انشغل الرأي العام التركي في الأسابيع الأخيرة بسجالات إعلامية بين حكومة العدالة والتنمية وجماعة “فتح الله غولن” من خلال وسائل الإعلام القريبة من كليهما، حول معاهد التحضير للامتحانات (درسخانات). سجالات أخرجت للعلن صراعاً بين الطرفين، حَرِصا دائماً على إبقائه خلف الكواليس، لكنه برز مؤخراً حين قررت الجماعة تصعيد الخطاب ورفع مستوى السجال.
فقد سربت صحيفة “طرف” القريبة من دوائر الجماعة يوم الخميس الماضي محضر اجتماع مجلس الأمن القومي عام 2004، التي كان من توصياته مجابهة الجماعة والحد من أنشطتها، في محاولة للإيحاء بأن اردوغان ينفذ خطة رسمت قبل سنين لـ”إنهاء” الجماعة. في حين رد الحزب الحاكم من خلال صحيفة مقربة منه بأن الاجتماع كان عام 2004 زمنَ الوصاية العسكرية، وأن قراراته بقيت حبراً على ورق ولم ينفذ منها شيء، بل إن اردوغان نفسه كان السد المنيع أمام هذا النوع من التوصيات القادمة من الجيش، وأن قيادات في الجماعة سبق وأن شكرت الأخير على موقفه ذلك.
الجماعة والسياسة
وجماعة الشيخ فتح الله غولن – التي يطلق عليها اسم “الخدمة” – هي أكبر فروع جماعة النورسيين الصوفية التي أسسها بديع الزمان سعيد النورسي، وتقوم على شبكة من المؤسسات الاجتماعية والخدماتية في مجالات التعليم والصحة والاهتمام، وتهتم تحديداً بفئة الطلاب من خلال مئات المدارس والسكنات الطلابية داخل وخارج تركيا، في حين يعرف عنها تاريخياً زهدها في العمل السياسي، من خلال شعار “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والسياسة” الذي ترفعه.
ورغم عملها على الساحة التركية منذ عشرات السنين، لم تؤسس الجماعة حتى الساعة حزباً سياسياً ولا احترفت العمل السياسي، بل كانت تسعى دائماً للتغلغل في مؤسسات الدولة من جيش وشرطة وقضاء وأمن عام، مكتفية في الانتخابات بدعم مرشحين أو أحزاباً معينة، مثل حزبي الطريق القويم والوطن الأم اليمينيين وحزب اليسار الديمقراطي بقيادة بولند أجاويد (صاحب الحادثة الشهيرة بطرد النائبة المحجبة من البرلمان)، حيث لم تكن يوماً على وفاق سياسي مع زعيم الحركة الإسلامية في تركيا الراحل نجم الدين أربكان.
التعاون مع العدالة والتنمية
مع بزوغ نجم العدالة والتنمية وتوليه زمام السلطة، نشأ حلف غير معلن بين الحزب والجماعة، حصلت من خلاله الأخيرة على الكثير من الامتيازات، من نواب ووزراء وحرية عمل وانتشار في مقابل تصويت أعضاء الجماعة للحزب. تبع ذلك دمج عدد كبير من أعضائها في الحزب، وترقية الكثيرين منهم في مختلف مؤسسات الدولة، وخاصة جهاز الاستخبارات، إضافة لكشف بعض خطط الانقلاب على الحكومة التي شاع أن الجماعة هي من سربت وثائقها. إلا أن شهر العسل لم يدم طويلاً وبدأت في السنوات الأخيرة إشاعات الخلافات من جهة، ونفيها من جهة أخرى، في الانتشار.
وفي حين يرى بعض المراقبين أن العدالة والتنمية تقصّد مواجهة الجماعة وإضعافها إثر شعوره أنه لم يعد محتاجاً لأصواتها ولا مضطراً للخضوع لضغوطها بعد 11 عاماً من الحكم، يرى آخرون أن ملف خلافة اردوغان في رئاسة الحزب والحكومة وتنافس تيار الجماعة مع تيار الفكر الوطني (ميللي جوروش) الذي أنشأه رئيس الوزراء الراحل أربكان داخل العدالة والتنمية هو الذي فجر الخلافات المختفية تحت السطح، في حين ترى مجموعة ثالثة أن الجماعة هي التي استعجلت هذه المواجهة من خلال مواقفها التي أغضبت اردوغان والحزب في عدة ملفات، اعتبر بعضها بمثابة تحضير لانقلاب على الحكومة ورئيسها. فما هي هذه الملفات التي أدت إلى الخلاف ونتج عنها نهاية شهر العسل بين الحليفين؟
حاقان فيدان
أول فصل في المواجهة بين الطرفين، حسب مراقبين، هو ملف رئيس الاستخبارات التركية (M.İ.T.) حاقان فيدان، المقرب من اردوغان، والذي استلم منصبه في أيار/مايو 2010، ثم خيب آمال الجماعة التي كانت تنتظر أن يساعدها في إحكام سيطرتها على الجهاز. في شباط/فبراير من عام 2012، وخلال فترة نقاهة اردوغان من عملية جراحية، عصفت بالبلاد أزمة سياسية-حقوقية، حين استدعى المدعي العام الجمهوري رئيس جهاز الاستخبارات وبعض مساعديه للتحقيق، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية التركية، كمشتبه بهم بتهمة التخابر مع حزب العمال الكردستاني (P.K.K.) الانفصالي (يعتبر في تركيا حركة إرهابية). جاء ذلك إثر إفشاء خبر لقاءات عقدها رجال المخابرات مع قيادات الحزب في العاصمة النرويجية، فيما تبين لاحقاً أنه تهميد لـ”عملية السلام” الحالية مع الأكراد، وتردد حينها أن أعضاء في جماعة غولن كانوا وراء تسريب الخبر وتحريك الدعوى ضد فيدان. رفض الأخير المثول أمام المدعي العام، واضطرت الحكومة التركية لاستصدار قانون يحصن رئيس جهاز الاستخبارات من التحقيق معه إلا بموافقة خطية من رئيس الوزراء. هذه الحملة تزامنت مع حملات تحريضية ضد فيدان من بعض الصحف الغربية واتهام الموساد له بالتعاون والتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني، مما أثار – ولا يزال – علامات استفهام حول أهداف وتوقيت هذه القضية التي أطلق عليها اسم “عملية أوسلو”.
أحداث جزي بارك
لئن كان موضوع فيدان أول ميادين المواجهة، ونتج عنه تغيير اردوغان للعشرات من أفراد الجماعة في قيادات أجهزة الدولة المختلفة، فقد كانت أحداث حديقة “جزي” في ميدان “تقسيم” القشة التي قصمت ظهر العلاقة المتوترة بين الحزب الحاكم وظهيره الشعبي القوي. فرغم عدم مشاركة الجماعة بأفرادها في الاحتجاجات التي اكتست ثوب العنف سريعاً، إلا أن وسائل الإعلام المرتبطة بها حاولت النيل من اردوغان واتهامه بالتسلط والدكتاتورية وسوء إدارة الأزمة، في مقابل تلميع نائبه في الحزب والحكومة بولند أرينتش الذي يشاع أنه على صلة طيبة جداً بها.
لاحقاً وبعد انتهاء الاحتجاجات وهدوء الشارع، فجر الإعلامي المخضرم والمقرب من الحكومة عبدالرحمن ديليباق قنبلة إعلامية حين أعلن عن امتلاكه تسجيلات تؤكد اتفاق الجماعة مع حزبي المعارضة الرئيسين حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية على إثارة أعمال شغب للنيل من شعبية الحزب الحاكم، ثم التحالف انتخابياً لإسقاطه في الانتخابات البلدية القادمة.
المعاهد التحضيرية
أما ما أخرج الطرفين عن طورهما وصمتهما، فكان الخلاف حول معاهد التحضير للامتحانات الجامعية. فقد أعلنت الحكومة عن نيتها تغيير نظام الامتحانات وتحويل هذه المعاهد إلى مدارس خاصة ضمن مشروع تطوير النظام التعليمي. ولكون الجماعة تملك ما يقرب من ربع هذه المعاهد، التي تدر عليها أموالاً طائلة وتعتبر مجال استقطابها الأكبر لفئة الشباب، فقد تعاملت مع الأمر بحساسية وأعلنت عن تحديها للقرار الحكومي ورفعت رايات الرفض والعصيان.
لكن المتابع للشأن التركي يدرك بوضوح أن قضية المعاهد الدراسية ليست سوى قمة جبل الجليد الطافية على السطح، الذي يخفي الكثير من القضايا العالقة بين الطرفين، في جو من انعدام الثقة بين الطرفين، يبدو أنه ما زال مستمراً في التفاقم يوماً إثر الآخر.
الانتخابات القادمة
ويبقى السؤال الأبرز الذي يفرض نفسه على المشهد التركي هو مدى تأثير هذا الخلاف على الاستحقاقات الانتخابية القادمة في تركيا التي ستبدأ في الثلاثين من آذار/مارس 2014 بالانتخابات البلدية فالرئاسية ثم النيابية في 2015، وقدرة العدالة والتنمية على الاستمرار في الفوز فيها وتشكيل حكومة بمفرده كما في المحطات الثلاث السابقة.
ورغم عدم وجود إحصاء دقيق لعدد أفراد الجماعة، المنتشرة اجتماعياً والقوية مالياً، فإن بعض التقديرات تتوقع تأثيرها على ما مجموعه %3 من أصوات الناخبين، مما قد يفقد الحزب الحاكم هذه الأصوات حالَ استمرار الانفصام بين الطرفين، الأمر الذي قد يؤثر على حظوظ الحزب الحاكم الحالي في مواصلة الحكم منفرداً.
نظرة أخرى لتشابكات المشهد الانتخابي وتغيراته في السنوات الماضية تطرح رؤية مختلفة، تتضمن عدم وجود منافس قوي للعدالة والتنمية يمكن للجماعة التعويل عليه كما في السابق، مما قد يعني عدم التزام بعض قواعدها بقرار من هذا القبيل، إضافة لتوقعات بكسب اردوغان لأصوات كثيرة، خاصة من المناطق الكردية بعد المشاريع التنموية الكثيرة التي نفذتها الحكومة هناك، وحزمات الإصلاح الديمقراطي التي استفاد منها الأكراد على وجه الخصوص، وأخيراً “عملية السلام” التي أوقفت نزيف الدم في مناطق الجنوب الشرقي.
ولذلك، قد يبدو السيناريو الأكثر قرباً للواقع، أن لا يكون الصراع الحالي صفرياً والانفصام نهائياً، بل أن يكون هدف معركة عض الأصابع هذه الضغط وكسب النقاط على طاولة تحديد المرشحين على مشارف الاستحقاقات الانتخابية القادمة، وتسوية الخلاف القائم على قاعدة “الربح للجميع”، خاصة وأن التغيرات التي تمر بها المنطقة لا تترك لأحد رفاهية المخاطرة باستقرار تركيا السياسي في هذه المرحلة الحساسة.