ادعاءات إبادة الأرمن بين تركيا والولايات المتحدة
TRT عربي
كما كان متوقعاً، وصف الرئيس الأمريكي ما حصل للأرمن داخل الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى بـ”الإبادة الجماعية”، ليكون بذلك أول رئيس أمريكي يستخدم هذا التعبير.
ففي بيان صادر عن البيت الأبيض في الرابع والعشرين من نيسان/أبريل الجاري، الذكرى السنوية لما يعدُّها الأرمن مجازر ارتكبتها الدولة العثمانية ضدهم، قال بايدن “نتذكر أرواح جميع الذين ماتوا في الإبادة الجماعية للأرمن في العهد العثماني، ونجدد التزامنا بمنع حدوث مثل هذه الفظائع مرة أخرى”.
ورغم أن البيان شدد على أن هذا الاعتراف “لا يهدف لإلقاء اللوم على أحد، ولكن لضمان عدم تكرار ما حدث”، إلا أنه استحث ردوداً حادة وكثيرة من المسؤولين الأتراك رفضت التصريح وعدّته “في حكم العدم”.
رئيس البرلمان مصطفى شانتوب عد التصريح “نتيجة لحسابات سياسية بدائية، لا قيمة تاريخية أو حقوقية لها”، ووافقه فقي ذلك نائب الرئيس فؤاد أوكتاي الذي عده “تحريفاً للتاريخ لأهداف سياسية”، فيما قال وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو في تغريدة له إن “الكلمات لا يمكنها تغيير التاريخ ولا إعادة كتابته”، واصفاً الاعتراف بأنه “انتهازية سياسية” و”خيانة كبرى للسلام والعدل”.
بدوره فقد ندد الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين بتصريحات بايدن ورفضها، قائلاً إنها تفتقر للأدلة العلمية والمستندات التي يتطلبها القانون الدولي وأنها أتت “نتيجة ضغط اللوبيات الأرمنية المتشددة التي تحاول زرع بذور عداوات جديدة من خلال تزوير الحقائق التاريخية”، وبالتالي “ستفتح جروحاً عميقة في العلاقات التركية – الأمريكية”، داعياً الرئيس الأمريكي إلى تصحيح هذا التصريح غير الموفق.
أما رد وزير العدل عبدالحميد غل فكان أكثر حدة حيث اعتبر أن “تصريحات من تاريخهم عبارة عن وثيقة سوابق ملأى بالإبادات والعنصرية في حكم العدم بالنسبة لنا، ولا قيمة لها أمام القانون والتاريخ”. فضلاً عن تصريحات رافضة للتصريح ومنددة به من معظم أحزاب المعارضة بما فيها حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة والأشد خلافاً مع العدالة والتنمية.
كما استدعت الخارجية التركية السفير الأمريكي في أنقرة ديفيد ساترفيلد لإبلاغه رسالة احتجاج قوية بخصوص تصريحات بايدن، التي عدتها “مفتقدة لأي ركائز تاريخية أو قانونية، وغير مقبولة”، معبرة عن رفضها بالكامل وإدانتها بأشد العبارات.
في الأصل، لا تنكر أنقرة أحداث عام 1915 بحق الأرمن، بما في ذلك القتل والتهجير وبأعداد كبيرة، خصوصاً في سنوات حكم حزب العدالة والتنمية. عام 2014، وجه أردوغان – كرئيس للوزراء في حينه – رسالة تعزية بضحايا الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الأولى من نوعها والأرفع مستوى من مسؤول تركي.
في تلك الرسالة التي نشرت بتسع لغات من ضمنها الأرمينية وعدَّها وزير الخارجية آنذاك أحمد داودأوغلو دعوة ويداً تركية ممدودة رجا أن تلقى استجابة، قال أردوغان إنَّ “التفهُّمَ والمشاركة في إحياء الآلام التي عاشها الأرمن في تلك الحقبة مثل غيرهم من مواطني الدولة العثمانية واجب إنساني”، عادّاً “التعبير بحرية عن آراء وأفكار مختلفة عن أحداث عام 1915 من مقتضيات النظرة التعددية والثقافة الديمقراطية والحداثة”.
وبشكل مشابه، وجه أردوغان العام الفائت – هذه المرة رئيساً – رسالة في ذكرى الأحداث لبطريرك أرمن تركيا ساحاق مشعليان قال فيها إنه “يذكر أرمن الدولة العثمانية الذين قضوا في الظروف القاسية للحرب العالمية الأولى بكل الاحترام، ويعزي من أعماق قلبه أحفادَهم”، مترحماً على “كل مواطني الدولة العثمانية الذين فقدوا حياتهم خلال تلك الحقبة الأليمة”.
إذن، ما دامت تركيا لا تنكر حصول أحداث مأساوية للأرمن عام 1915، فلماذا كانت هذه الردود الحادة على تصريحات بايدن؟
لأن بايدن ليس مؤرخاً ولا قاضياً، ولا ينطق باسم مؤسسة أكاديمية أو حقوقية دولية، وإنما هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ويعبر عن مواقفها وسياساتها، وبالتالي فهو ليس مرجعية ولا حكماً في قضية شائكة كهذه وتصريحه سياسي في المقام الأول، ولا علاقة له بإنصاف التاريخ أو حقوق الأرمن، كما أن تجاهل المجازر التي ارتكبت على أيدي العصابات الأرمنية بحق مواطني الدولة العثمانية واضح.
وأما الادعاء بأن حقوق الإنسان والحريات ستكون موجهة للسياسة الخارجية الأمريكية في عهده فيدحضها موقفها من تطورات القضية الفلسطينية ومن أنظمة حليفة لها في المنطقة وعدم تعاونها مع تركيا في التحقيق مع فتح الله كولن المقيم على أراضيها والمتهم بالوقوف خلف الانقلاب الدموي الفاشل في 2016، وغير ذلك الكثير.
نفس الأسباب التي تقال اليوم كمسوغات لموقف بايدن كانت حاضرة مع الرؤساء الذين سبقوه في الإدارات الديمقراطية والجمهورية على السواء. كما أن التصريح يأتي في سياق علاقات متدهورة بين البلدين، وخصوصاً ما يتعلق بصفقة إس-400 الروسية وإخراج تركيا من مشروع مقاتلات إف-35 وتأخر الاتصال الهاتفي بينه وبين أردوغان أشهراً، حتى ليلة هذا التصريح في دلالات لا تخفى.
وعليه، فقد أراد بايدن فيما يبدو تنفيذ الوعد الذي قطعه خلال الحملة الانتخابية للوبي الأرمني لكسب وده ودعمه من جهة وزيادة الضغوط على أنقرة من جهة أخرى، ولكن دون الاستناد لوثائق أو حقائق تاريخية دامغة، وبأسلوب شعبوي ملحوظ. وهو ما دفع أنقرة لانتقاد ما أسمته “الانتهازية السياسية” و “تزوير التاريخ خدمة لأهداف سياسية”، لا سيما وأنها تدعو منذ سنوات لتشكيل لجنة تاريخية أكاديمية دولية تبحث في الأمر، وتعلن استعدادها للتعاون الكامل معها وفتح أرشيفها لها، دون أن تلقى هذه الدعوة أي استجابة أو حتى تقدير من الإدارة الأمريكية فضلاً عن اللوبيات الأرمنية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
واما فيما يتعلق بارتدادات التصريح على العلاقات التركية – الأمريكية، فلا شك أنه تسبب بتوتر إضافي بينهما لا سيما وقد أتى في فترة من الجفاء غير المعلن بينهما، ولذا فيمكن توقع خطوات إضافية من تركيا عدا عن التصريحات واستدعاء السفير. لكن يمكن القول إن أنقرة لا تريد أزمة كبيرة إضافية مع واشنطن، ويدعم هذه الرؤية تصريحاتُها وقراراتُها منذ بداية العام، ولذلك فلم تحمل تصريحاتها الرسمية لغة تصعيدية أو توتيرية رغم تنديدها الواضح ورفضها المعلن للاعتراف.
وبالتالي فاحتمالية انتقال الأمر من توتر عابر إلى أزمة كبيرة مرهون بما تريده وستفعله إدارة بايدن، هل ستكتفي بالتصريح كخطوة نهائية أم ستحاول البناء عليها والتساوق مع اللوبي الأرمني بمطالبة تركيا باعتذار و/أو تعويضات أو غير ذلك. حتى الآن لا يبدو أن واشنطن معنية بأزمة كبيرة مع أنقرة، ولذلك فليس مرجحاً أن تذهب لخطوات إضافية، لكن إن حصل ذلك فقد يفتح مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقات بين البلدين، لا سيما وأن تركيا لا يسعها السكوت على خطوات من هذا القبيل وتملك أوراقاً يمكنها استخدامها حينها.
في الخلاصة، فتصريح بايدن – الذي تجنبه كل الرؤساء الذين سبقوه – حدثٌ جديد يؤكد عمق فجوة الثقة بين بلدين تجمع بينهما شراكة استراتيجية ويُعدّان القوتين الأولى والثانية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما يؤكد مرة أخرى المنحنى المتراجع للعلاقات بينهما في السنوات الأخيرة والذي لا يبدو أن هناك إشارات حقيقية حتى اللحظة على إمكانية عكسه، على الأقل على صعيد إرادة واشنطن وقرارها.