الأزمة الداخلية في حزب العدالة والتنمية التركي: الأسباب والتداعيات
الجزيرة نت
مع استقالة القياديين البارزين السابقين في حزب العدالة والتنمية التركي علي باباجان ثم أحمد داودأوغلو، يدخل الأخير مرحلة جديدة يمكن اعتبارها الأزمة الأصعب التي يواجهها منذ استلامه السلطة في البلاد عام 2002.
لماذا الآن؟
فقد قدم وزير الدولة لشؤون الاقتصاد السابق علي باباجان، والذي ارتبط اسمه بنهضة تركيا الاقتصادية في عهد العدالة والتنمية، استقالته من الحزب بعد لقاء جمعه مع رئيسه اردوغان، معبراً في بيان لاحق عن شعوره بـ”افتراق عقلي وقلبي” عن حزبه السابق بسبب ما اعتبره “اختلافات بين ممارسات الحزب وبين المبادئ والقيم والأفكار” التي يؤمن بها، داعياً إلى “فتح صفحات بيضاء جديدة” في كل المواضيع من أجل مستقبل تركيا.
وأما داودأوغلو، الذي اعتبر “مهندس” السياسة الخارجية التركية لسنوات طويلة، فقد قدم استقالته مع بعض القيادات الوسيطة السابقة بعد أن حولتهم اللجنة المركزية للحزب للجنة التأديب به مع توصية بالفصل النهائي على خلفية انتقاداته العلنية، وهو ما اعتبرته اللجنة إضراراً بالحزب وتهجماً عليه. وفي خطاب استقالته، أكد داودأوغلو على نيته إطلاق حركة سياسية جديدة داعياً الجميع للتعاون معه في إطارها.
استقالة القياديَّيْن الرمزين في الاقتصاد والسياسة الخارجية، أكثر ملفين تعاني منهما تركيا مؤخراً، هو نتاج سيرورة استمرت لسنوات عدة بخصوص الحزب الحاكم في البلاد وعدد كبير جداً من قياداته السابقة.
في البدء، كان قانون “المدد الثلاث” الذي يحظر على أي مسؤول الاستمرار في منصبه لأكثر من ذلك في البلديات والبرلمان والحكومة، ليجد عدد من المؤسسين أنفسهم خارج دوائر صنع القرار. لكن الحزب كان يجيد في تلك الفترة عملية التوازن وتدوير المناصب بين الحكومة والحزب والبرلمان، بحيث أبقى على الجزء الأكبر من قياداته الكبيرة المؤسِّسة.
لكن الأزمات المتلاحقة في تركيا منذ 2013، والتي توّجت بالمحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، دفعت لتقريب أصحاب الثقة على الكفاءات أو القيادات التاريخية داخل الحزب، فضلاً عن إظهارها اختلافات في وجهات النظر والأفكار والقرارات لمواجهة تلك الأزمات. وقد كان الرئيس السابق عبد الله غل أول المبتعدين عن الحزب بسبب الاختلاف الكبير بينه وبين اردوغان في التعامل مع تلك الأزمات، وصولاً لاستعداده للترشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة باسم تحالف أحزاب المعارضة، لكن القائمة ضمت الكثيرين بعده.
اليوم، كما في بداياته، يحتوي العدالة والتنمية على تيارات مختلفة ومتنافسة مجمعة على قيادة اردوغان وزعامته، لكنها باتت اليوم أقرب لتيارات نفوذ منها لتيارات سياسية أو فكرية كما كانت.
في ظهور الاختلافات والخلافات للعلن، في حزب أكثر ما عرف عنه التماسك الداخلي ووحدة الصف، يمكن ذكر ثلاثة أسباب رئيسة:
الأول، تزايد الأزمات التي تواجهها تركيا داخلياً وخارجياً، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية، ما زاد من الهوة بين الحزب وعدد من قياداته السابقة. ولعل تطبيق النظام الرئاسي قد ساهم في ذلك بشكل كبير مباشر، أولاً بسبب الاعتراضات على بعض بنوده وآليات تطبيقه، وثانياً بسبب التراجع الطبيعي لأهمية الأحزاب ودورها في النظام الرئاسي.
الثاني، ازداد مع الوقت عدد البعيدين أو المبعدين من القيادات السابقة عن دوائر صنع القرار في الحزب والحكومة، وهي شخصيات كانت فاعلة وشاركت في مسيرة العدالة والتنمية ولا زالت في معظمها تملك طموحاً سياسياً للمستقبل.
الثالث، نتائج الانتخابات البلدية، التي تراجع فيها العدالة والتنمية نسبياً بعد نتائج مماثلة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، كانت فرصة لخروج النقد من خلف الأبواب المغلقة للعلن ووسائل الإعلام، لا سيما وأن هناك وقتاً طويلاً قبل الاستحقاق الانتخابي المقبل في 2023.
تأثير الأزمة
بات من شبه المؤكد اليوم أن حزبين سياسيين سيخرجان من رحم العدالة والتنمية، الأول بقيادة داودأوغلو ومعه عدد من القيادات الحزبية من الصف الثاني، والثاني بقيادة باباجان ومعه عدد من قيادات الصف الأول السابقة ومدعومة من بعيد من الرئيس السابق غل.
ورغم رغبة داودأوغلو البادية بين طيات كلامه بالتعاون بين الطرفين، إلا أن جبهة باباجان ليست متحمسة لضمه، بسبب “الاختلاف في الطريقة والأسلوب” على حد تعبير باباجان نفسه. هذا الأمر، الذي قد يتغير لاحقاً حسب التطورات، قد يضطر “الأستاذ” إلى التريث قبل الإعلان عن حزبه الجديد، بل ربما يعدل عن الفكرة تماماً ويركز على الجهد الأكاديمي وتقييم/نقد السياسة من خارج حلبتها.
لا يمكن الجزم بمدى تأثير الأحزاب الجديدة على العدالة والتنمية والمشهد السياسي في البلاد، إذ لم تعلن هذه الأحزاب بعد عن هياكلها القيادية وبرامجها التفصيلية، لكن الأكيد أنها تسعى للكسب من الحاضنة الشعبية للعدالة والتنمية أولاً ولكن كذلك من باقي الأحزاب.
لعل أحد أهم المؤشرات على مدى قوة الحزبين الجديدين سيكون عدد أعضاء البرلمان الحاليين من العدالة والتنمية الذين قد ينضمون لهما، ومدى قدرة أي منهما على تشكيل كتلة برلمانية داخل المجلس، وهو أمر لن يتضح قبل الإعلان عن الحزبين بشكل رسمي.
ثمة سياقان عامّان يمكن من خلالهما قراءة تأثير الحزبَيْن المفترضين على العدالة والتنمية وتركيا:
الأول، تأثير محدود لهما، في ظل نظام رئاسي تؤثر به أسماء المرشحين الرئاسيين أكثر من خريطة الأحزاب واستمرار اردوغان كأقوى المرشحين، وكذلك بالنظر إلى أن الانتخابات المقبلة ستجرى في 2023، ما يعني أن المشهد السياسي الحالي مرشح للاستمرار بنفس التوازنات مرحلياً إلى حد بعيد.
الثاني، أن قدرة الحزبَيْن الموعودين على جذب عدد من أعضاء البرلمان الحاليين ونسبة من أنصار العدالة والتنمية قد يغريهما ومعهما أحزاب المعارضة للسعي نحو تبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. هذا الخيار، الذي قد يضطر له العدالة والتنمية كذلك، قد يفتح الباب على تغيير الخريطة السياسية والحزبية في البلاد بالكامل وعلى سيناريوهات عديدة لا يمكن التنبؤ منذ الآن بأيها أوفر حظاً.
بيد أنه من المهم الإشارة إلى أنه ليس من المقطوع به انضمام الحزبين المفترضين لتحالف المعارضة، بل ثمة احتمال مقبول لتعاونهما مع العدالة والتنمية. ولعل مما يعضد هذا الاحتمال حاجة الأخير للتحالفات في ظل النظام الرئاسي، وعدم اختلاف باباجان وداوداوغلو ومن معهما مع اردوغان في كثير من الملقفات والقضايا، وانتهاج باباجان تحديداً خطاباً هادئاً وبعيداً عن النقد الصارخ.
يمكن القول إن العدالة والتنمية ينظر لباباجان على أنه أكثر خطورة من داودأوغلو، لأسباب في مقدمتها صغر عمر الأول وخبرته في مجال الاقتصاد وسيرته اللامعة في هذا المجال الذي تعاني منه تركيا مؤخراً، وكذلك اجتماع عدد كبير من قيادات الصف الأول معه، ودعم غل لهم، وقدرتهم على جذب جمهور أكبر من داودأوغلو. بينما ينظر الحزب الحاكم للأخير على أنه منظّر وأكاديمي ليس له فرص كبيرة في المنافسة، وهي نظرة ستثبتها أو تنفيها التجربة على أي حال.
في الخلاصة، يبدو العدالة والتنمية اليوم على مفترق طرق، ولعله يواجه الأزمة الأكبر منذ تأسيسه باعتبارها تستهدف وحدته الداخلية وتماسكه، وفي ظل أزمات تضاعف من خطورة الانشقاقات. وبهذا المعنى، لا تبدو فقط الانتخابات الاعتيادية في 2023 غير مضمونة للحزب ولا مريحة لاردوغان كسابقاتها، بل ثمة احتمالات بأن لا يصمد المشهد السياسي حتى 2023 وتستدعى الانتخابات المبكرة مرة أخرى.
وفق هذه الرؤية، يعاني حزب العدالة والتنمية من تراجع نسبي وهو على أبواب التشظي، ويدّعي الخارجون من تحت عباءته أنهم يملكون حلولاً لأهم أزمات تركيا، الاقتصاد والسياسة الخارجية، وأنهم قادرون على الإنجاز كما استطاعوا سابقاً. أكثر من ذلك، تدرك قيادة العدالة والتنمية بالتأكيد أن جزءاً غير بسيط من الانتقادات الموجهة للحزب والحكومة اليوم في “مانيفستو” داودأوغلو وكلام باباجان وغيرهما له رصيد من الصحة ووجاهة في الطرح وصدى في الشارع، ما يضعها أمام استحقاق التفاعل والتصويب.
ثمة توقعات بتعديل وزاري قريب، فضلاً عن المتغيرات التقليدية المتوقعة في مؤتمر الحزب القادم، لكنه بات مطالَباً بأكثر من ذلك إن كان يريد الحفاظ على تجربته ورصيده. ولعل ذلك من ضمن أسباب مراجعته للنظام الرئاسي وثغراته التي تحتاج للاستدراك، وفي مقدمتها إمكانية الفصل بين رئاستي الدولة والحزب كما تتحدث بعض الكواليس.
وعليه، أخيراً، ما زال العدالة والتنمية الحزب الأكثر حضوراً في تركيا على الأمد القريب في ظل قيادة اردوغان وقوته، إلا أن المستقبل البعيد يكتنفه الغموض، حيث سيتراجع بنسبة أو أخرى بفعل الأحزاب الجديدة المحتملة، بتأثير خطواته التصويبية وكذلك مدى قدرة منافسيه على الخصم من رصيده الشعبي، وللمفارقة فقد تكون الأولى أعظم أثراً من الثانية.