إعادة انتخابات إسطنبول في أسئلة وأجوبة

إعادة انتخابات إسطنبول في أسئلة وأجوبة
(منشور فيسبوكي طويل ومفصّل)

12/5/2019

كما كان متوقعاً، أحدث قرار إعادة الانتخابات في إسطنبول جدلاً كبيراً في تركيا وآخر لا يقل عنه في العالم العربي. وقد كتبتُ في الأمر وحوله بعض المقالات ومنشورات الفيسبوك، لكن يبدو لي أن بعض مسوغات القرار وتبعاته ليست واضحة تماماً لدى الكثيرين.

فضلاً عن الكثيرين الذين يقاربون المسألة من باب الاصطفاف والتأييد أو الرفض (وأحياناً منطق الألتراس) وبالتالي لا يجدون في المقالات/المنشورات ما يبحثون عنه من محاكمات ومواقف وانحيازات، فيصل بعضهم لدرجة الاتهامات بالحب والكره والحقد والانحياز…الخ، رغم أن من يتابع العبد الفقير يدرك أنني أكتب تحليلاً وتفسيراً وليس آراء شخصية.

سأحاول أن أعيد تبسيط الأمر وتفسيره في سلسلة من الأسئلة والإجابات:
س1: هل قرار اللجنة العليا للانتخابات في تركيا قانوني؟
ج1: نعم، هو قانوني شكلاً وموضوعاً.
لأنه أتى عبر طلب من حزب سياسي وفق قانون الانتخابات، وأصدرته مرجعية الانتخابات وهي اللجنة العليا، ووفق مادة قانونية انتهكت في العملية الانتخابية.

س2: لماذا قررت اللجنة إعادة انتخابات إسطنبول؟
ج2: لم تصدر اللجنة بعد قرارها المسبَّب المفصَّل، لكنها أصدرت بياناً أولياً مقتضباً يمكن البناء عليه. حسب البيان هناك سببان للإعادة: الأول هو وجود عدد من رؤساء اللجان (225) التي أشرفت على الصناديق خلال يوم الاقتراع وأعضائها (3500) من غير الموظفين الحكوميين، وهو انتهاك لمادة قانونية. الثاني وجود عدد من المشاكل تتعلق بمحاضر الصناديق مثل عدم وجود تواقيع أو وجود معلومات ناقصة أو محاضر فارغة…الخ.
ورأت اللجنة أن عدد الأصوات في اللجان المقصودة (قدر بحوالي 42 ألفاً) يتجاوز الفارق بين المرشحين الرئيسين في إسطنبول (13 ألفاً تقريباً) ما يعني أنه نظرياً يمكن أن يكون أثر على النتيجة، فقررت إعادة الانتخابات.

س3: هل سبب إعادة الانتخابات هو حصول تزوير فج وتلاعب واسع؟
ج3: لا، لا تقول اللجنة ذلك.
وبالتأكيد فإن المعيار في هكذا أمر ليس خطاب الأحزاب السياسية التي تحرص على الدعاية وتحسب حساب انتخابات الإعادة، وإنما اللجنة العليا للانتخابات التي هي المرجعية النهائية والتي يقر الجميع في تركيا (ومؤخراً بعد قرار الإعادة الكثيرون في العالم العربي) بنزاهتها واستقلاليتها.

س4: ألم يحصل تزوير وتلاعب في انتخابات إسطنبول؟
ج4: حصلت تجاوزات كثيرة يمكن أن تعتبر أخطاء أو تلاعب أو حتى تزوير، لكنها عولجت في مراحل التظلم والطعون الثلاثة قبل طلب العدالة والتنمية الاستثنائي إعادة الانتخابات. ولذلك فقد تراجع الفارق بين إمام أوغلو ويلدرم من حدود 29 ألفاً إلى حدود 13 ألفاً. ما يعني أن موضوع التزوير أو التلاعب لا علاقة مباشرة له بقرار إعادة الانتخابات ولا علاقة له بالضرورة بالنتيجة التي أعلنت.

العدالة والتنمية يقول إن إعادة فرز %10 من الصناديق أدى لهذا التراجع في الفارق فيفترض أن إعادة فرزو الـ%90 ستعطي نتيجة مغايرة، لكن أولاً لا دليل مباشر على ذلك، وثانياً اللجنة العليا للانتخابات لم تر وجاهة لذلك.

س5: هل المعارضة قادرة على التزوير؟
ج5: نظرياً وعملياً لا.
نظرياً، منظومة الانتخابات في تركيا لا تتيح التزوير الفج حتى للحزب الحاكم، ولم يحصل تزوير فج في تركيا منذ انتخابات 1946. إشراف اللجنة العليا للانتخابات، ومشاركة ممثلي الأحزاب في كل الصناديق، ومراقبة متطوعين ومؤسسات مجتمع مدني تركي ومؤسسات دولية، فضلاً عن توثيق النتائج الفرعية لكل صندوق على حدة، وغيرها من الضمانات لا تسمح بالتزوير الفج.
وعملياً، لا تستطيع المعارضة القيام بتزوير فج في ظل حكم العدالة والتنمية منذ 17 عاماً، كما أن رؤساء اللجان لا تعيّنهم المعارضة بل لجنة الانتخابات وهي هيئة مستقلة مشهود لها بالنزاهة. وإذا ما افترضنا إمكانية ذلك، فلماذا لم تتراجع نسبة التصويت للعدالة والتنمية في إسطنبول؟ ولماذا فاز العدالة والتنمية بمعظم البلديات الفرعية؟ بما أكسبه أغلبية المجلس البلدية لبلدية إسطنبول الكبرى؟ رغم أن اللجان أشرفت على كل ذلك؟ هل من يزور الانتخابات ليكسب رئاسة البلدية يترك لمنافسه أغلبية المجلس البلدي التي يمكنها أن تقيّد عمله وتفشله؟

س6: هل التزوير هو سبب نتيجة إسطنبول وفوز إمام أوغلو؟
ج6: لا، لا يبدو ذلك. فنسبة التصويت للعدالة والتنمية لم تتراجع، وإنما زادت نسبة التصويت للشعب الجمهوري بسبب التحالف المعلن مع الحزب الجيد وغير المعلن مع الشعوب الديمقراطي. كما أن العدالة والتنمية فاز بـ24 من أصل 39 بلدية فرعية في إسطنبول. بمعنى أن منظومة التحالفات وحدّة الاستقطاب في البلاد هما ما أدى إلى فوز المعارضة وليس تراجع العدالة والتنمية أو تزوير نتيجته.

س7: هل حصل ضغط سياسي على اللجنة العليا للانتخابات؟
ج7: نعم، حصل ضغط عليها، ومن الطرفين والتحالفين، تصريحات وإيماءات وأحياناً تهديدات مبطنة ودعوات من الجانبين لأن “تقوم بواجبها التاريخي”، وصولاً لتصريح الرئيس اردوغان بأن “مواطنينا يطلبون إعادة الانتخابات”. وغني عن الذكر أن ضغط المعارضة لا يقارن من حيث منطلقه وأثره ونتائجه مع ضغط حزب العدالة والتنمية، خصوصاً أنه الحزب الحاكم وأنه المتقدم بالطعن بعد خسارته وفق النتائج الرسمية.

س8: هل الضغط السياسي هو السبب في قرار الإعادة؟
ج8: لا، لا يوجد دليل ملموس واضح ومباشر على ذلك. وهو أمر يصعب إثباته أصلاً.

س9: لماذا يرى البعض أن ضغوط العدالة والتنمية ساهمت في قرار إعادة الانتخابات؟
ج9: لأسباب كثيرة، أهمها:
أ- ممارسة الضغط من حزب حاكم منذ 17 عاماً بحد ذاتها مؤشر.
ب- إلغاء اللجنة العليا للانتخابات نتيجة فوز عدد من منسوبي حزب الشعوب الديمقراطي، بسبب صدور مراسيم رئاسية بحقهم، رغم أن المراسيم سابقة على الانتخابات وأن اللجنة كانت قد سمحت لهم – رغم المراسيم – بالترشح والمشاركة.
ت- ألغت اللجنة نتيجة إسطنبول الكبرى وأبقت على نتائج البلديات الفرعية، رغم أن اللجان المقصودة بالقرار أشرفت على كليهما. ترى اللجنة أنها تنظر فقط في الدعاوى المقدمة إليها (العدالة والتنمية تقدم بطلب إلغاء نتيجة إسطنبول ولم يتقدم هو أو غيره بطلب إلغاء جميع البلديات الفرعية)، وأن الفارق قد يؤثر على نتيجة إسطنبول الكبرى بينما هو غير مؤثر على نتائج البلديات الفرعية. لكن في نهاية المطاف هذه ثغرة واضحة في القرار. فإذا ما كانت اللجان قد تدخلت وبدّلت وزوّرت – ولو احتمالاً – فكيف يُقبل منها إشرافها على باقي الانتخابات؟ وهي الأوراق التي تدخل في نفس الظرف يوم الاقتراع؟
ج- هناك من يقول بأن إشراف رؤساء لجان من غير الموظفين الحكوميين على الانتخابات حصل في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2018 ولم تـُعد الانتخابات في حينها.(هذا أمر لم أتأكد منه بنفسي، لكن قيوده ووثائقه موجودة لدى الأحزاب السياسية ولجنة الانتخابات، ومن السهل تأكيده أو دحضه بالنسبة لها)

س10: أليس من حق العدالة والتنمية أن يستخدم كل حقوقه القانونية ويحاول الفوز ببلدية إسطنبول الأهم في تركيا؟
ج10: نعم، من حقه ذلك، ولا أحد ينكر حقه في ذلك.

س11: لماذا إذاً يرى البعض (ومنهم العبد الفقير) أن الأفضل للعدالة والتنمية كان عدم إعادة الانتخابات؟
ج11: لأن الهدف الأهم لا ينبغي أن يكون الفوز ببلدية إسطنبول الكبرى “مهما كان الثمن”. في ظل كل ما سبق تفصيله، يبدو العدالة والتنمية وكأنه يريد بلدية إسطنبول الكبرى مهما كان المقابل الذي يمكن أن يخسره أو تخسره تركيا.
ما هي هذه الخسارات المحتملة أو المفترضة (قد لا تحصل)؟
1) الضغط على الأوضاع الاقتصادية، وقد رأينا تراجع الليرة أمام العملات الأجنبية قبل أن تعود للانتعاش قليلاً بعد تدخل البنك المركزي.
2) ظهور الحزب بمظهر الضاغط على لجنة الانتخابات وبالتالي التشكيك بقانونية قرار الإعادة.
3) فتح الباب على إمكانية التشكيك بنزاهة واستقلالية اللجنة العليا للانتخابات والعملية الانتخابية في تركيا، وهو أمر إن حصل وتفاقم ستكون له نتائج غير محمودة. (رغم الوصاية العلمانية والانقلابات العسكرية، بقيت للعملية الانتخابية في تركيا مصداقيتها وحيثيتها وتأثيرها)
4) منح إمام أوغلو والشعب الجمهوري صفة “المظلومية” وهو أمر مهم جداً ومؤثر في قرار الناخب. من المهم في هذا السياق المقارنة بين اسم أكرم إمام أوغلو وصداه قبل الانتخابات واليوم.!!
5) يقول أستاذ العلوم السياسية حسن كوسة بالابان إن قرار الإعادة منعطف تاريخي في تجربة العدالة والتنمية لأنه لأول مرة يظهر الشعب الجمهوري وكأنه يأخذ لواء الدفاع عن الحريات والديمقراطية والإصلاحات في البلاد من يد العدالة والتنمية الذي كان رفع هذا اللواء منذ بداية تأسيسه وقام بإصلاحات عديدة وجبارة. اليوم يغامر الحزب بإعطاء انطباع أنه تحول لحزب حاكم متشبث بالسلطة رغم نتائج الانتخابات وأن الشعب الجمهوري أو المعارضة باتوا طالبي لواء التغيير والديمقراطية، وهذا أمر خطير.
6) يعطي العدالة والتنمية لأنصاره انطباعاً بأنه غير جاد في التجاوب مع رسائل الانتخابات وتحفظاتهم عليه، وأنه يركز فقط على كسب الانتخابات.
7) لا ينبغي النظر لقرار الإعادة بمعزل عن الأمور الكثيرة التي تؤخذ على العدالة والتنمية، خطاباً وممارسة وتحالفات وتوجهات، في السنوات القليلة الأخيرة.
8) نتيجة الإعادة غير مضمونة للعدالة والتنمية، وتداعيات الخسارة للمرة الثانية في حال صحلت ستتجاوز تداعيات الخسارة الأولى بمراحل، وتتخطى فكرة المنافسة مع المعارضة وتأكيد فوزها لتصل إلى الديناميات داخل حزب العدالة والتنمية وفرص تأسيس حزب جديد ينافسه من قبل قيادات سابقة فيه.

س12: هل فوز يلدرم في الإعادة يؤكد ويثبت حصول تزوير في الجولة الاعتيادية؟
ج12: لا، لا يؤكد ذلك ولا يثبته، لا علاقة بين الأمرين. كل عملية انتخابية هي عملية شبه مستقلة لها دينامياتها الخاصة وتتأثر بعدة عوامل منها عوامل إضافية.

س13: كيف يمكن تفسير مواقف داود أوغلو وعبدالله غل الرافضة للإعادة؟
ج13: أعتقد أن لها ثلاثة تفسيرات تكمل بعضها البعض:
1) الحرص على صورة العدالة والتنمية وتجربته، وهذا أمر لا ينفصل – كما ذكرت سابقاً – عن الانتقادات للحزب بصورة عامة، والتي نشرها داود أوغلو في منشور طويل مستقل. إضافة لعدم تصويبهم قرار اللجنة لعدة اعتبارات منها ما ذكر هنا.
2) اليأس من محاولات إيصال الصوت داخلياً والشعور بأن النقد ومحالات الإصلاح لا يُستمع لها ولا يُؤبه بها. (أحد الكتّاب وهو صديق عزيز له احترامه كتب في مقال له “يفند” انتقادات داود أوغلو أن اردوغان يستمع للنصح والنقد بعد كل انتخابات لكنه لا يطبقه لاحقاً بالضرورة، لأن “المنتقدين قد يكونون على خطأ”)
3) فكرة تأسيس حزب جديد ينافس العدالة والتنمية، وهو أمر يدفع للتمايز في المواقف فيما يبدو.

س14: لماذا هذا “الحرص على رأي المعارضة وردات الفعل الدولية” فيما يخص الانتخابات التركية، في ظل معرفة الجميع باستهداف الخارج لتركيا واردوغان وازدواجية معاييرهم…الخ؟
ج14: ليس المعيار هو ردات فعل الخارج رغم أهميتها في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا، كما أن موقف المعارضة مهم في المعادلة. لكن المعيار الرئيس هو رأي الشعب التركي، فهو صاحب القرار الأخير في الانتخابات، ولا أحد يضمن كيف سيكون تقييمه لقرار إعادة الانتخابات وبالتالي موقفه وتصويته يوم الاقتراع.

س15: ما هو رأيك وموقفك من الإعادة ومن العدالة والتنمية ومن داود أوغلو…الخ؟
ج15: ما أكتبه ليس “رأيي” أو “موقفي”، بل “تحليلي” و”توقعي”. رأيي وموقفي أقوله في صندوق الانتخاب أو في نقاشات خاصة مباشرة. أما ما أكتبه في المقالات والمنشورات فلا يعبر عن رأيي وليس فيه “تقييم” أو “حكم” وإنما “تحليل” و “استشراف” فقط.
وتحليلي أن قرار الإعادة وإن كان قانونياً في شكله ومضمونه إلا أنه فيه ثغرات واضحة تدفع للتشكيك بمدى استقلالية القرار واللجنة التي أصدرته، وأنه ليس من مصلحة العدالة والتنمية وتركيا إعادة الانتخابات وإن كان ذلك حقاً دستورياً وقانونياً للحزب، وأن للقرار تداعيات سلبية على صورة الحزب والتجربة الديمقراطية في تركيا وتجربة العدالة والتنمية وصورة واستقلالية اللجنة العليا للانتخابات، على صعيد الانطباعات وإن لم يكن بالضرورة على صعيد الحقائق والانطباعات أحياناً تبدو أهم وأكثر تأثيراً من الحقائق في عالم السياسة.
وتحليلي أن نتيجة الإعادة غير مضمونة أبداً، وأن العدالة والتنمية متضرر في الحالتين في حال فاز أو خسر، وأن فوز إمام أوغلو في الإعادة إن حصل سيكون له تداعيات صعبة على العدالة والتنمية ووحدته وتماسكه.
والله أعلم
سعيد وليد الحاج

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

إعادة انتخابات إسطنبول بين القانوني والسياسي

المقالة التالية

تركيا وصفقة إس 400 والحلول الوسط

المنشورات ذات الصلة