سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

اردوغان والعدالة والتنمية .. كاريزما القيادة أم تسلط الفرد؟

0

على مدى أكثر من 12 عاماً من مسيرة تركيا الجريئة نحو التقدم و النهضة على مختلف المستويات، كان من الصعب جداً الفصل بين تركيا الدولة، والعدالة والتنمية الحزب، واردوغان القائد. واليوم، وبعد كل هذه السنوات، يبدو السؤال الأبرز والحوار الأعمق الدائر في تركيا وحولها هو مستقبل اردوغان السياسي، رئيساً للجمهورية أو رئيساً للوزراء.

ذلك أن تلميحات الرجل إلى رغبته بالاستمرار في العمل السياسي من خلال رئاسة الجمهورية، أو البقاء على رأس الحزب الحاكم (إن قرر الحزب تعديل قانونه الأساسي) فتحت نقاشاً عميقاً حول مآلات ذلك، وانقسم المحللون والمتابعون ما بين مؤيد للخطوة باعتبارها استكمالاً لمشروع اردوغان وحزبه، ومعارض لها باعتبارها تكريساً لحكم الفرد.

 

رجل الدولة وقائد المشروع

ذلك أن الكثيرين يرون بقاء اردوغان في واجهة المشهد السياسي التركي ضماناً لاستمرار ونجاح مشروع تركيا الجديدة بقيادة العدالة والتنمية، وقد تبدو مقاربتهم منطقية جداً لعدة اعتبارات، نسوق هنا أهمها:

أولاً، الحق الفردي الشخصي لاردوغان، كأي مواطن آخر، بتحقيق طموحه السياسي طالما لم يتجاوز القانون أو يتسول طرقاً غير شرعية لذلك.

ثانياً، أن رجل الدولة لا يصنع وينضج بسهولة، وقد أثبت اردوغان على مدى 12 عاماً من الحكم أنه رجل دولة قوي، وأصبح يتمتع بخبرة كبيرة على المستويات الداخلية والخارجية، لا يمكن بسهولة تخطيها أو التخلي عنها.

ثالثاً، أنه ما زال قادراً على العطاء، وما زال يتمتع بحيوية العمل وشعبية الشارع والقدرة على الإنجاز، وفق رؤيته لعام 2023 مئوية تأسيس الجمهورية.

رابعاً، أن القائد التاريخي المؤسس لأي تيار أو حزب يختلف عن أي سياسي أو قائد آخر فيه، حيث يمتلك الرؤية والوضوح والشرعية والكاريزما أكثر من غيره. ولذلك نرى في معظم التيارات والأحزاب في مختلف دول العالم (الشرقية بالأخص) أن الزعامات التاريخية تحكم أطول بكثير من أي رئيس عادي. وهنا تمثل للعيان تجارب عشرات الأحزاب التي ضعفت أو انقسمت إلى عدة أحزاب بعد غياب أو تغييب القيادة المؤسسة. تماماً مثل ما تثبت بعض الدراسات أن %68 من الشركات “العائلية” تنقسم في الجيل الثاني بعد وفاة الأب/المؤسس.

خامساً، محورية شخصية اردوغان، بما تجمع من كاريزما وتاريخ ومصداقية وإنجازات، في نجاح العدالة والتنمية وما يحوزه من أصوات الناخبين. وكانت استطلاع رأي أجري قبل الأزمة الاخيرة قد اشار إلى احتمال فقدان الحزب ما يقرب من %10 من نسبة التصويت في الانتخابات إذا ما غاب اردوغان عن قيادته.

سادساً، يرى الكثيرون أن العدالة والتنمية لم يصل بعد لنهاية مشواره وتحقيق رؤيته وما زال أمامه الكثير لينجزه لتركيا. وإذا كان اردوغان هو صاحب الرؤية والفضل الأكبر في هذه الإنجازات، فيمكن تفهم حقه في استكمال رؤيته ورغبته في إتمام مشروعه.

سابعاً، الأزمة الأخيرة التي مرت وتمر بها تركيا تشي بالحاجة إلى “قائد” وليس مجرد رئيس، وقد اعترف الكثيرون وعلى رأسهم المعارضة التركية أن اردوغان قاد الفترة الماضية تقريباً لوحده وأعطى لحزبه تقدماً بارزاً في الانتخابات المحلية السابقة.

ثامناً، ارتباطاً بالعامل السابق، يدافع الكثير من المراقبين عن فكرة عدم وجود البديل القادر على ملء فراغ اردوغان في رئاسة الحكومة والحزب في آن معاً. ولذلك، يعتقد على نطاق واسع أن الحزب سيلجأ – في حال ترشح اردوغان للرئاسة – مرحلياً وحتى الانتخابات البرلمانية العام القادم إلى سيناريو القيادة الثنائية في قيادة الحكومة والحزب (بمعنى وجود رئيس للحكومة مختلف عن رئيس الحزب).

تاسعاً، ليس في ترشح اردوغان لرئاسة حزبه وقيادة الحكومة أي مانع قانوني تركي، سوى النظام الداخلي لحزب العدالة والتنمية، الذي حدد مدة الكثير من المناصب (ومنها رئاسة البلدية والنيابة والوزارة) بثلاث مدد متتالية. ويرى المدافعون عن استمرار اردوغان أن هذا النص ليس مقدساً حتى يتحكم بمستقبل الحزب والحكومة، ويمكن تغييره إذا ما انتهى رأي الحزب على ذلك.

 

التمحور حول الفرد

بيد أن الرافضين لخطوة اردوغان المحتملة  لديهم ما يكفي من المخاوف والمسوغات المنطقية لرفضها، باعتبارها خطراً على الديمقراطية وترسيخاً لحكم الفرد وسيطرته. وهنا يمكن ذكر ما يلي من هذه المخاوف والمقاربات:

أولاً، إن أول ما نجحت به تركيا وصنع لها تجربتها الفريدة هو التحول الديمقراطي، الذي تمثل بتحديد سلطة الجيش على الحياة المدنية، والانفتاح على الداخل والخارج، والإصلاحات الدستورية والقانونية المتعددة. هنا، يخشى على نطاق واسع، أن يؤدي تمسك اردوغان بكرسي الحكم – في الرئاسة أو الحكومة – إلى تكريس قيادة الفرد، وتعزيز سيطرته على مرافق الدولة ومفاتيحها. ويبدو ذلك خطراً، لأنه قد يؤدي بالانتقال من الولاء للفكرة (الدولة/المشروع/الحزب) إلى الولاء للفرد (الزعيم/ الرئيس/القائد).

ثانياً، يخشى الكثيرون من كاريزما اردوغان الطاغية، خصوصاً إذا ما أضيف إليها – مع خبرة السنين الطوال – الصلاحيات التي يريد استثمارها حال وصوله لقصر “تشانقايا”، حيث أشار اردوغان وبوضوح إلى أنه سيستعمل “كل صلاحياته” في الرئاسة. هذه الجملة العامة جداً قد تشمل صلاحيات يعطيها الدستور فعلاً للرئيس (ولم يستثمرها أي من الرؤساء السابقين)، كما قد تشمل صلاحيات إضافية تعطى للرئيس إثر تعديلات قانونية أو دستورية قادمة. بمعنى، أن اردوغان الذي حكم 12 عاماً كرئيس وزراء ناشط وفاعل بوجود رئيس شبه بروتوكولي وفق الدستور التركي الحالي، يريد أن يكون رئيساً ناشطاً وفاعلاً “يجري ويتعب ويعرق” بوجود رئيس وزراء منزوع لبعض الصلاحيات.

ثالثاً، لا يمكن إنكار خطر بقاء نفس الوجوه من القيادات في السلطة على فرص ظهور وصناعة القيادات الشابة ذات الأفكار الجديدة، فعملية ضخ الدماء الجديدة في مختلف المؤسسات القيادية في الحزب والحكومة هي الكفيلة باستمرار النجاح والتقدم للفكرة والمشروع. ذلك أن الإيحاء بأن غياب شخص عن القيادة سيذهب بالمشروع يوحي بضعف الثقة بالفكرة نفسها، خصوصاً أن الحزب غني بالعقول والقيادات القوية والمبدعة في كثير من المجالات.

رابعاً، يرى الكثيرون أن 12 عاماً من الحكم كافية جداً لأي زعيم كي يقدم رؤيته ويخدم مشروعه ويقدم كل ما لديه من أفكار، وأنه لا يتبقى له الكثير في جعبته بعدها، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن الإبداع لدى القيادات يقل كثيراً بعد عشر سنوات في نفس المنصب.

خامساً، في حين يرى الكثيرون في رئيس الوزراء الحالي ضمانة لاستمرار المشروع، يرى كثيرون أيضاً في استمراره إذكاءً لحالة الاستقطاب المتأججة في تركيا منذ أشهر، من خلال شخصيته القيادية وسقف خطابه المرتفع. ويعتقد هؤلاء أن الفترة المقبلة تحتاج للخروج من حالة الصدام هذه نحو العمل على ردم الشق الاجتماعي الذي نجم عنها.

سادساً، رغم أنه قانون حزبي داخلي وليس مادة في الدستور التركي، إلا أن تغيير النظام الأساسي للعدالة والتنمية فيما خص التمديد لاردوغان فترة جديدة تحمل خطر تغيير القوانين بيد من وضعها، وفي أول محك، وهذه سابقة لها إيحاءاتها السلبية.

 

الشعب صاحب الكلمة

إذاً، كما أن اردوغان يعلن منذ سنوات أنه مع تحويل النظام في تركيا من برلماني إلى رئاسي (عبر تعديلات دستورية)، فهو لم يخف أيضاً طموحه بالترشح للرئاسة، خاصة مع المكانة المعنوية الكبيرة التي سيحظى بها من سيتقدم السباق في العاشر من آب/أغسطس القادم، باعتباره أول رئيس في تاريخ الجمهورية التركية ينتخبه الشعب مباشرة.

لكن ما يحسب لاردوغان أنه لم يتخذ القرار بعد، ولا يريده أن يكون قراره الشخصي بل قرار المؤسسة/الحزب، ولذلك يقوم العدالة والتنمية بتنظيم العديد من استطلاعات الرأي داخل أطره التنظيمية وبين مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، كما تم ترتيب اجتماع لنواب العدالة والتنمية وستتبعه اجتماعات أخرى لهيئاته القيادية، وأخيراً، يتوقع أن يصدر القرار النهائي بعد لقاء رئيس الوزراء مع الرئيس عبدالله غول.

كما يحسب للتجربة التركية، أنه لم ولن يفرض على الشعب شخص أو مؤسسة أو مشروع، بل يترشح من شاء أن يترشح، ويقدم مشروعه ووعوده الانتخابية، وتبقى الكلمة الأولى والأخيرة للمواطن التركي الذي سيختار من يرأسه ويقود تركيا في الفترة الرئاسية المقبلة.

 

شارك الموضوع :

اترك رداً