اردوغان وأولوية إصلاح البيت الداخلي
الجزيرة نت
بين طيات التغييرات الأخيرة في الملف المالي في تركيا إثر استقالة وزير الخزانة والمالية براءة ألبيراق، ثمة إشارات على تركيز الرئيس التركي في الفترة المقبلة على إصلاح البيت الداخلي لحزب العدالة والتنمية، والذي تعرض لهزات كبيرة خلال السنوات الأخيرة.
أحزاب جديدة
بعد سنوات طويلة من الإنجازات والنجاح المتواصل سياسياً واقتصادياً وعلى صعيد الحاضنة الشعبية، بدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا في مسير التراجع النسبي خلال السنوات الأخيرة.
كانت المحطة الأولى لهذا التراجع النسبي في انتخابات حزيران/يونيو 2015 البرلمانية، التي خسر فيها الحزب أغلبيته البرلمانية لأول مرة، إلا أنه عوّض ذلك واستعادها في انتخابات الإعادة بعد شهور.
بيد أن السنوات اللاحقة أثبتت أن ذلك لم يكن استثناء ولا خطأ، وإنما مسار تدريجي تعزز مع المحطات اللاحقة. مع الاستفتاء الشعبي على بنود النظام الرئاسي في 2017، ثم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2018 التي فقد فيها الحزب أغلبية البرلمان مجدداً بفارق بسيط، ثم الانتخابات المحلية/البلدية في 2019 والتي خسر فيها رئاسة بلديتي أنقرة وإسطنبول المهمتين والرمزيتين.
بدا واضحاً مع كل تلك المحطات أن ثمة شريحة بين أنصار العدالة والتنمية – وربما كوادره – لديها تحفظات على أمور محددة في خطابه وممارسته السياسية. لم تكن تلك الشريحة تياراً منظماً داخل الحزب ولم يكن ثمة شخصيات قيادية تعبر عنها، إلا أن رئيس الوزراء الأسبق ورئيس الحزب الأسبق أحمد داود أوغلو جمع تلك الأسباب في بيان مطوّل له.
فبعد الانتخابات البلدية في 2019، أصدر داودأوغلو “مانيفستو” لخص فيه أبرز انتقاداته لحزبه وما عدَّها مشكلات تحتاج لتصويب حتى يستعيد مكانته السابقة. وقد تراوحت تلك الانتقادات بين الإدارة المركزية لاردوغان وتطبيقات النظام الرئاسي، ومن الخطاب الحاد للتحالف مع الحركة القومية، ومن شبهات الفساد إلى أزمات الاقتصاد.
ساءت الأمور بين “الخوجا” وحزبه السابق ووصل الأمر لقرار بطرده منه، استبقه بإعلان الاستقالة والتوجه نحو تأسيس حزب “المستقبل”، وهو نفس الخط الذي انتهجه الوزير السابق علي باباجان بتأسيس حزب “الديمقراطية والتقدم”.
وهكذا وجد العدالة والتنمية نفسه لأول مرة منذ 18 عاماً أمام تحد جديد لم يسبق له مواجهته. فالرجلان قياديان بارزان جداً في الحزب والحكومة طيلة تجربة الحزب، واسمان لمعا في أكثر مجالين أنجز فيهما الحزب أي السياسة الخارجية والاقتصاد. الأهم أن الحزبين قادران نظرياً على السحب من الخزان الانتخابي للعدالة والتنمية، لكل ما سبق، وللتشابه الكبير بين حزبيهما والعدالة والتنمية في بداياته من حيث الأفكار والسياسات والبرامج وحتى بعض الشعارات.
استقالة ألبيراق
لسنوات طويلة، كانت الإنجازات الاقتصادية هي ورقة الاعتماد الرئيسة للعدالة والتنمية لدى الناخب التركي، إلا أن الصورة عُكِسَتْ مؤخراً ليصبح الاقتصاد هو التحدي الأكبر أمام الحزب الحاكم ومناط الانتقادات الأكثر حدة من المعارضة. هزات كثيرة تعرض لها الاقتصاد التركي مرتبطة بكثير من التطورات العالمية والإقليمية والمحلية، في مقدمتها أزمة 2018 مع الإدارة الأمريكية وجائحة كورونا.
ولئن قدمت الحكومة سردية الضغوط الخارجية لتبرير التراجع في بعض الفترات، إلا أنها اعترفت لاحقاً بحاجة اقتصاد البلاد إلى إصلاحات بنيوية تجعله أقوى أمام الضغوط. ورغم الإعلان عن عدة حزم من الإصلاحات الاقتصادية، إلا أن اردوغان بقي معرضاً لانتقادات حادة، أولاً لتراجع بعض المؤشرات الاقتصادية والمالية المهمة مثل سعر صرف الليرة واحتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية، وثانياً لإسناده دفة الاقتصاد لصهره وزير الخزانة والمالية براءة ألبيراق.
في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، أعلن الأخير استقالته من الحكومة، وأعلنت الرئاسة في اليوم التالي قبولها “طلبه إعفاءه” من مهامه، مسدلة الستار على سنوات خمس من المناصب الوزارية لصهر الرئيس في مجالات الطاقة والاقتصاد والمال.
انتشرت شائعات كثيرة حول استقالة ألبيراق، بل حول كونها استقالة أم إقالة، إلا أن التطورات التي رافقتها وتلتها ترجّح كونها استقالة احتجاجية على تعيين محافظ جديد للبنك المركزي دون استشارته ورضاه، خصوصاً وأن المحافظ الجديد هو وزير المالي الأسبق على ألبيراق.
بل يمكن الذهاب بالتحليل إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن الرئيس تعمد أن يكون اختيار المحافظ الجديد للبنك المركزي، اسماً وأسلوباً، رسالة قوية تجاه الوزير، لا سيما بعد التراجع الواضح لسعر صرف الليرة وتآكل احتياطي العملات الأجنبية في البنك المركزي في الآونة الأخيرة.
مؤشرات التغيير
بين استقالة الوزير وقبولها من الرئاسة، مرت 27 ساعة كاملة تحسنت خلالها الليرة التركية أمام العملات الأجنبية. صحيح أن للأمر عدة أسباب، اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية، إلا أن الأمر أظهر أن الاستقالة لم تسبب صدمة في الأوساط الاقتصادية على أقل تقدير.
بعد الاستقالة صدرت عدة تصريحات عن الرئيس اردوغان تتحدث عن مرحلة جديدة في الاقتصاد التركي عناوينها الرئيسة مكافحة التضخم ودعم المستثمرين والاستقرار المالي والدعم الكامل للطاقم المالي الجديد، أي الوزير والمحافظ. كما أن وزير المالية الجديد لطفي ألوان شدد على الالتزام بالقوانين واستقلالية البنك المركزي، وهو ما يبدو أنه كان تحضيراً لقرار رفع نسبة الفائدة البارحة، والذي أضاف لمسار تحسن سعر صرف الليرة مؤقتاً.
الحديث عن مرحلة جديدة في الاقتصاد ليس منعزلاً عن السياسة الداخلية بحال. فمن جهة ثمة إدراك لدى اردوغان بأن الاقتصاد يمثل التحدي الرئيس اليوم أمامه وأنه تحول لمادة دسمة ووجيهة للمعارضة. ومن جهة أخرى ثمة ما يشير إلى مرحة جديدة داخل الحزب والحكومة بالتوازي مع التغييرات المالية والاقتصادية عنوانها ترتيب البيت الداخلي.
أحد تلك المؤشرات هو خطاب الرئيس التركي الذي ألمح لتغييرات قادمة في الحزب والحكومة، وهو أمر كان منتظراً منذ الانتخابات البلدية، غير أن اردوغان أجّل الأمر مراراً لعدم إعطاء صورة عن تغيير اضطراري تحت وطأة نتائج الانتخابات.
كما أن هناك سعياً واضحاً من اردوغان لإعادة قيادات سابقة في الحزب والحكومة إلى دائرة الضوء والفعل. فكل من وزير الخزانة والمالية ومحافظ البنك المركزي ونائب رئيس العدالة والتنمية للسياسة الخارجية (أفقان آلا) الجُدُد وزراء سابقون وقيادات في الحزب الحاكم في سنوات خلت. وإذا ما وضعنا في الحسبان انتماء عدد لا بأس به من قيادات الحزب وكوادره السابقة للحزبين الجديدن بقيادة كل من داود أوغلو وباباجان، سندرك إلى أي مدى تسعى هذه الخطوات إلى احتواء حاضنة الحزب وضمان تماسكه.
إضافة لذلك، ثمة توقعات بتعديل وزاري قريب قد يشمل تعيين نواب إضافيين للرئيس، في خطوة تهدف فيما يبدو إلى تقديم صورة أقل مركزية في قيادة اردوغان للمشهد. يُضاف لذلك نقاش سارٍ داخل الحزب منذ شهور حول فكرة اختيار رئيس آخر للحزب واكتفاء اردوغان برئاسة الدولة، أي الفصل بين رئاستي الدولة والحزب، أحد مسارات تصويب بنود النظام الرئاسي التي وعد بها الحزب.
هذه الخطوات المرتبطة بالتحفظات على بعض جوانب النظام الرئاسي مهمة جداً بالنسبة للعدالة والتنمية. ذلك أن الرئيس كان يخرج بعد كل استحقاق انتخابي ليقول “وصلت لنا رسالة الناخب وسنعمل على أساسها”، لكنه نادراً ما قام بتغييرات ملموسة على صعيد الخطاب أو السياسات، مكتفياً غالباً بتغيير بعض الكوادر التي حمّلها مسؤولية التراجع النسبي الحاصل.
التجاوب مع مطالب ناخبي الحزب وأنصاره يبدو كذلك متحققاً بنسبة أو بأخرى في مؤتمرات الحزب الفرعية على مستوى المحافظات، تحضيراً للمؤتمر العام للحزب والذي سيكون محطة فارقة على صعيد العلاقة بين الحزب الحاكم وحاضنته الشعبية، وستكون لمخرجاته انعكاسات مباشرة على قوة الحزب وتماسكه وحضوره في الشارع.
في الخلاصة، وأمام التحدي غير المسبوق أمام العدالة والتنمية والمتمثل بتأسيس أحزاب سياسية جديدة على يد قيادات سابقة فيه، يقدّم حزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان رسائل واضحة مضمونها التغيير والتعديل والتطوير في محاولة لإعادة ترتيب البيت الداخلي والحفاظ عليه.
ولئن كانت البداية في الملف الأكثر إلحاحاً وهو الاقتصاد، إلا أن العملية تشمل عدة مجالات، ولذا يمكن القول إن الحزب أمام اختبار حقيقي اليوم حول مدى جدّيته ومصداقيته في الإصلاح والتغيير، لا سيما وأن مشاكل الاقتصاد أعمق وأعقد من أن تحل سريعاً ونهائياً، فضلاً عن أن حاضنته ترغب في رؤية تغيير حقيقي وعميق. وعليه، فالسؤال المطروح اليوم هو هل ما زال ثمة فرصة للاستدراك بالنسبة للعدالة والتنمية أم إن المعطيات والتطورات قد تجاوزت إمكانية ذلك؟