لا نملك إلا أن نعترف بأن اختيار المعارضة التركية للبروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي، مرشحاً توافقياً لها للانتخابات الرئاسية التركية كان قراراً موفقاً وفق حسابات الانتخابات وصفات الرجل وفرص المنافسة. فما الذي يملكه الرجل من سمات ومواصفات جعلته مرشح المعارضة، وما الذي تريده المعارضة من ترشيحه، ومن – فيما يبدو لنا – اختاره مرشحاً للرئاسة؟
لا بد لنا بداية من أن نذكر أن تقديم المعارضة لاسم إحسان أوغلو فاجأ أوساط الحكم والمعارضة والمراقبين على حد سواء، فالرجل غير معروف سياسياً، مغمور داخلياً، محسوب على المحافظين ظاهرياً، ومن رشحه للأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقاً) كان الرئيس غول ورئيس الوزراء اردوغان تحديداً. فكيف يمكن أن يرشحه حزبا المعارضة الرئيسان لقمة الدولة التركية، وأمام اردوغان أو غول نفسيهما؟
إلا أن عنصر المفاجأة في الاختيار ليس مقتصراً على ذلك، بل لأن البروفيسور أكمل الدين كان الإجابة الشافية لتساؤلات المعارضة منذ أشهر طويلة، ذلك أن حزب الشعب الجمهوري (العلماني الكمالي) وحزب الحركة القومية (اليميني القومي) اتفقا منذ فترة طويلة على ضرورة تقديم مرشح توافقي تجتمع عليه المعارضة إن كانت تريد منافسة اردوغان (المرشح الأوفر حظاً من قبل العدالة والتنمية، لكن بشكل غير رسمي حتى الآن)، وكانت المعضلة أن تجد شخصاً محافظاً أو إسلامياً (ليرضي القوميين والإسلاميين) وبنفس الوقت يدعو علناً للمحافظة على المبادئ العلمانية للدولة ويكون بعيداً عن دوائر العدالة والتنمية (ليرضي العلمانيين واليساريين). وما تسعى إليه المعارضة من وراء تلك المواصفات هو الحصول – إلى جانب حزبي المعارضة الرئيسين – على أصوات الأحزاب الإسلامية والقومية الصغيرة، وبعض الأكراد، وربما بعض أنصار العدالة والتنمية الذين قد لا يرغبون برؤية اردوغان رئيساً (خوفاً من تحكمه، أو رغبة في بقائه على رأس الحزب).
وفق هذه الصورة، يمكننا أن نرى عبقرية الاختيار، فالرجل له هيئة محافظة وكان أميناً عاماً لمنظمة إقليمية على مستوى العالم الإسلامي، وله سيرة ذاتية أكاديمية مرموقة، وهو في الوقت نفسه غير محسوب تماماً على الإسلاميين، بل حرص أن يكون أول حديث صحافي له بعد الترشح مع صحيفة “جمهوريت” المقربة من حزب الشعب الجمهوري عن “أتاتورك” وعلمانية الدولة، كما حرصت وسائل الإعلام المعارضة على نشر صورته مع زوجته غير المحجبة لترسيخ فكرة أنه ليس “إسلامياً” بالمعنى التقليدي. لكن المعارضة التركية لم تبد سابقاً هذا القدر من الذكاء والتخطيط الدقيق، فهل كان إحسان أوغلو مرشحها وفكرتها هي وحدها؟
إن نظرة على تاريخ الرجل ومواقفه خلال ترؤسه للأمانة العامة للمنظمة الإقليمية (التي تتخذ من جدة مركزاً لها) توضح أنه كان ناطقاً باسم مؤسسته، التي تمثل النظام الرسمي لدول العالم الإسلامي، بقيادة الدول الخليجية بدرجة كبيرة، ولذلك صدرت انتقادات واسعة وعلنية للرجل من تركيا نفسها إزاء صمت المنظمة أو مواقفها غير الجدية من الأزمة في سوريا أو الانقلاب في مصر، وموقفه السلبي عموماً إزاء الربيع العربي. وهذا يشير إلى أن الرجل ربما يدور في ذلك الفلك، أو على الأقل يمكنه التعامل معه وتحت سقفه.
أما اللافت جداً، فهو أن وسائل الإعلام المقربة من جماعة الخدمة بقيادة كولن (المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية) احتفت بالرجل وبدأت فعلياً الدعاية له قبل أن تبدأ حملته الرسمية، وقبل حتى أن يتأكد ترشيحه. فإذا ما تذكرنا أن هذه الجماعة هي رأس الحربة في مواجهة الحكومة التركية والحزب الحاكم، وأنها المتهمة بالوقوف وراء التجسس على مفاصل الدولة والقيام بـ”انقلاب قضائي” في تركيا، يمكننا ربما أن نشعر بأهمية وخلفيات الترشيح بهذه الطريقة.
حسناً، يقول الكثيرون أن الرجل غير معروف للمواطن التركي لأنه كان يترأس منظمة إقليمية، وأنه لا يملك الخبرة والكاريزما والكفاءة التي يمتلكها مرشح العدالة والتنمية (أياً كان) كرجل دولة من الطراز الأول، وهذا صحيح. لكننا لو افترضنا أن الرجل سيحصل على الدعم السياسي من أحزاب المعارضة الرئيسة، والدعم الإعلامي من جماعة كولن، وأصوات الأحزاب اليمينية والإسلامية الصغيرة التي رحبت فعلاً بترشحه، إضافة إلى إمكانية أن يكون تمويل حملته الانتخابية خليجياً، سندرك أن نتائج الانتخابية الرئاسية المقبلة لم تعد محسومة منذ الآن كما كانت قبل خبر ترشيح الرجل.
ولكن، هل يفوز السيد إحسان أوغلو أم يكتفي بالمنافسة؟ وهل تريد المعارضة من وراء ترشيحه منصب الرئاسة فعلاً أم مجرد تقليل وقع ونسبة وأصوات فوز العدالة والتنمية؟ وهل الهدف هو الانتخابات الرئاسية أم الانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2015؟ وهل لديه برنامج انتخابي، وما هي ملامحه الرئيسة؟ وكيف سيؤثر ترشحه على قرار العدالة والتنمية؟ تلك هي المحاور التي سيتناولها مقالنا القادم بإذن الله.