اتفاقية إسطنبول… انقسام اجتماعي يعزّزه انسحاب تركيا

اتفاقية إسطنبول… انقسام اجتماعي يعزّزه انسحاب تركيا

من احتجاجات السبت في إسطنبول (إرهان دمرطاش/ Getty)

خرجت تظاهرات في مدن تركية عدة، يومَي السبت والأحد، احتجاجاً على انسحاب تركيا من “اتفاقية إسطنبول” لمناهضة العنف ضدّ النساء. قرار تسبب بانقسام حاد، سياسياً واجتماعياً

بعد عشر سنوات على توقيع تركيا “اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي” المعروفة باسم “اتفاقية إسطنبول” انسحبت أنقرة، من دون ذكر الأسباب، إثر مرسوم جمهوري أصدره الرئيس، رجب طيب أردوغان، ليل الجمعة – السبت، ما أثار ردود أفعال في محافظات تركية عدة، إذ نظم منتدى مجلس النساء بإسطنبول تظاهرة في المدينة، شجبت الانسحاب وطالبت بالعودة وصون الحقوق الجندرية عموماً، وليس المرأة على وجه التحديد. كذلك، نظمت تظاهرات شاجبة في إزمير وأنقرة.

 

“اتفاقية إسطنبول” تناهض العنف ضد المرأة بأشكاله كافة، كالزواج القسري والعنف الجنسي والإجهاض والتعقيم القسري، بالإضافة إلى تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، والاغتصاب، والعنف النفسي، والإساءة بجميع أشكالها، والعنف الجسدي، وقد أبرمها المجلس الأوروبي وفتح باب التوقيع عليها في 11 مايو/ أيار 2011 في إسطنبول، ودخلت حيز التنفيذ في 1 أغسطس/ آب 2014. تهدف الاتفاقية أيضاً إلى الإسهام في القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وتعزيز المساواة الأساسية بين المرأة والرجل، من خلال تمكين المرأة، ووضع إطار شامل وسياسات وتدابير لحماية ومساعدة ضحايا العنف، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، ومساعدة المنظمات لضمان التعاون الفعال من أجل اعتماد نهج شامل للقضاء على العنف. وقّعت الاتفاقية 45 دولة من دول المجلس الأوروبي، كما وقعها الاتحاد الأوروبي، فيما امتنعت عن التوقيع كلّ من روسيا وأذربيجان، وصدّقت معظم الدول الموقعة عليها، فيما لم تصدّقها 13 دولة.

ومع هذا الانسحاب، يسأل كثيرون عن القوانين التي تحمي المرأة في تركيا، مع تخوفهم من ازدياد الجرائم ضد النساء. لكنّ المحامية الحقوقية التركية، بورجو كانوت، تقول لـ”العربي الجديد”: “في البداية، لن أتطرق للأسباب السياسية، سواء التي كانت ربما وراء الانسحاب أو التي ستستخدمها المعارضة بعده. يمكن القول أولاً إنّ انضمام تركيا، بل رعايتها لاتفاقية إسطنبول، لم يؤثر إيجاباً في تراجع الجرائم والعنف ضد المرأة، والأرقام تدلّ على ذلك، بل على العكس، زادت خلال العقد الأخير، بعد الاتفاقية، جرائم قتل النساء والتعنيف والقهر عموماً”. تتابع: “زادت كلّ أشكال الجرائم ضد المرأة، مما لم يكن في السابق، أو كان محدوداً… وبحسب تقرير وكالة بيانيت، فإنّ العام الماضي شهد مقتل 150 امرأة بأسلحة نارية، فيما قتلت 66 امرأة بالسكاكين، وقتلت ثلاث نساء حرقاً، وقضت 14 منهن خنقاً، فيما قضت 5 سيدات بسبب الضرب المبرح، وقُتلت سبع نساء بعد إلقائهن من الشرفات أو السيارات أو من جرف عالٍ”. تضيف المحامية التركية أنّ في بلادها، قبل وبعد اتفاقية إسطنبول، ما يضمن حقوق المرأة ويصونها، فالمادة العاشرة من الدستور التركي عام 2004 هي مادة المساواة أمام القانون، كما يراجَع ويعدّل الدستور، مراراً، فالمادة 41 يقول نصّها المعدّل الأخير إنّ الأسرة “تقوم على المساواة بين الزوجين”. تتابع كانوت أنّ بلادها تعتمد آليات مدنية للحماية من العنف الأسري بإقرار قانون حماية الأسرة رقم 4320 لعام 1998 الذي ينصّ على أنّ أيّ شخص في الأسرة، وليس المرأة فقط، يتعرض لأذى من قبل أحد أفراد الأسرة طالما كانوا تحت سقف واحد، رجلاً كان أم امرأة، يمكنه التقدم بطلب رفع دعوى قضائية للحصول على حكم من محكمة الأسرة. وذلك فضلاً عن اعتماد تركيا منذ عام 2012 القانون 6284 الذي يضمن كامل حقوق المرأة ويحميها من العنف بجميع أشكاله.

في المقابل، عبّرت الأحزاب المعارضة عن غضبها ورفضها انسحاب تركيا من الاتفاقية، وقال رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو: “من المؤلم أن نسمع بصدور قرار الانسحاب من اتفاقية إسطنبول لحماية المرأة، بعد منتصف الليل، على الرغم من أنّنا في بلد يتناقل أخبار مقتل امرأة كلّ يوم”. وأيدت نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري، غوكجة غوكجن، رئيس البلدية إمام أوغلو، بالقول: “معنى الخروج من الاتفاقية أن تستمر معاملة المرأة باعتبارها درجة ثانية في المجتمع، حتى إنّ ذلك يعني قبول تعرض النساء للقتل… هذا وفق منطق من تعدى على إرادة البرلمان وسلبه ذلك الحق”. وقال رئيس أكبر الأحزاب التركية المعارضة “حزب الشعب الجمهوري” كمال كليجدار أوغلو: “لا يمكن سلب حقوق 42 مليون امرأة بقرار يصدر بعد منتصف الليل، لا يمكن إدارة الدول بقرارات تصدر في منتصف الليل”. ولم يبتعد موقف حزب “الجيد” المعارض عن هذا الموقف، إذ دعا مكتب اللجان المركزية إلى اجتماع طارئ لمناقشة أسباب الانسحاب.

في هذا الإطار، يرى الباحث سعيد الحاج أنّ مرسوم الرئيس التركي بالانسحاب من الاتفاقية “أنهى جدلاً ونقاشات، استمرت لأشهر في تركيا، حول الانسحاب من اتفاقية أخذت اسم إسطنبول، بعد توقيعها في هذه المدينة، وبذل الوفد التركي يومها جهوداً لتوقيعها. والنقاش كان من منطلق أنّ للاتفاقية تأثيراً سلبياً على بنية المجتمع التركي، تحديداً الأسرة، لأنّها تتيح وتشجع المثلية والشذوذ الجنسي وتؤثر في بنية الأسرة التركية وتماسك المجتمع”. وبطبيعة الحال، يقول الحاج إنّ المحافظين والقوميين هم “أكثر من تناول هذه المسائل، وهم الحاضنة الشعبية للتحالف الحاكم”. يتابع: “في المقابل، هناك نقاشات معارضة للانسحاب، من الأحزاب المعارضة وتيارات نسوية، باعتبار الانسحاب يزيد العنف ضد المرأة، خصوصاً أنّ تركيا تعاني خلال السنوات الأخيرة من تزايد هذا النوع من الجرائم ضد المرأة”. يضيف لـ”العربي الجديد” أنّ تركيا سنّت العديد من القوانين المرتبطة بذلك، في السنوات الأخيرة، وزادت من عقوبات جرائم العنف ضد المرأة، ولم يكن ذلك رادعاً، بدليل زيادة الجرائم ضد النساء. لذلك يقول الحاج: “وعد الرئيس أردوغان خلال يوم المرأة العالمي، قبل أيام، بأن يعاد تشكيل لجنة متخصصة مرة أخرى، من البرلمان التركي، لاعتماد الوسائل الكفيلة بردع الجرائم وتقليصها في البلاد”.

من جهته، يقول الشاب آرجان كوكلو، وهو ممن شاركوا بتظاهرة في إسطنبول لـ”العربي الجديد” إنه لا مبرر لانسحاب تركيا من “اتفاقية إسطنبول” سوى “تعزيز وزيادة حالات الأسلمة في المجتمع التركي وتشجيع العنف ضد المرأة”. يضيف: “من حقنا أن نعيش كما نريد، سواء على صعيد المساكنة أو المثلية، طالما أنّنا لا نخرق القوانين، ولا نسيء لأحد. هذه حريات شخصية ويجب على الدولة تفهمها والسماح بممارستها”.
في المقابل، يرى رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة “ابن خلدون” في إسطنبول، رجب شان تورك، أنّ “اتفاقية إسطنبول” ليست قانوناً، ولا بد في البداية من التفريق بين القانون والاتفاقية، بمعنى أنّ الانسحاب منها “لا يعني على الإطلاق الانتقاص من حقوق المرأة أو التهاون بمعاقبة المجرمين، فالمرأة ابنتنا وأختنا وأمنا، كما أنّ في تركيا قوانين تحمي حقوق المرأة وتحفظها”. يضيف لـ”العربي الجديد” أنّ “وراء اتفاقية إسطنبول مفاهيم وفلسفة لا تتناسب مع بنية المجتمع التركي، خصوصاً الإسلامية، سواء ما يتعلق منها بالمثلية وزواج الرجال بعضهم من بعض، أو تغيير المفاهيم الجنسية وفتح باب الانحراف بذريعة الحق الشخصي والتطور”، مشيراً إلى أنّ الاتفاقية تواجه جدالاً منذ سنوات وهناك نقاشات كثيرة وسابقة ودعوات للانسحاب منها من البرلمان التركي، وليست القضية مرتبطة بمواقف سياسية، داخلية أو خارجية، كما يحاول البعض التسويق.

ومع سؤال “العربي الجديد” لماذا إذاً وقّعت تركيا في الأساس على اتفاقية إسطنبول، ما دامت لا تتناسب والقيم والعادات الاجتماعية التركية، يقول الأكاديمي شان تورك: “في البداية، لم تكن القراءات لغرض الاتفاقية، كما تبيّن في ما بعد، فيوم احتضان تركيا الاتفاقية كان الهدف حماية المرأة وحقوقها من العنف والانتقاص، وتركيا ما زالت تحمي المرأة، لكنّ قضايا الشذوذ وتشجيعه وفتح باب الانحراف بتشريع هو ما لا ترغب فيه تركيا. المرأة في تركيا لها نصف الممتلكات، ولا يسمح القانون بتعدد الزواج، وهي صاحبة الحق سلفاً، بأيّ ادعاء حتى يثبت العكس”.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

تركيا والاتحاد الأوروبي: تغليب لغة الحوار

المقالة التالية

العدالة والتنمية التركي: مؤتمر اعتيادي بطعم استثنائي

المنشورات ذات الصلة