تعجز معظم جيوش العالم عن هزيمة فرق منظمة تقاتل بطريقة حرب العصابات، ويمكن التخفي من الشرطة بسهولة لكن من الصعب الاختباء من المافيا. ربما تكون هذه مشكلة العدالة والتنمية في حربه مع “التنظيم الموازي”، إذ أن اعتماد السرية والعمل غير المنظم او المتوقع يعصب التكهن به والسيطرة عليه.
أقول ذلك رداً على أسئلة الكثيرين حول عجز الحكومة حتى الآن عن وقف التسريبات، وأقول “ربما” بسبب الاختلاف الكبير (لناحية الحدث والمكان والأشخاص والسياق) بين كل التسريبات السابقة وتسريب يوم الخميس الذي أدى لإغلاق موقع يوتيوب على الشبكة العنكبوتية في تركيا. الأمر الذي يطرح احتمالين آخرين إضافة للتنظيم الموازي، فيما خص الجهة المسؤولة عن التنصت والتسريب.
فقد نشر على موقع يوتيوب تسجيل صوتي لاجتماع (أو حوار على هامش اجتماع) تم في وزارة الخارجية، بحضور وزير الخارجية ومستشاره، ورئيس جهاز الاستخبارات ونائبه، ونائب رئيس هيئة أركان الجيش. وفيما يبدو من التسجيل أن الاجتماع يناقش احتمالات التدخل التركي في سوريا (بما في ذلك الخيار العسكري) لحماية ضريح “سليمان شاه” في سوريا على هامش تهديدات تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية “داعش” باستهدافه.
وحسب الرواية الحكومية فإن هيئة الاتصالات التركية طلبت من موقع يوتيوب حذف التسجيل، بناءً على طلب من وزارة الخارجية التركية يصنف التسجيل على أنه “تهديد من الدرجة الاولى” للأمن القومي التركي، ولما لم يستجب الموقع تم حظر الوصول إليه بعد أربع ساعات، هذه المرة بقرار إداري دون انتظار حكم محكمة كما حصل مع موقع تويتر.
خصوصية الاجتماع ومستوى الحاضرين وحساسية الموضوع المطروح وسرية التسريب جعلت الجميع – حكومة ومعارضة – يستنكرونه ويطالبون بمحاسبة من وضعه على الموقع باعتباره تهديداً للدولة التركية وأمنها القومي، وليس مجرد تحد لحزب العدالة والتنمية أو الحكومة الحالية. هذه المعطيات نفسها توحي بأننا أمام واحد من ثلاثة سيناريوهات فيما خص هذا التسجيل:
الأول، أن يكون التنظيم الموازي قوياً ومنتشراً فعلاً لدرجة تمكنه من التنصت على كل هذه الشخصيات والمؤسسات، وهذا يوحي بخطورة هذا التنظيم ومدى نفوذه.
الثاني، أن لا يكون التنظيم الموازي سوى واجهة لأجهزة استخبارات دولية تنفذ عملياتها من خلاله أو باستغلاله.
الثالث، أن يكون هناك تيارات أو جهات داخل النظام/الدولة تساعد التنظيم الموازي أو تستتر به، وهي من سربت له التسجيل.
ودون الدخول في مقارنة السيناريوهات الثلاثة والمفاضلة بينها، وبعيداً عن سيناريو رابع يروج له البعض بتسريب الحكومة نفسها هذا التسجيل لاستثماره بحظر اليوتيوب قبيل الانتخابات (إذ لا يبدو منطقياً)، ينبغي أن نشير إلى أن المشهد التركي في الصراع الدائر منذ أشهر انتقل إلى مستوى آخر، مستوى تهديد الدولة وليس مجرد الحزب الحاكم.
يجدر بنا أخيراً أن نذكر أن الصراع بدأ بهدف الوصول إلى حزب عدالة وتنمية بلا اردوغان، ثم ارتفع السقف إلى تركيا بلا حزب العدالة والتنمية، ونرجو أن لا يكون هذا التسريب من إرهاصات حلقة جديدة من النزاع عنوانها المنطقة بلا تركيا، كقوة وكدور.