إلى أي مدى ستذهب تركيا في عقاب كردستان العراق؟
عربي 21
نظم إقليم كردستان العراق استفتاء الاستقلال رغم تحفظات وتهديدات الثلاثي بغداد – أنقرة – طهران وغياب الغطاء الدولي، ويحاول منذ تلك اللحظة تجنب العقوبات التي هُدد بها.
ولئن سبقت إيران إلى الفعل عبر إغلاق المجال الجوي والمعابر الحدودية في مقابل النبرة التركية الحادة دون فعل قاس حتى الآن، إلا أن عيون البارزاني تبقى مركزة – بعد بغداد – على أنقرة.
فالأخيرة هي الداعم السياسي والمالي الأول له، والرئة التي يتنفس منها الإقليم من خلال التجارة البينية عبر الحدود وخطوط تصدير النفط والاستثمارات والشركات التركية العاملة على أراضيه، ولذلك يبقى لتهديداتها معنى آخر.
وكانت التصريحات التركية قد تدرجت مع الوقت من التحذير من “خطأ” ينبغي العودة عنه، إلى التحذير من “حرب أهلية” عراقية، ثم من “صراع دولي” قد يندلع بسبب مسار الاستقلال، إلى تأكيد رئيس الوزراء بن علي يلدريم على أن الاستفتاء “لن يمر بلا عقاب”، وصولاً لتهديد الرئيس اردوغان بإغلاق الحدود ووقف تصدير النفط وتجميد عبور الشاحنات مما قد يؤدي إلى “جوع” الإقليم.
هدفت التصريحات عالية السقف والتهديدات المتعددة إلى الضغط على البارزاني لإلغاء أو تأجيل الاستفتاء، أما وقد أجري الاستفتاء فثمة مروحة من العقوبات التي تملك أنقرة قرار تفعيلها في وجه الإقليم وقيادته يمكن جمعها في ثلاث مسارات:
الأول، الإجراءات المتعلقة بالسيادة ومقوّمات الانفصال، بما يشمل المعابر الحدودية والتعاملات التجارية والقنصلية في أربيل وما إلى ذلك. وهي إجراءات عقابية في متناول اليد ولها أولوية كما يبدو لدى أنقرة، ولذا فقد سارعت إليها من خلال التهديد بإغلاق معبر الخابور الحدودي (بين تركيا والإقليم، والأهم بين ثلاثة معابر مع العراق) واستخدام معبر آخر، ووقف الرحلات الجوية للإقليم بناء على طلب بغداد، وإعلان بغداد (دون أن تعقّب أنقرة) أن تصدير نفط الإقليم سيتم بالتوافق معها، إضافة لاحتمالية تسليم المعابر لهذه الأخيرة.
الثاني، العقوبات الاقتصادية، يحتل العراق المرتبة الثالثة في جدول الصادرات التركية بقيمة 7.2 مليار دولار عام 2016 و5.4 مليار دولار حتى نهاية تموز/يوليو من هذا العام (بزيادة %34،) ويتوقع أن حصة الإقليم منهما في حدود %60. الأراضي التركية هي المسار الذي يعبره نقط الإقليم (أهم الصادرات والعصب الرئيس للاقتصاد) للخارج، ويبدو الإقليم معتمداً بشكل كبير على ما يستورده من السوق التركية.
العقوبات الاقتصادية المحتملة نوعان، أحدهما يستهدف القيادة السياسية للإقليم مثل وقف الدعم المالي له والتدريب المقدم للبيشمركة كما أعلن الناطق باسم الحكومة بكير بوزداغ، والثاني قد يؤثر على مواطني الإقليم مثل وقف/تقييد تصدير النفط عبر الأراضي التركية وعدم إرسال الشاحنات التركية وسحب الشركات والمستثمرين الأتراك من الإقليم وإغلاق معبر الخابور تماماً ونهائياً. هذا النوع الثاني تحديداً سيكون من الصعب على أنقرة تفعيله، لما قد يسببه من معاناة إنسانية داخل الإقليم بما يتناقض مع موقف تركيا من حصار قطر وقبل ذلك حصار غزة ومع نشاطها البارز في مجال الإغاثة الإنسانية حيث تحتل المرتبة الثانية عالمياً (بعد الولايات المتحدة) في قيمة المساعدات والأولى عالمياً في نسبة المساعدات للدخل القومي.
الثالث، الخيار العسكري، الذي بدا مطروحاً على الطاولة عبر المناورات العسكرية التركية التي بدأت على حدود الإقليم/العراق في الـ18 من الشهر الفائت، وازدادت احتمالاته بانضمام قوات عراقية لها، وتزداد أكثر مع زيارة رئيس الأركان العراقي لأنقرة وزيارة نظيره التركي لطهران حالياً تمهيداً لزيارة أردوغان بعد غد، والتي قال الأخير إنها ستتضمن “رسم خريطة طريق” بين البلدين فيما يتعلق بشمال العراق.
قلتُ سابقاً إن ما يقلق تركيا هو مسار “الاستقلال” أكثر من مجرد إجراء “الاستفتاء”، وعليه فقد توقعت أن تتبلور المواقف والقرارات التركية حسب المسار الذي سيختطه البارزاني بعد الاقتراع. إذ ثمة فارق كبير بين استثمار النتيجة لتحسين شروط التفاوض مع بغداد وبين استخدامها لإعلان الانفصال من طرف واحد أو تدويل القضية.
انطلاقاً من هذا التقييم، تبدو أنقرة حريصة جداً على كل ما من شأنه تقويض فرص وإمكانات الانفصال ومسار الاستقلال الآن ومستقبلاً، ولذلك فلم تتأخر في وقف الرحلات الجوية لمدن الإقليم وربما تغلق قنصليتها في أربيل قريباً، ومن المحتمل جداً أن تسلم المعبر للحكومة المركزية وتجمد العلاقات مع قيادة الإقليم إذ طلبت من ممثل البارزاني عدم العودة لتركيا حالياً.
أما العقوبات الاقتصادية فتبدو تهديداً أكثر منها خياراً حقيقياً، إذ لم يثبت يوماً أن العقوبات الاقتصادية قد أجبرت طرفاً/دولة ما على الخضوع، من كوبا إلى إيران ومن كوريا الشمالية إلى قطر مروراً بقطاع غزة. أكثر من ذلك، فالعقوبات الاقتصادية ستضر بتركيا أيضاً وإن بنسبة أقل، وتفتح الباب على خيارات أخرى أمام أربيل وتلقي بها بعيداً عن أنقرة (كما بحثت الدوحة عن خيارات جديدة)، فضلاً عن إضرارها بصورة تركيا. لكل ذلك، لا يمكن أخذ تهديد تجويع الإقليم على محمل الجد، وإنما على صعيد التهديد أو الإشارة الضمنية إلى مدى اعتماد اقتصاد شمال العراق على تركيا تذكيراً للبارزاني بالماضي ودعوة له للتفكير بالمستقبل بواقعية.
وأما الخيار العسكري، بمعنى دخول قوات تركية إلى أراضي الإقليم، فمن الصعب تحققه في ظل المعطيات الحالية ويمكن أن يكون خياراً أخيراً فقط في حال قررت بغداد استلام المعابر والحدود بالقوة وقاوم الإقليم أو حصلت تطورات استثنائية تسوغ لأنقرة ذلك مثل مهاجمة التركمان أو محاولة تغيير الحدود أو إعلان الانفصال بشكل أحادي أو حدوث فوضى ما في كركوك، بمعنى التدخل المحدود بغطاء حكومة بغداد وإذنها أو فقط “لمساعدتها”.
وفي كل الأحوال، يمكن وضع كافة التصريحات والإجراءات التركية المفترضة في خانة الضغط على البارزاني لتعديل مساره دون خسارته تماماً، فما زال أفضل خياراتها في الساحتين الكردية وبدرجة أقل العراقية وبدائله كردياً يتقدمها العمال الكردستاني والطالباني، كما أن تشديد الضغط والمواجهة معه لدرجة اللاعودة قد يعني انتقاله لحضن آخر (كبغداد وطهران، الآن أو مستقبلاً) وهو ما لا تريده أنقرة أبداً. وهو ما قد يفسر التصريحات التركية مؤخراً بعرضها التوسط للحوار بين بغداد وأربيل، ودعوة البارزاني لنسيان الاستفتاء والتفاوض مع العبادي، وهو ما قدم الرجل بعض إشارات بخصوصه ستختبر الأيام القادمة مدى جديتها.