخباري والعسكري بينهما إضافة إلى احتمالية كسر الحاجز النفسي الذي بني على صعيد الشعب التركي على مدى سنوات، و”تعاون” الطرفين في المؤسسات الدولية وهو الذي بدأ قبل إبرام الاتفاق حين رفعت تركيا “الفيتو” على مشاركة الكيان في مناورات حلف شمال الأطلسي ولم تعترض على اختيار لجنة غرب أوروبا لمرشحه لرئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، وهو ما كان لاحقاً[36].
بعد اتفاق إعادة العلاقات، المتوقع والحاصل حتى الآن هو عودة التمثيل الدبلوماسي وتطور العلاقات الاقتصادية في قطاعي التجارة البينية والسياحة تحديداً، والتعاون بدرجة أو بأخرى تحت أطر المنظمات الدولية – وخاصة حلف الناتو – في القضايا ذات الاهتمام المشترك، لكن باحتفاظ كل طرف برؤيته وأولوياته بل وهواجسه من الطرف الآخر. وأما العودة لحالة التحالف الاستراتيجي التي ميزت العلاقات بينهما في تسعينات القرن الماضي فمستبعدة جداً للأسباب التالية:
أولاً، فجوة الثقة الكبيرة بين الطرفين والتي ترجع جذروها لبدايات العدالة والتنمية، ثم تطورت مع محطات التأزم في العلاقة مثل حادثة دافوس والاعتداء على سفينة “مافي مرمرة”، لتصل لذروتها في سنوات القطيعة، وكان من تمظهراتها الشماتة العلنية لوزراء في الحكومة “الإسرائيلية” بتراجع العدالة والتنمية في انتخابات حزيران/يونيو 2015 مثلاً في ظل استمرار مفاوضات التقارب.
ثانياً، تركيا اليوم ليست تركيا تسعينات القرن الماضي، لا لجهة الخلفية الفكرية والسياسية للحزب الحاكم، ولا لجهة العلاقات المدنية – العسكرية فيها، ولا على مستوى الحاجز النفسي لدى الشعب التركي إزاء تل أبيب خاصة بعد سقوط شهداء على يد مؤسستها العسكرية وعلى مدى ست سنوات من التصعيد السياسي والإعلامي ضدها، ولا من زاوية الحاجة الملحة لدولة الاحتلال في تطوير الأسلحة وتدريب الطيارين والتصنيع الدفاعي وغيرها من المجالات بعد أن قطعت أنقرة أشواطاً كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية في هذه المجالات سعياً نحو الاكتفاء الذاتي.
ثالثاً، رغم التقارب المفترض بين الجانبين واتفاق المصالحة بينهما وعدد من المهددات المشتركة وفق تقييم صناع القرار فيهما، إلا أن الإطار الناظم للسياسة الخارجية لكل منهما يكاد يتضاد مع الآخر أو على الأقل يتقاطع معه، من قبيل شبكة علاقات تركيا مع الدول الإقليمية والقوى المختلفة في العالم العربي وفي مقدمتها الحركات الإسلامية وموقفها العام من مختلف قضايا المنطقة.
رابعاً، حالة عدم الاستقرار في المنطقة ككل، وكثرة التقلبات وتبدل أولويات الدول المختلفة فيها، وعدم ثبات الوضع الداخلي لعدد من الدول المؤثرة فيها بما لا يخدم فكرة التحالفات الدائمة أو الشراكات الراسخة طويلة المدى بين أي طرفين بشكل عام وتركيا ودولة الاحتلال على وجه الخصوص.
خامساً، أن المصالحة تمت في الغالب تحت عنوان “اتفاق الضرورة” بالنسبة للطرفين، وبالتالي يتوقع للعلاقات أن تسير وفق الحد الأدنى من التواصل الدبلوماسي والتعاون التجاري، على الأقل في الفترة الأولى.
سادساً، سيعتمد تطور العلاقات بين الجانبين إلى حد كبير على أداء الحكومة “الإسرائيلية” وسياساتها ضد الفلسطينيين، وهي سياسات ستستجلب إدانات تركية في حال الانتهاكات المتوقعة على صعيد العدوان على غزة أو اقتحامات المسجد الأقصى وغيرها كما حصل مؤخراً[37]، وهي توترات ستساهم في فرملة تطور العلاقات الثنائية بشكل كبير.
وليس من المنتظر انعكاس هذا السيناريو بشكل كارثي على الطرف الفلسطيني، وخاصة حركة حماس، فالعلاقة بين تركيا والحركة ليست مبنية بشكل كامل على الخلاف التركي – “الإسرائيلي” ولذلك لم تتبدل بنسبة 180 درجة بعد عودة العلاقات. بل شهدنا محطات أكدت هذا المعنى مثل رعاية اردوغان ورئاسة البرلمان التركي مبادرة إنشاء “رابطة برلمانيين لأجل القدس” الدولية في إسطنبول[38].
كما أنه لا ينبغي إغفال إدراك تركيا للأجندة الصهيونية المعادية لها في المنطقة، بما في ذلك التعاون مع اليونان وقبرص وغيرهما فيما يتعلق بموضوع الغاز الطبيعي والطاقة، ودعم مسار انفصال واستقلال إقليم كردستان العراق الذي تمانعه أنقرة وتعتبره مما يضر أمنها القومي[39].
تركيا والقضية الفلسطينية
حظيت القضية الفلسطينية باهتمام خاص من حزب العدالة والتنمية لعدة اعتبارات، أهمها:
- الروابط الدينية والثقافية والفكرية المشتركة بين الشعبين التركي والفلسطيني.
- الخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية واعتبار تركيا نفسها وريثة للدولة العثمانية آخر الدول ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية، وبالتالي استشعارها لمسؤولية خاصة تجاهها.
- التناغم مع الشارع التركي الذي يظهر تعاطفاً كبيراً بمختلف أطيافه وخلفياته السياسية والفكرية والأيديولوجية مع القضية الفلسطينية.
- إدراك تركيا أن القضية الفلسطينية هي أحد أهم مفتايح العبور للقبول والتأثير ولعب الأدوار في المنطقة.
- ترى تركيا أن القضية الفلسطينية ورقة رابحة في الساحة الدولية لمن يمتلك فيها تأثيراً، خصوصاً على مستوى العلاقة مع قوى المقاومة مثل حركة حماس، وهو ما قد يفسر مثلاً تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو بأن حماس وصلت إلى مرحلة القبول بالاعتراف بـ”إسرائيل” وأن بلاده كان لها الدور الأكبر في ذلك[40].
- نظرية أنقرة في السياسة الخارجية قائمة على تصفير المشاكل والتواصل الاقتصادي – التجاري وتحتاج لمناخ هادئ، وهذا أحد الأسباب التي تدفع تركيا للمساهمة في حل القضية.
- مظلومية الشعب الفلسطيني وأحقيته في أرضه المحتلة وفق القانون الدولي الذي يعتبر أحد أهم أعمدة الموقف التركي من القضية.
- الخلفية الأيديولوجية والفكرية لمعظم قيادات الحزب كإسلاميين خرجوا من عباءة تيار “الفكر الوطني” أو “ميللي غوروش” الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان، وإن كان الحزب بحد ذاته ديمقراطياً محافظاً وليس أيديولوجياً أو “إسلامياً” بالمعنى المتداول عربياً[41].
أسهمت هذه العوامل والاعتبارات وغيرها في صياغة علاقة خاصة بين القيادة التركية الجديدة والقضية الفلسطينية، بيد أن هذا الاهتمام لم يتحول أبداً لانحياز كامل للفلسطينيين ولم يكن موقفاً أو دعماً بلا سقف، بل أطرته دائماً عدة محددات مهمة، أهمها:
- الالتزام بالخطوط العامة للأمن القومي التركي وشبكة مصالحه، التي أعاد العدالة والتنمية تفسيرها أو صياغتها ولم ينقضها أو يناقضها تماماً، بمعنى أن المصالح كانت دائماً مقدمة على الأخلاق والمبادئ، وإن استطاعت أنقرة في معظم الأحيان الجمع بين الطرفين.
- التحرك ضمن المنظومة الدولية، واستشعار الحدود المسموح بها في السياسة الخارجية وفق اعتبارات عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي وملف عضويتها الموضوع على طاولة الاتحاد الأوروبي وتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية.
- الالتزام بالحل السياسي للقضية الفلسطينية، وفق رؤية “حل الدولتين” والمبادرة العربية للسلام، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك بالدعوات المتكررة لإشراك حركة حماس في العملية السياسية ونصحها بإلقاء السلاح، وهي دعوات صدرت من رئيس الوزراء التركي السابق والرئيس الحالي رجب طيب اردوغان بعد انتخابات 2006 حين دعا حماس لإلقاء السلاح والتحرك نحو الاعتدال، كما تكررت على لسان وزير الخارجية التركي السابق كما ورد آنفاً.
- عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي، خصوصاً في العلاقة مع الفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية.
- الحفاظ على علاقات جيدة ومتوازنة مع جميع الأطراف الفلسطينية، والتعامل مع القضية الفلسطينية من بوابة السلطة والرئيس الفلسطيني محمود عباس، بالرغم من نتائج انتخابات 2006 في أراضي السلطة الفلسطينية التي فازت فيها حركة حماس.
- عدم الإضرار قدر الإمكان بعلاقات تركيا الإقليمية والدولية، وخصوصاً مع دولة الاحتلال قبل القطيعة السياسية بينهما.
- اعتماد التدرج في تقديم الدعم للفلسطينيين، باعتبار أن السياسة الخارجية أحد تمظهرات متانة المشهد السياسي الداخلي ونتائجها المباشرة، وبذلك فقد ازداد انخراط تركيا العدالة والتنمية في القضية الفلسطينية وارتفع سقف خطابها وموقفها منها مع مرور الوقت وتراكم إنجازات الحزب وشعوره بنوع من الاستقرار الداخلي والالتفاف الجماهيري إضافة للمكانة الإقليمية، مستفيدة من اللعب في المساحات الرمادية.
- تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أي طرف، وصعوبة تحركها – من الناحية الفعلية – منفردة ودون شركاء إقليميين، بغض النظر عن ارتفاع سقف الخطاب.
- اهتمام خاص بمدينة القدس لرمزيتها وتاريخها العثماني ووضعها القانوني، فضلاً عن أولوية الملفات الإنسانية مثل حصار قطاع غزة[42].
وبناء على هذه الأسس، فقد سارت تركيا في سياستها تجاه القضية الفلسطينية بشكل متدرج ومتصاعد، ففي حين زار كل من وزير الخارجية عبدالله غل ورئيس الوزراء اردوغان دولة الاحتلال عام 2005 في محاولة للعب دور الوسيط بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، اتخذ الموقف التركي منحى جديداً مع الانتخابات البرلمانية في الأراضي الفلسطينية وتقدم حركة حماس فيها عام 2006 بحيث أغضب استقبالها “المرتبك” لقيادات الحركة دولة الاحتلال.
بنت تركيا على مدى السنوات العشر الفائتة علاقات جيدة مع مختلف الأطياف الفلسطينية، فبقيت السلطة ورئيسها البوابة الرسمية للتعامل مع القضية، لكنها نسجت إلى جانب ذلك علاقات جيدة أيضاً مع حركة حماس كحركة سياسية فلسطينية لها ثقلها ودورها وتمثيلها للشعب الفلسطيني بعد انتخابات 2006. كما نشطت الدبلوماسية التركية إلى جانب الفلسطينيين في المحافل الدولية ومن أهم المحطات الجهد التركي المبذول لقبول فلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012[43].
إضافة لذلك، نشطت المؤسسات الرسمية والشعبية والإغاثية التركية في تمويل وتنفيذ المشاريع المختلفة في الضفة والقطاع، وإرسال قوافل الإغاثة وكسر الحصار، إضافة لاستضافة تركيا على أراضيها الكثير من الشخصيات والمؤسسات الفلسطينية سيما بعد الأزمة السورية ومغادرة الكثير من الفلسطينيين لسوريا باتجاه تركيا.
سعت أنقرة دائماً للعب دور على صعيد العلاقات الفلسطينية – الفلسطينية، لكنها كانت تدرك دائماً وحريصة على تأكيد عدم منافستها الدور المصري، نظيراً للدور الأردني في رعاية المسجد الأقصى الذي أكدت أنقرة عليه وعلى دعمه خلال أحداث المسجد الأقصى في آب/أغسطس 2017[44]. وقد أضافت تركيا لهذه المواقف مبادرات عدة مثل رابطة برلمانيين لأجل القدس، واستضافت فعاليات كثيرة للفلسطينيين في مقدمتها المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج في شباط/فبراير 2017.
وأما المفاوضات الفلسطينية – “الإسرائيلية”، فلا يبدو أن تركيا استطاعت أن تلعب دوراً بارزاً على صعيدها لعدة أسباب من بينها تعثر عملية التسوية والرفض “الإسرائيلي” لمبدأ حل الدولتين إضافة لتراجع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب وانقطاع التمثيل الدبلوماسي بينهما الأمر الذي حدَّ كثيراً من إمكانية لعب أنقرة لدور الوسيط.
محفزات ومعيقات الدور التركي
تتمتع تركيا بعلاقات جيدة جداً مع حركة حماس كما تتعامل مع القضية الفلسطينية من بوابة السلطة ومحمود عباس بشكل رسمي، بما يعني أنها على علاقات جيدة مع طرفي الانقسام الفلسطينية منذ 2007. ورغم ذلك فإن قدرة تركيا على إحداث اختراق في عملية المصالحة الداخلية الفلسطينية محدودة جداً رغم رغبتها في ذلك، لأسباب عدة في مقدمتها شبه احتكار مصر للملف الفلسطيني. وقد جربت تركيا مراراً التوسط بين حركتي فتح وحماس لإنهاء حالة الانقسام الداخلية بما في ذلك زيارة محمود عباس الأخيرة لها في آب/أغسطس الفائت دون جدوى.
وقد أثبتت مصر فعلاً أنها الأقدر على لعب دور مؤثر في هذا الملف بسبب حقائق الجغرافيا والخلفية التاريخية لعلاقة مصر بالقضية الفلسطينية ومختلف الفصائل. ويبدو أن جولة المصالحة الأخيرة في تشرين الأول/أكتوبر الفائت مختلفة شيئاً كثيراً عن كل سابقاتها وتحمل فرص نجاح أكبر منها جميعاً، الأمر الذي قابلته أنقرة بمباركة الخطوة الأخيرة بين الفصيلين الأكبر على الساحة الفلسطينية[45].
وأما على الصعيد الفلسطيني – “الإسرائيلي”، بمعنى مفاوضات التسوية بين السلطة و”إسرائيل” أو مفاوضات تبادل الأسرى والجنود بين حماس والأخيرة أو جهود رفع الحصار عن غزة، فتبقى فرص تركيا للعب دور مهم قائمة، وتعتمد بشكل كبير على موازنة العوامل المساندة وتلك المعيقة للعب تركيا دوراً فاعلاً في هذا الملف.
من أهم محفزات لعب تركيا حالياً ومستقبلاً دوراً بارزاً على هذا الصعيد ما يلي:
أولاً، رغبة تركيا بلعب دور في هذا الملف، من واقع إدراكها لأهمية القضية الفلسطينية لأي قوة تبحث عن مكانة لها على الساحتين الإقليمية والدولية، وأنها بوابة العبور للقبول والتأثير في المنطقة، ولإحداث اختراق ما في ظل انسداد الأفق أمام القضايا الأخرى الأكثر سخونة في المنطقة.
ثانياً، عودة العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب يفتح الباب – ولو نظرياً ومبدئياً على الأقل – لتركيا للعب هذا الدور، وقد سوّقت تركيا اتفاق إعادة العلاقات على أنه سيكون لصالح الفلسطينيين من خلال عودتها للعب دور فقدته خلال القطيعة مع تل أبيب.
ثالثاً، خطوات المصالحة الفلسطينية مؤخراً قد تساهم في تشكيل أرضية صالحة لأي تحرك سياسي بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، وسيساعد تمتع تركيا بعلاقات جيدة مع طرفي المعادلة الفلسطينية (حماس والسلطة) على لعبها دوراً ما.
رابعاً، إمكانية توسط أنقرة في ملف تبادل الأسرى بين حماس والكيان الصهيوني، بفضل علاقاتها المميزة مع الأولى وعودة علاقاتها مع الثانية، وقد عبر المسؤولون الأتراك عن رغبتهم في ذلك[46].
خامساً، تراجع الدور المصري في المنطقة بشكل عام، مما يترك فراغاً قد يتيح لتركيا الدخول على خط المفاوضات وهو احتمال ضعيف بكل الأحوال لكنه يبقى قائماً.
سادساً، الحرص على الاتفاق مع “إسرائيل” على تصدير غاز شرقي المتوسط إلى تركيا وعبرها إلى أوروبا، ولا شك أن مما سيساعد على ذلك سير عجلة المسار السياسي بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”.
في المقابل، ثمة عقبات وتحديات حقيقية أمام أي دور تركي فاعل ومؤثر على صعيد المفاوضات الفلسطينية – “الإسرائيلية”، في مقدمتها:
أولاً، تنكر “إسرائيل” لحل الدولتين واعتباره شيئاً من الماضي لم يعد قائماً ووأدها لمسار أوسلو بالكامل.
ثانياً، فجوة الثقة المستمرة بين أنقرة وتل أبيب رغم عودة العلاقات الدبلوماسية وما رسخته فترة القطيعة من جفاء بين الطرفين من الصعب محوه وتجاوزه سريعاً، ولعل في تصريحات بعض السياسيين “الإسرائيليين” ما يدلل على التوجس من تركيا والرئيس التركي اردوغان تحديداً[47].
ثالثاً، هدوء القضية الفلسطينية وجمود مساراتها المختلفة، بما يصعّب من تدخل دولة مثل تركيا ارتبطت مقارباتها للقضية في السنين الأخيرة بحالات التصعيد وسخونة الأحداث.
رابعاً، الملفات الداخلية الملحة في تركيا بما يشغلها عن لعب أدوار ذات تأثير في الإقليم عامة وفي القضية الفلسطينية خاصة، مثل المحاولة الانقلابية الفاشلة وتبعاتها، ومكافحة ما يسمى “الكيان الموازي” والمواجهة العسكرية والأمنية مع حزب العمال الكردستاني، والفترة الانتقالية الحالية استعداداً لبدء تطبيق النظام الرئاسي في البلاد نهايات 2019.
خامساً، الملفات الإقليمية اللاهبة التي تستنفد جهود تركيا لتماسها المباشر مع حدود أمنها القومي، سيما القضيتين السورية والعراقية، وخصوصاً المشروع السياسي الكردي في المنطقة والذي تعتبره أنقرة أولوية سياستها الخارجية في سوريا خصوصاً والمنطقة عموماً.
سادساً، عمل تل أبيب في الإقليم ضد المصالح التركية، بما في ذلك التواصل والتعاون مع مصر واليونان وقبرص في ملف الغاز الطبيعي، ودورها المفترض في المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016[48]، ودعمها لمسار استقلال كردستان العراق الذي تعارضه أنقرة.
في محصلة كل هذه العوامل المساندة لأي دور تركي مفترض في القضية الفلسطينية وتلك المعيقة له، يتضح أن الظروف الحالية لا تساعد أنقرة على لعب دور بارز في الفترة الحالية والمستقبل القريب، سيما وأن الكثير من العوامل المذكورة – سيما المُعيقة منها – غير مرشحة لتغيرات جذرية أو واسعة على المديين القريب والمتوسط. لكن ذلك لا يعني أيضاً أن فرص تركيا معدومة أو غير ممكنة على المدى البعيد بسبب بعض المتغيرات التي قد تحمل جديداً على هذا الصعيد.
متغيرات مستقبلية
على صعيد المصالحة الفلسطينية الداخلية، كما سبق تفصيله، لا تملك تركيا إمكانات واسعة للعب دور مهم فيها رغم رغبتها المبدئية بذلك، إذ تبدو مصر ممسكة بغالبية أوراق القضية الفلسطينية سيما ما يتعلق بترتيب البيت الداخلي الفلسطيني لما تملكه من علاقات مع مختلف الأطراف فضلاً عن إكراهات الجغرافيا السياسية. ولذلك مثلاً، ورغم عديد التسريبات التي تحدثت عن دور تركي ملموس للتقريب بين حركتي فتح وحماس خلال زيارة الرئيس الفلسطيني إلى أنقرة مؤخراً، إلا أنها لم تسفر عن نتائج في هذا الإطار، بل وجاء قرار حماس بترك ملف “اللجنة الإدارية” كوديعة في يد القاهرة ثم قرار حلها بعد أيام من هذه الزيارة، بمعنى أن حماس التي تنظر لأنقرة على أنها حليف أو صديق لها لم تعطها أو لم تستطع إعطاءها هذا الإنجاز وقدمته لمصر.
وأما على الصعيد الفلسطيني – “الإسرائيلي”، بمعنى التأثير في عملية التسوية أو حصار قطاغ غزة أو عملية لتبادل الأسرى أو أي عناوين أخرى، فرغم ضيق الممكنات التركية على هذه الصعد حالياً لعدة أسباب في مقدمتها علاقات تركيا الغربية وتدهور علاقاتها مع كل من تل أبيب والقاهرة فضلاً عن المتغيرات المحلية والإقليمية، إلا أن المتغيرات المحتملة التالية قد تفتح لأنقرة آفاقاً للعب أدوار على هذه الصعد:
أولاً، أزمة العلاقات التركية – الأمريكية. لطالما كانت تركيا مجرد قاعدة متقدمة لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة في مواجهة المد الشيوعي، لكن العلاقة تغيرت بعد نهاية الحرب الباردة وتبدلت جذرياً مع العدالة والتنمية الذي سعى لشيء من الاستقلالية في سياسته الخارجية. تخطت العلاقات بين الطرفين علاقة الشراكة الاستراتيجية التي أعلناها في 1995، وسردية “النموذج التركي” الذي أعلنه أوباما عام 2009.
على مدى السنوات الماضية، مرت العلاقة بين الطرفين بأزمات متعددة ومتتالية، وثمة ملفان حاضران بقوة على مسار تأزم العلاقات بينهما: الدعم الأمريكي لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وأذرعه العسكرية في سوريا رغم التحفظات التركية ومماطلة واشنطن في التعاون مع أنقرة في ملف تسليم أو التحقيق مع فتح الله كولن زعيم التنظيم الموازي المتهم بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، إضافة لملفات أخرى أقل أهمية وحضوراً[49].
هذا التوتر في العلاقات وشعور تركيا بأن الولايات المتحدة تعمل ضد مصالحها في سوريا تحديداً والمنطقة عموماً دفع بالأخيرة لاتخاذ قرارات مصيرية دون التنسيق معها لم تكن لتأخذها سابقاً، مثل عملية درع الفرات في الشمال السوري بين آب/أغسطس 2016 وآذار/مارس 2017، وغيرها من القرارات.
ولا شك أن هذا التناقض في المصالح بين الولايات المتحدة وتركيا من جهة، والتقارب بين الأخيرة وروسيا من جهة أخرى يفتحان أمام أنقرة آفاقاً وممكنات كثيرة لم تكن متاحة في السابق على صعيد سياساتها في المنطقة. ولأن العلاقة مع دولة الاحتلال ومقاربة القضية الفلسطينية أحد أهم أسس السياسة الأمريكية في المنطقة فإن مسار العلاقات مع أنقرة، والمرشح لمزيد من التدهور والاضطراب والتراجع وربما التأزم، يجعل من المنطقي انتظار مواقف تركية أعلى سقفاً في القضية الفلسطينية مع استمرار هذا المنحنى السلبي في العلاقات مع واشنطن.
ثانياً، التوتر مع الاتحاد الأوروبي. يفرض ملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي ومسار التفاوض الذي بدأ بينهما عام 2005 نوعاً من الوصائية الأوروبية على تركيا خصوصاً في مسار السياسة الخارجية، الأمر الذي يضع بعض القيود عليها مما قد يشمل – جزئياً – ما تستطيع تقديمه في القضية الفلسطينية. اليوم، عملية التفاوض مجمدة وثمة نداءات تتصاعد في أروقة الاتحاد تطالب بتجميد أو إلغاء مسار الانضمام برمته بعد قرار التوصية من البرلمان الأوروبي بتجميد التفاوض[50]، ولا يبدو أن مسار العضوية ما زال هدفاً عملياً لأنقرة التي يصر قادتها على أنهم لن يكونوا المبادرين لإلغاء هذا المسار، وبالتالي فالآن عملياً ولاحقاً رسمياً يمكن لتركيا أن تشعر بأريحية أكبر في مقاربة القضية الفلسطينية سيما إذا ما أضفنا ذلك لمجمل مسار السياسة الخارجية التركية المتأزمة مع واشنطن والمتقاربة مع الشرق.
ثالثاً، التقارب مع إيران. حكمت العلاقات بين أنقرة وطهران خلال فترة حكم العدالة والتنمية مصالح اقتصادية كبيرة وتعاون في الكثير من المجالات سيما خلال فترة حصار إيران، بلغت ذروتها في الاتفاق الثلاثي مع البرازيل لتبادل الوقود النووي عام 2010[51]. بيد أن التعاون تحاول لتنافس محموم مع الثورات العربية سيما السورية، ووصل لذروته عام 2015 حين نددت تركيا بـ”السياسات المذهبية والعرقية” لإيران في المنطقة بينما هدد رئيس الأركان الإيراني في حينها بتحويل “سوريا إلى مقبرة للأتراك”.
منذ ذلك الوقت، بدأ حدة التوتر تتراجع ولغة التنسيق والتفاهم تتقدم على محور العلاقة بين أنقرة وطهران، وصولاً للفترة الأخيرة التي أظهرت رغبة من الطرفين للتعاون والتنسيق بسبب المخاطر والمهددات المشتركة وفي مقدمتها مسار الاستفتاء في كردستان العراق وتوتر العلاقات التركية – الغربية وارتفاع حدة خطاب الولايات المتحدة تجاه إيران[52].
ولا شك أن مسار التقارب بين العاصمتين الإقليميتين والمرشح للاستمرار في المستقبل القريب سيزيد من فجوة الثقة بين أنقرة وتل أبيب، وهو عامل مؤثر في الدور التركي في القضية الفلسطينية، خصوصاً في حال حدثت تطورات دراماتيكية في المنطقة كأي مواجهة بأي مستوى بين السعودية وإيران أو تفعيل مشروع التطبيع الخليجي – العربي مع دولة الاحتلال وتداعياته أو عقوبات أمريكية إضافية على طهران، أو غيرها.
رابعاً، الاتجاه شرقاً. سعت تركيا العدالة والتنمية منذ 2002 وبالتدريج إلى انتهاج سياسة متعددة الأبعاد أو متعدد المحاور لإضفاء شيء من التوازن والمرونة عليها بعيداً عن حصرية المحور الغربي التي سيطرت عليها خلال الحرب الباردة[53]. وكان من نتائج ذلك الانفتاحُ على مناطق وأقليم جديدة في العالم، لكن النتيجة الأبرز كانت الاتجاه شرقاً في السنوات القليلة الأخيرة، والتي كان من أهم تمظهراتها طلب الانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها روسيا والصين وكسب صفة “شريك حوار” عام 2013 والذي ما زالت أنقرة تصر عليه[54]، ومحاولة شراء أسلحة استراتيجية مثل منظومةS400 من الصين والتي فشلت بسبب الضغوطات الغربية في حينها لكنها تمت مؤخراً من روسيا، بكل ما يحمله ذلك من دلالات استراتيجية تتعدى حتى المجالات العسكرية والأمنية[55].
تعرّض هذا التوجه لضربة كبيرة مع أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، لكن مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة وموسكو أنتج تفاهمات عميقة في الأزمة السورية ما زالت مستمرة حتى اليوم بما فيها الإطار الثلاثي المكوّن من روسيا وتركيا وإيران لرعاية وقف إطلاق نار شامل في عموم الأراضي السورية وفق مسار أستانا تمهيداً لحل سياسي وفق مسار جنيف.
ولا شك أن هذا التوجه المستمر باضطراد سيسمح لتركيا بمساحات أوسع للمناورة والفعل والتأثير بعيداً عن الضغوط الأمريكية والغربية، ومن ذلك القضية الفلسطينية، سيما إذا ما وضعنا في الحسبان توتر العلاقات التركية – الأمريكية والتركية – الأوروبية من جهة أخرى والتي لا يبدو أنها تنتظر انفراجات قريباً.
خامساً، بدء تطبيق النظام الرئاسي. من الناحية النظرية، يتضمن النظام الرئاسي الذي أقر في الاستفتاء الشعبي في نيسان/أبريل الفائت وسيبدأ تطبيقه في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 سلطة تنفيذية أقوى وبرأس واحدة وقادرة على اتخاذ قرارات أسرع وأكثر فعالية من النظام البرلماني. ويعول حزب العدالة والتنمية على أن بدء سريان النظام الرئاسي سوف يبعد تركيا عن سيناريو الائتلافات الحكومية سيئة السمعة في التاريخ التركي الحديث، وسوف يضاعف من إمكانية التأثير على قرارات السياسة الخارجية تحديداً، بعد إخضاع دوائر صنع القرار الأخرى بدرجة أكبر بكثير من الآن للإرادة السياسية المنتخبة، بعيداً عن البيروقراطية والتنافس بينها.
ولا شك أن تأثير المؤسسة العسكرية ووزارة الخارجية في العلاقات مع الكيان الصهيوني واتفاق تطبيع العلاقات وغيرها من المسارات ذات العلاقة موجود وملحوظ، بينما سيكون لتزايد تأثير العدالة والتنمية على قرار السياسة الخارجية التركية فوائد مفترضة أو منتظرة لصالح القضية الفلسطينية.
سادساً، حل الأزمة السورية. كان التدخل الروسي العسكري المباشر في الأزمة السورية في أيلول/سبتمبر 2015 عاملاً أطّر إلى حد كبير مسار القضية السورية فيما بعد[56]. وكان من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لهذا التدخل تثبيت النظام وترجيح كفته ميدانياً وتغير المقاربة الدولية ثم الإقليمية للصراع في سوريا ورفع لافتة الحرب على “الإرهاب” وليس إسقاط النظام. المتغير الرئيس في هذا المسار، والذي كان أحد أهم أسبابه التوتر بين أنقرة وموسكو إثر إسقاط الأولى لمقاتلة روسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، كان انخراط تركيا مع روسيا في تفاهمات حول الأزمة السورية انضمت لها إيران لاحقاً لتمثل الدول الثلاث إطاراً راعياً لوقف إطلاق النار وفق مسار محادثات أستانا التي بدأت في الـ23 من كانون الثاني/يناير الفائت وشهدت سبع جولات حتى الآن، ضمن رؤية تريد تثبيت وقف إطلاق النار في عموم الأراضي السورية تمهيداً لحل سياسي ضمن مسار جنيف.
ولعله من البديهي القول إن مسار الحل في سوريا، رغم صعوبته وعقباته وطول مدته، سيخفف من استنزاف تركيا ويتيح لها سياسة خارجية أكثر نشاطاً وقدرة على التأثير ومن جملة ذلك القضية الفلسطينية.
سابعاً، انفراج في العلاقات التركية – المصرية. وهو انفراج غير متوقع قريباً جداً لكن لا يبدو أن لأي من الطرفين اعتراضاً مبدئياً عليه، وإنما ثمة صعوبة في النزول عن الشجرة والتوافق على مستوى العلاقة المستقبلية. ولا شك أن العلاقات التجارية والاقتصادية – كما كانت دائماً – هي البوابة للعلاقات السياسية والأسهل للبدء في المسار، وقد اتخذ الطرفان فعلاً بعض الخطوات الأولية بخصوص ذلك بحيث زارت وفود اقتصادية من البلدين الطرف الآخر خلال الأشهر الماضية[57].
تحسن العلاقة بين أنقرة والقاهرة، في حال حصل، سيتيح للأولى دوراً أكبر في القضية الفلسطينية إن كان على المستوى السياسي أو على صعيد حصار غزة، ولعل مقارنة سريعة بين دور تركيا خلال عدوان 2012 على غزة (حين كانت العلاقات مع القاهرة جيدة) وما استطاعت إنجازه وبين دورها خلال عدوان 2014 (حين كانت العلاقات مجمدة) وما استطاعت فعله تشير إلى ما قد يفتحه تحسن العلاقات بين الطرفين من إمكانات للدور التركي في القضية الفلسطينية[58].
خاتمة وتوصيات
المتغيرات سابقة الذكر بعضها مسار قائم مرشح للاستمرار والتعمق وبعضها الآخر محتمل الحدوث بنسب تتفاوت بين عامل وآخر. لكنها في محصلتها تشير إلى متغيرات ممكنة على مستوى العلاقات مع مختلف الدول والأطراف وبوصلة السياسة الخارجية التركية وآلية اتخاذ القرار فيها، مما يمكن أن ينعكس إيجاباً – ولو من ناحية نظرية صرفة – على الموقف والدور التركيين إزاء القضية الفلسطينية.
ولأن الفعل السياسي ليس مجرداً عن أسبابه وسياقاته والعوامل والفواعل المؤثرة فيه بما يمكّن من التأثير عليه وأحياناً تغيير مساره بل وعكسه بالاتجاه الآخر، تبرز هنا أهمية الفعل الفلسطيني (والعربي إن أمكن) لتشجيع هذا المسار وتعزيزه وتسريعه. ولعلنا نذكر هنا بعض التوصيات التي ننصح بها لدعم هذا المسار المحتمل ونقله إلى حيز الواقع ورفع سقف الموقف التركي من القضية ودورها الممكن فيها، وهي مسؤوليات ومسارات تقع على عاتق الكل الفلسطيني من سلطة وفصائل ومؤسسات وقيادات وأفراد:
- استمرار الصمود الفلسطيني، فإمكانات الإنجاز في البدء والختام داخلية – محلية قبل أن تكون إقليمية، ولن تكون الثانية حاضرة وفاعلة إلا بالأولى.
- توحيد الصف الفلسطيني على برنامج وطني جامع، بما يسهل من مهام الدول الداعمة ويرفع الحرج عنها.
- التقدم لتركيا بملفات واضحة ومطالب محددة تدعم صمود الشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية.
- 4. التنبه لحساسية الموقف التركي في ظل تشابك علاقاته الأمريكية – الأطلسية – الأوروبية، وتجنب إحراجه ودفعه مضطراً لإجراءات تضييقية على الفلسطينيين المقيمين في تركيا، أو الانكفاء عن القضية ككل.
- 5. تجنب الدخول في صراع مسلح مباشر – قدر الإمكان – مع دولة الاحتلال في ظل الظروف الإقليمية الحالية التي تصعّب من تدخل تركيا وغيرها لصالح الفلسطينيين.
- مأسسة العلاقات مع تركيا وفتح جسور التعارف والتعاون مع مختلف الأطراف السياسية والحزبية التركية، وعدم الاكتفاء بالعلاقات مع الحكومة والحزب الحاكم أو شخصيات قيادية فيهما فقط، سعياً لدعم أوسع وفهم أعمق للقضية، وتجنباً لأي هزات ضارة.
- تفعيل مؤسسات المجتمع المدني التركي من خلال تقديم رؤية فلسطينية لجدولة مختلف الملفات الإغاثية والإنسانية والتطويرية بناء على الضرورات والأولويات الفلسطينية، تجنباً للتكرار والتداخل والفوضى.
- تفعيل العمل الشعبي الفلسطيني مع المجتمع التركي، سعياً لنقله من مستوى الدعم المبني على العاطفة المجردة إلى ذلك المستند إلى حقائق التاريخ والمعلومات، ورفع القضية الفلسطينية من البعد الإنساني المحض إلى أبعادها السياسية والحقوقية الأرحب. فالوعي الشعبي هو الرصيد الحقيقي والاستراتيجي لأي قضية، فضلاً عن رفده للموقف الرسمي ودعمه وربما – في المستقبل – توجيهه وتصويبه.
- تعديد مصادر الدعم والتأييد ومصادر التمويل على مستوى الدول قدر الإمكان، تحسباً لأي طارئ في ملف العلاقة الثنائية مع أنقرة على المديين المتوسط والبعيد[59].
في الخلاصة، ثمة عوائق وعقبات كثيرة أمام لعب تركيا دوراً مؤثراً وإيجابياً في القضية الفلسطينية، بعضها متعلق بعلاقاتها مع مختلف الأطراف وبعضها الآخر يرتبط بأزمات محلية وإقليمية مؤثرة في صناعة قرار سياستها الخارجية. بهذا المعنى، فتركيا منكفئة حالياً على أولوياتها في البيت الداخلي وجوارها القريب بما له علاقة بأمنها القومي، وليس من المتوقع أن تستطيع لعب دور مؤثر في القضية الفلسطينية في مستوييها الفلسطيني – الفلسطيني والفلسطيني – “الإسرائيلي” حالياً وفي المدى المنظور. ولعل الإلمام بهذا الواقع ومعطياته مهم جداً في التعامل مع أنقرة وسقف التوقعات من مواقفها، بما يساعد على تجنب المفاجآت وخيبات الأمل من جهة، ويرسم السقوف الواقعية للمنتظر منها في الوقت الحالي والمستقبل القريب.
لكن ثمة بعض المتغيرات القائمة والمحتملة على المديين المتوسط والبعيد يمكن لها أن تحرر السياسة الخارجية التركية من بعض القيود سيما تلك المرتبطة بالعلاقة مع الغرب، بما يزيد من ممكناتها على هذا الصعيد ويفتح آفاقاً لها للعب دور فاعل وإيجابي في القضية الفلسطينية، خصوصاً إذا ما كان هناك استثمار فلسطيني في هذه المتغيرات يعمل على تسريعها وتثبيتها والبناء عليها، وهي مسؤولية تقع على كاهل الكل الفلسطيني.
[1] صمويل هنتنغتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، طبعة 2، (سطور الجديدة، القاهرة، 1999)، ص 235-236.
[2] سعيد الحاج، تحولات هادئة في السياسة الخارجية التركية، عربي 21، 26/01/2015، انظر: http://goo.gl/fgBbAS
[3] رنا خماش، العلاقات التركية – الإسرائيلية وتأثيرها على المنطقة العربية (1996 – 2009)، (الأردن: مركز دراسات الشرق الأوسط، 2010).
[4] المصدر السابق.
[5] ريان ذنون العباسي، إسرائيل ومشروع جنوب شرقي الأناضول في تركيا، دنيا الوطن، 19/11/2009، انظر: http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2009/11/19/180327.html
[6] تقرير معلومات (17)، تركيا والقضية الفلسطينية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2010، ص 17-23.
[7] المصدر السابق، ص 13.
[8] قرار الأمم المتحدة حول علاقة الصهيونية بالعنصرية، الجزيرة نت، 31 آب/أغسطس 2001: https://goo.gl/oCfV3L
[9] تقرير معلومات (17)، مصدر سابق، ص 15.
[10] أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبدالجليل، طبعة 10، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010)، ص 141.
[11] المصدر السابق، ص 170.
[12] المصدر السابق، ص 612.
[13] المصدر السابق، ص 551.
[14] محمد نور الدين، “العلاقات التركية – الإسرائيلية: مرحلة جديدة؟”، الشرق، 9/1/2005.
[15] خماش/ مصدر سابق، ص 30.
[16] مفاوضات سلام غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل برعاية تركية، الدستور الأردنية، 22 أيار/مايو 2008: https://goo.gl/g8sakd
[17] أردوغان دافوس قلبت الطاولة وأحرجت الغرب، الجزيرة نت، 31/01/2009، انظر: http://goo.gl/lhEdhf
[18] إسرائيل تعتذر للسفير التركي استجابة لطلب تركيا، BBC عربي، 13/01/2010، انظر: http://goo.gl/RCF4Km
[19] إسرائيل تهاجم “أسطول الحرية” المتجه إلى غزة، صحيفة الرياض، 31/05/2015، انظر: http://www.alriyadh.com/530879
[20] أبرز بنود الاتفاق التركي الإسرائيلي، الجزيرة نت، 27 حزيران/يونيو 2016: https://goo.gl/dbavEP
[21] عقيل محفوظ، السياسة الخارجية التركية الاستمرارية والتغيير، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012)، ص 103.
[22] وزير الخارجية التركي: لا حل في الشرق الأوسط من دون إشراك حماس، ديلي صباح، 13/8/2015، انظر: http://goo.gl/ZiuLKI
[23] سعيد الحاج، مستقبل العلاقات التركية – “الإسرائيلية، (مركز الزيتونة للدراسات الاستشارات، تقدير استراتيجي 88، شباط/فبراير 2016): https://goo.gl/ej7c55
[24] تركيا تعاقب إسرائيل وأمريكا قلقة، الخليج، 7/9/2011، انظر: http://goo.gl/1i49Fm
[25] جاويش أوغلو: سنعمل على تقليل الأعداء وزيادة أصدقاء تركيا، ديلي صباح، 3 تموز/يوليو 2016: https://goo.gl/UubF7p
[26] بايدن يتهم حلفاء واشنطن بدعم الإرهاب في الشرق الأوسط”، BBC عربي، 5 تشرين الأول 2014: https://goo.gl/7KLtqK
[27] هي حركة احتجاجية على خطة للحكومة التركية لإعادة هيكلة ميدان تقسيم وسط مدينة اسطنبول كانت ستتضمن قطع بعض الأشجار في نهاية أيار/مايو 2013، تحولت بسرعة إلى حركة احتجاجية واسعة وأعمال شغب، اتهمت الحكومة أطرافاً داخلية وخارجية بتأجيجها وإذكائها لإسقاطها.
[28] اتهامات طالت أبناء وزراء في حكومة العدالة والتنمية ورئيس بلدية أحد أحياء إسطنبول وبعض رجال الأعمال المقربين من الحكومة التركية دمجت كلها في قضية واحدة وتم القبض عليهم في 17 كانون الأول/ديمسبر 2013، ثم تمت تبرئتهم لاحقاً، واعتبر المحققون والقضاة الذين وقفوا وراء هذه القضايا جزءاً من “كيان مواز” للحكومة داخل مؤسساتها يسعون لقلب نظام الحكم عبر القضاء، وما زالت محاكماتهم أمام القضاء سارية حتى اليوم.
[29] سعيد الحاج، اتجاهات السياسة الخارجية التركية بعد رحيل داود أوغلو، إضاءات، 23 أيار/مايو 2016: https://goo.gl/S16TQZ
[30] المصدر السابق.
[31] سعيد الحاج، هل يعود التحالف الاستراتيجي بين تركيا و”إسرائيل”، الجزيرة نت، 3 تموز/يوليو 2016: https://goo.gl/nP5P8X
[32] البرلمان التركي يصدق على تطبيع العلاقات مع إسرائيل،BBC عربي، 20 آب/أغسطس 2016: https://goo.gl/6mLHpQ
[33] جاويش أوغلو: تطبيع العلاقات مع إسرائيل لن يعني صم تركيا آذانها عن ظلم الفلسطينيين، القدس العربي، 26 حزيران/يونيو 2016: http://www.alquds.co.uk/?p=556813
[34] المتحدث باسم الرئاسة التركية: سياستنا لم ولن تتغير تجاه فلسطين، القدس العربي، 30 حزيران/يونيو 2016: http://www.alquds.co.uk/?p=558348
[35] اردوغان: حماس ليست حركة إرهابية ويجب أن تكون جزءاً من أي حل، الحياة، 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2016: https://goo.gl/fwRxed
[36] سعيد الحاج، المصالحة التركية – “الإسرائيلية”: المتوقع والمحذور، عربي 21، 27 حزيران/يونيو 2016: https://goo.gl/b9L28M
[37] تركيا تدعو العالم الإسلامي لنصرة الأقصى، ترك برس، 23 تموز/يوليو 2017: http://www.turkpress.co/node/37260
[38] “برلمانيون لأجل القدس” تعقد مؤتمرها الأول في إسطنبول، الخليج أون لاين، 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2016: https://goo.gl/Mb9aJG
[39] استفتاء كردستان يفجر أزمة تركية إسرائيلية، الجزيرة نت، 2 تشرين الأول/أكتوبر 2017: https://goo.gl/e1BWeZ
[40] وزير الخارجية التركي: حماس كانت ستعترف بإسرائيل في إطار حل الدولتين، القدس العربي، 12/01/2015، انظر:
http://www.alquds.co.uk/?p=278637
[41] سعيد الحاج، تركيا والقضية الفلسطينية بعد الانتخابات البرلمانية، (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تقدير استراتيجي 86، تشرين الثاني/نوفمبر 2015): https://goo.gl/R7oLkf
[42] المصدر السابق.
[43] أبو مازن في تركيا لشكرها على وقوفها إلى جانب فلسطين في الأمم المتحدة، الوطن، 5 كانون الأول 2012: https://goo.gl/HBponZ
[44] اردوغان: سنواصل التنسيق مع الأردن لمنع تكرار الاعتداءات على المسجد الأقصى، ديلي صباح، 21 آي/أغسطس 2017: https://goo.gl/Df2Uod
[45] بيان الخارجية التركية: الرقم 315، التاريخ 12 تشرين الأول/أكتوبر 2017، بيان حول اتفاق المصالحة التي أعلن اليوم عن التوصل إليها في إطار الجهود الرامية إلى تحقيق الوحدة فيما بين الفلسطينيين: https://goo.gl/nSiUKm
[46] حماس ترحب بوساطة تركية في صفقة تبادل أسرى، عرب 48، 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2016: https://goo.gl/ZY1SHh
[47] رئيس الكنيست الإسرائيلي: اردوغان كان ومال زال عدواً لإسرائيل، ترك برس، 10 أيار/مايو 2017: http://www.turkpress.co/node/34185
[48] تم فتح تحقيق مع قائدج القوات الجوية التركية السابق أكين أوزتورك الموقوف على ذمة قضايا تتعلق بمشاركته في المحاولة الانقلابية، على هامش قوله “إسرائيل باعتنا” خلال توقيفه. أنظر مثلاً: https://goo.gl/wQvAwF
[49] سعيد الحاج، التوتر التركي – الأمريكي: الحدود والمآلات، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 13 تشرين الأول/أكتوبر 2017: https://goo.gl/kjrqSs
[50] البرلمان الأوروبي يوصي بتجميد مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، BBC عربي، 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2016: http://www.bbc.com/arabic/world-38093522
[51] اتفاق إيران النووي مع البرازيل وتركيا، الجزيرة نت، 1 آذار/مارس 2015: http://goo.gl/yyv8KR
[52] سعيد الحاج، تركيا وإيران من المواجهة للتعاون، عربي 21، 21 آب/أغسطس 2017: https://goo.gl/Bdri13
[53] أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص 614.
[54] الصين ستنظر في طلب تركيا الانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون، رويترز، 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2016: https://goo.gl/k6ho9p
[55] سعيد الحاج، تركيا: الأبعاد الاستراتيجية لصفقة S400 الروسية، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 15 أيلول/سبتمبر 2017: https://goo.gl/SP5BJn
[56] عبدالناصر العايد، التدخل العسكري الروسي في سوريا: الدواعي والتداعيات والآفاق، مركز الجزيرة للدراسات، 1 تشرين الأول/أكتوبر 2015: https://goo.gl/va7jQk
[57] مصر وتركيا: تطبيع اقتصادي رغم الخلافات، العربي الجديد، 30 كانون الثاني/يناير 2017: https://goo.gl/rzXwJu
[58] سعيد الحاج، فصل: القضية الفلسطينية والعالم الإسلامي: تركيا، في كتاب: التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2014 – 2015، (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2016)، ص 196.
[59] سعيد الحاج، تركيا والقضية الفلسطينية بعد الانتخابات البرلمانية، (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تقدير استراتيجي 84، تشرين الثاني/نوفمبر 2015): https://goo.gl/iFC3s3