سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

حماس وسياسات الاحتواء والتطويع .. فتح نموذجاً

0

لا يمكن وضع الموقف الإقليمي والدولي خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، ثم المواقف التي تلته حتى الآن وعلى رأسها المماطلة المتعمدة في ملف إعادة إعمار القطاع إلا في خانة تأليب الحاضنة الشعبية ضد المقاومة الفلسطينية، تحديداً حركة حماس، وإضعاف شعبيتها.

يراد أن يقتنع الشعب الفلسطيني أن حماس فشلت في تحقيق الأهداف التي وضعتها للحرب الأخيرة وضحت بمئات الشهداء في مغامرة غير مضمونة العواقب، لتحقيق أهداف حزبية أو ذاتية، أو في سبيل الصراع على الكرسي. هكذا، ستكون الحركة في مرمى الادعاء بأنها – مثل شقيقتها حركة فتح – قد تغيرت وتبدلت وتنكبت طريق المقاومة، الاتهام الذي لا يكاد يخبو تحت وطأة أداء المقاومة في مواجهة ما، حتى يعود ليطفو على السطح مع كل تطور أو تصريح غير موفق.

 

نموذج حركة فتح

ولئن كان التغيير في المجال الاجتماعي سنة كونية وضرورة على المستويين الفردي والجماعي، فإنه يكاد يصل في عالم السياسة إلى درجة الحتمية.

يقابلنا في الحالة الفلسطينية مثال حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، كنموذج لتغير يكاد يصل من النقيض إلى النقيض في الطرح والرؤية خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً. فالحركة التي تأسست عام 1965 بهدف تحرير كامل التراب الفلسطيني من خلال الكفاح المسلح، وقادت الحركة الوطنية الفلسطينية بلا منافس لعشرات السنين، وصلت اليوم إلى قيادة مشروع التسوية مع “العدو الإسرائيلي” مؤمنة بالسلام معه ومكافحة لحركات المقاومة التي تناهضه من خلال السلطة، بينما لا يتورع رئيسها عن القول علناً إنه ضد حمل السلاح مفتخراً أنه لم يفعل ذلك بنفسه قط. فما هي الأسباب التي يمكن رصدها لهذا التحول الدراماتيكي؟

لا شك أن تغيراً بهذا الحجم لن يكون نتيجة سبب واحد، كما هي حال كل التغيرات الاجتماعية والسياسية، بل سيكون هناك عدة أسباب تفاعلت مع بعضها البعض، وربما تزامنت مع بعض التطورات والأحداث التي زادت من فعاليتها لإحداث التغيير المطلوب.

ولئن كانت هناك عدة عوامل وأسباب داخلية ساهمت في هذا التغيير، مثل فلسفة حركة فتح ونظامها الداخلي وتشكيلها غير المتجانس بغياب الأيديولوجيا الجامعة، وقيادتها الفردية واحتكار المال والقرار فيها، إلا أننا سنفرد هذه المساحة للعوامل الخارجية التي تقصدت إحداث التغيير أو المساهمة به. هنا يمكننا رصد الآليات والاستيراتيجيات التالية:

أولاً، الاغتيالات الانتقائية. كل فلسطيني بالنسبة لدولة الاحتلال هدف محتمل ضمن قانونها الثابت :”الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت”، ولم تكن في الحقيقة لتوفر قائداً فلسطينياً وقع تحت مرمى نيرانها، لكنها خصصت – إلى جانب هذا الاستهداف العام – استراتيجية في الاغتيالات ضد حركة فتح تحديداً من شقين: اغتيال القيادات الفاعلة والتاريخية واغتيال من يعارض عملية التسوية. ذلك أن تغييب الفئة الأولى يساعد على تعدد الآراء وفقدان المرجعية بما يساهم في زيادة الصدع الداخلي، بينما لا تخفى الفائدة المرجوة من الشق الثاني على متابع. طبعاً، من البديهي أن هذا الكلام لا يعني اتهام من لم تصله يد الاغتيال الإسرائيلية، لكنها استراتيجية لم تنكرها دولة الاحتلال يوماً وتكلم عنها أكثر من قيادي فلسطيني.

ثانياً، تضخيم قوة الخصم. في صراعها مع دولة الاحتلال كمشروع غربي استعماري لم تتعد قوة الفصائل الفلسطينية يوماً حدود محاولة الدفاع عن الشعب الفلسطيني وإبطاء المشروع الصهيوني. لكن مصلحة دولة الاحتلال كانت تقتضي أحياناً تضخيم قوة الطرف الفلسطيني، ليس فقط من باب تصدير خطاب المظلومية ولكن أيضاً لإضفاء شعور زائف من الثقة المبالغ بها في النفس في حركة فتح تدفعها لاتخاذ قرارات لا تخلو من المجازفة. لقد قالت القيادة الفلسطينية عن عملية التسوية إنها “خطوة سياسية نستطيع العودة عنها متى ما اقتنعنا بفشلها”، الأمر الذي ما زالت عاجزة عنه حتى اليوم.

ثالثاً، كسب الرأي العام العالمي. كانت الخطوات الأولى التي ألقت حركة فتح ومن خلفها منظمة التحرير في غيابة التنازلات هو السعي لكسب الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي. قناعة أدى ترسيخها في عقول القيادات الفلسطينية إلى تغيير لغة الخطاب وسقفه واللعب على المصطلحات وتزيينها بحيث تؤدي المعنى المطلوب بحدة أقل، لكن المشكلة أن التنازلات استمرت، والخطاب ترسخ، وتحولت الضرورة إلى قناعة.

رابعاً، تجنب العصا الدولية. بعد سنوات طويلة من تهميشها وتجفيف مصادرها المالية والتضييق عليها سياسياً، ارتأت الحركة وعلى إثرها المنظمة أن تغير الكثير من نفسها لتتجنب العقوبات وتكسب الاعتراف الدولي. ولئن كان من الحنكة السياسية تحييد الخصوم وكسب من يمكن كسبه من دول العالم، إلا أن ثمن حديث الرئيس الراحل عرفات أمام الأمم المتحدة واستقباله في البيت الأبيض والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني كان باهظاً جداً.

خامساً، نصائح الأصدقاء. قد يفلح الأصدقاء أحياناً بالضغط حين يفشل الأعداء أو الخصوم، وهي معادلة شائكة لكنها ممكنة ومتكررة. ذلك أن الحلفاء قادرون على الضغط بالوسائل الناعمة، وبتقديم الأمر في ثوب النصيحة، والتهديد بالمنع بين طيات الدعم، وهذا ما حصل مراراً مع الحركة والمنظمة من قبل عدة دول.

سادساً، طرح مبادرات وبالونات اختبار. المماطلة ورمي الكرة في ملعب الخصم كانت سياسات ثابتة لدى دولة الاحتلال، التي طالما أطلقت بعض المبادرات والكثير من الإشاعات بهدف زيادة الجدل الداخلي لدى الخصم، وتهيئة صفه الداخلي لمزيد من التنازلات، دون أن تقوم هي بدورها بتقديم أي مقترح رسمي أو تنازل فعلي، بل دون أن تناقشه هي فعلياً.

 

حركة حماس .. أوجه الشبه والاختلاف

لا يمكن الجزم بأن أياً من الاستراتيجيات آنفة الذكر أدت لوحدها إلى نتائج مباشرة ضمن عملية التغيير الجذرية وطويلة الأمد التي حدثت لحركة فتح، لكن أيضاً لا يمكن الاستهانة بأثر أي منها. ذلك أن التغيرات الاجتماعية والسياسية طويلة الأمد تشبه كثيراً حالة التغير في الخريطة الوراثية للإنسان. “الطفرات” النادرة محدودة الأثر يمكن التغلب عليها عبر آليات الإصلاح الذاتية، بينما لا يمكن دائماً احتواء التغيرات الكبيرة و/أو المتكررة، خصوصاً إذا ما توفرت لها عوامل خارجية أخرى (كالإشعاع وسوء التغذية وبعض الأدوية). وهذا ما يشير إليه علماء الاجتماع حين يقرون أن النظم في المجتمع مترابطة ومتداخلة ومتكاملة بنائياً ووظيفياً، بحيث يؤدي أي تغير في ظاهرة ما إلى سلسلة من التغيرات الفرعية التي تصيب معظم جوانب الحياة.

ولئن كانت البنية الداخلية لحركة حماس – التي يراها الكثيرون خليفة لفتح في قيادة المشروع التحرري الفلسطيني وصاحبة أقوى ذراع عسكري بين كل الفصائل – أكثر منعة من شقيقتها فتح، لناحية وجود الأيديولوجيا والمرجعية الدينية وعمليات التثقيف و”التربية” التي يخضع لها أبناؤها، وقرارها الشوري، إلا أنها تبقى في النهاية مشروعاً بشرياً لا يمكن نفي عناصر الضعف والخطأ فيه، وبالتالي ينطبق عليها ما انطبق على سابقتها من خطر التغير والتعرض للاستراتيجيات أعلاه بدرجة أو بأخرى.

فقد تعرضت الحركة لعمليات اغتيال لمعظم الصف الأول من قيادتها السياسية والعسكرية، بعضها لا يمكن تفسيرها إلا ضمن تغييب المرجعيات المجمع عليها (اغتيال الشيخ القعيد أحمد ياسين مثالاً). كما أننا نسمع بين الفينة والأخرى تصريحات ونطلع في الإعلام على تقارير إسرائيلية تضخم جداً من قوة وقدرات حركة حماس وتمتدح مواقفها وانضباطها، الأمر الذي أزعم أنه ساهم في تداول ونقاش عناوين إشكالية كبيرة، مثل ما حصل مع تصريح نائب رئيس المكتب السياسي للحركة د. أبو مرزوق بإمكان التفاوض مع إسرائيل، أو تصريح القيادي فيها د. محمود الزهار بخصوص شروطها لوقف إطلاق النار بأنهم سيبنون المطار والميناء “ومن يقصفهما سنقصفه”.

من ناحية أخرى، تبدو حماس حريصة على تزايد الدعم الدولي وتجنيب نفسها عقوبات أو تضييقات إضافية، الأمر الذي دفعها إلى التمييز بين الجهازين العسكري والسياسي، وتبني خطاب لا يتبنى مشروع دولة على الأراضي المحتلة عام 1967 لكنه أيضاً لا يعارضه، وهو خطاب يسعى إلى كسب التعاطف بمفردات مثل “الدفاع عن الشعب” و”عدم البدء بالاعتداء” و”عدم استهداف المدنيين”. خطاب كهذا يمكن أن يكون خطيراً إن انتقل من حيز التكتيكات الإعلامية إلى حيز الواقع الفعلي وتحديد الصحيح والخطأ، بحيث يصبح أي استهداف “للمدنيين الإسرائيليين” خطأ ينبغي تجنبه أو ربما الاعتذار عنه، ويصبح المطلوب من المقاومة الفلسطينية الدفاع في حالات الاعتداء فقط وليس المبادرة لتحرير الأرض ومناجزة المشروع الصهيوني.

وأخيراً، لا يمكن افتراض البراءة التامة في بعض الانفتاح الغربي – الرسمي وغير الرسمي – على حماس، بل بالسماح لها ابتداءً بالمشاركة في الانتخابات عام 2006. كما أن حلفاء الحركة من الدول الشقيقة والصديقة لا يتبنون بالضرورة برنامجها بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وبالتالي يمكن توقع حدوث خلاف آجل أو ربما عاجل، يؤدي إلى استعمال القوة الناعمة على النحو الذي ذكرناه سابقاً، وما موقف إيران منها على هامش الثورة السورية إلا مثال واضح على تأثرها بتقليص الدعم، حيث يعتبر الكثير من المراقبين أن الضائقة الاقتصادية التي تمر بها الحركة أحد أسباب تعجيلها بالمصالحة.

في الخلاصة، فإن أدبيات التأسيس والواقع الحالي لحركة حماس بعيدان جداً عن سلوك طريق حركة فتح الذي تبنته حتى الآن، لكنها من ناحية أخرى غير معصومة ولا تملك مناعة تامة ضد هذا النوع من التغيير، باعتبارها حركة بشرية تتعاطى السياسة بكل ما فيها من سياسات العصا والجزرة المحلية والإقليمية والدولية التي تضع على سلم اولوياتها اليوم إنهاء حالة المقاومة.

وعليه، فعلى الحركة زيادة منسوب الحذر من المطبات والاستدراجات، وضبط مفردات خطابها الإعلامي ليوازن بين تغيرات موازين القوى وثبات الحقوق، والتعامل مع الأخطاء أو الانحرافات الفكرية أو الشطط في الآراء في البدايات قبل أن تستفحل ويصعب علاجها متخذة شعار “ما أسكر كثيره”، ولا يجب عليها ولا على أنصارها افتراض المثالية واستبعاد الخلل، بل تذكر ما قاله الأجداد “من مأمنه يؤتى الحَذِر”.

شارك الموضوع :

اترك رداً