سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

هل انزلقت تركيا للمستنقع السوري؟

0

منذ بدء عملية عاصفة الحزم في اليمن وانتشار بعض التحليلات (كانت أقرب للأمنيات) حول قرب عملية تركية مشابهة في سوريا ذكرتُ في عدة مقالات وأكثر من ورقة بحثية لي أن هذا الأمر مستبعد ودونه عدة عقبات، نظرية وعملية، داخلية وخارجية، آنية واستراتيجية. فما الذي تغير في الأيام القليلة الماضية؟ وهل تنوي تركيا فعلاً التدخل العسكري المباشر في سوريا؟

لا تخفي تركيا منذ السنة الأولى للثورة السورية (بعد فترة مباحثات مع الأسد) رغبتها في إسقاط النظام، بل يمكن اعتبار هذه الرؤية في مقدمة نقاط الخلاف بين الرؤيتين الأمريكية والتركية، إذ قررت الأولى مكافحة تنظيم الدولة/داعش حصراً، بينما ترغب الثانية في إضافة النظام في دمشق، باعتباره سبب ظهور التنظيم وتقوية شوكته.

خلال الأسبوعين الأخيرين شهدت تركيا عدة عمليات اغتيال أو تفجيرات، اتهم تنظيم الدولة ببعضها بينما تبنى حزب العمال الكردستاني المسؤولية عن معظم الباقي، وخصوصاً قتل/اغتيال الضباط والجنود، مما يشير إلى تغيرات جذرية في مسيرة عملية السلام ومدى التزام الحزب بها، ويبدو المشهد متناسقاً مع عملية التسخين التي ارتفعت وتيرتها بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تركيا وتراجع نسبة العدالة والتنمية فيها.

هنا، وجدت تركيا نفسها مضطرة للرد على الهجمات، لكنها ليست في وضع تحسد عليه، فهي تحارب أو تواجه – نظرياً أو عملياً، مباشرة أو عبر وكلاء – أكثر من خصم على أكثر من جبهة: تنظيم الدولة/داعش، حزب العمال الكردستاني، قوات حماية الشعب الكردية، إيران، ونظام الأسد، بينما لا تبدو علاقتها مع حليفها الاستراتيجي – واشنطن – على خير ما يرام.

قصفت تركيا بعض المواقع لتنظيم الدولة، لكن عينها منذ البداية كانت على الأكراد الذين تتوجس منهم خيفة متعلقة بفكرة إقامة كيان سياسي (دولة أو إقليم ذاتي) على حدودها الجنوبية، تعتبره أنقرة خطاً أحمر وفق مقتضيات أمنها القومي، ولذلك ربما كانت الحصة الأكبر من قصف الطائرات التركية من نصيب العمال الكردستاني، الذي يتحدث منذ أيام عن “نهاية عملية السلام مع الحكومة التركية”.

رفضت تركيا منذ سنوات التدخل العسكري النشط في سوريا، بل ووضعت شروطاً لم تقبلها واشنطن – حتى اليوم – للمشاركة الميدانية الفاعلة في مواجهة تنظيم الدولة، فيما بدا وكأنه رفض مقنـّع للمشاركة. كانت تركيا وما زالت رافضة لأي نزاعات تحمل الصبغة الطائفية أو قد تتحول لها، وكانت وما زالت متبنية لرؤية مختلفة عن الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص إنهاء الأزمة السورية، إضافة للحسابات المتعلقة بحلفاء الأسد (روسيا وإيران)، والشأن الداخلي التركي في ظل حالة عدم الاستقرار الحالية بعد الانتخابات، فضلاً عن عدة أسباب إضافية أخرى.

إذاً، يبدو للوهلة الأولى أن محددات الموقف التركي لم تتغير كثيراً، فما الذي حصل وأدى إلى كل هذه الحشود التركية ثم القصف النشط والتدخل الحدودي الذي حصل؟

حسناً، من الواضح أن الدافع الأول والأهم لأنقرة في كل ما فعلته حتى الآن هو التحرك الكردي المتسارع على حدودها، والذي اكتسب زخماً غير عادي بعيد الانتخابات، فيما بدا وقتها وكأنه ضوء أمريكي أخضر لتعاون ما مع الأكراد قد يفضي إلى إقليم كردي في الشمال السوري على غرار النموذج العراقي. والحال كذلك، اقتضت التطورات على أنقرة أن تتدخل بشكل سريع وضاغط لوقف هذه التطورات، خاصة وأن التوازن السابق بين قوات الحماية الكردية وتنظيم الدولة – كتنظيمين إرهابيين يتصارعان على مقربة من حدودها- قد بدأ يتجه نحو الانهيار لمصلحة الأكراد.

هنا، بدت تركيا مقتنعة بمقولة “إذا أردت أن تحل مشكلة فافتعل مشكلة”. أرادت تركيا أن تضغط باتجاه تحقيق شروطها بخصوص المشاركة الفاعلة ضد داعش (خصوصاً المنطقة العازلة/الآمنة)، فاستثمرت الهجمات الإرهابية الموجهة ضدها لتعمل ضد تنظيم الدولة وقوات الحماية في آن معاً، وتحت عنوان “مكافحة الإرهاب”.

في خضم التطورات الأخيرة حصلت أنقرة على دعم “لفظي” لا يمكن تجاهله من الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي وقوات التحالف الدولي وواشنطن، بل ومن بعض الدول المناوئة للموقف التركي مثل الصين، لكن هذا قد لا يعني شيئاً على المدى البعيد إن لم يترجم إلى أفعال، ولهذا تحديداً دعت تركيا حلف الناتو للاجتماع يوم أمس.

تريد تركيا إذاً أن تفرض منطقة عازلة/آمنة (حسب تطور الأحداث) لتحقق من خلالها عدة أهداف، أهمها:

– تخفيف عبء اللاجئين السوريين، من خلال نقل معظمهم إلى هذه المنطقة.

– وأد فكرة إقامة كيان سياسي كردي على تواصل مع المناطق الكردية في كل من تركيا والعراق، وخصوصاً الممر نحو المياه ذي الأهمية الاستراتيجية بخصوص نقل النفط.

– حماية حدودها من أي هجمات انتقامية من أي من خصومها المذكورين.

– تأمين نفسها ضد موجات قادمة وضخمة من اللاجئين، في ظل أي تطور مستقبلي.

– استثمار هذه المنطقة كنقطة بداية لقوات المعارضة السورية وحمايتها جوياً في مواجهة نظام الأسد، تمهيداً لتقدمها نحو دمشق تدريجياً وعلى المدى الطويل إن أمكن.

ولتحقيق هذه الأهداف، تسعى تركيا لإقناع واشنطن بأهمية هذه المنطقة وتأسيسها ميدانياً وفعلياً على الأرض، لكنها من ناحية أخرى تحاول فرضها من بعيد، من خلال القصف الجوي والمدفعي من داخل الأراضي التركية.

إذاً، ما زالت تركيا على موقفها برفض التدخل العسكري البري المباشر في سوريا، بل وتعتبر أي تحرك بهذا الإطار “توريطاً” لها تحاول الدفع باتجاهه بعضُ الأطراف، إلا إن اضطرت لذلك وفق تطورات استثنائية. لكنها تريد استثمار اللحظة للضغط على واشنطن باتجاه قبول فكرة المنطقة الآمنة/العازلة التي تحمل أهمية استراتيجية وفق الرؤية التركية.

أخيراً، هل ستنجح تركيا في ذلك؟ أعتقد أن اتفاقين تمـّا مؤخراً يتضمنان الإجابة على هذا السؤال على المدى الطويل: الاتفاق النووي بين إيران والغرب (واشنطن) وبنوده غير المعلنة والمتعلقة بترسيم – تأطير حدود النفوذ الإيراني، والاتفاق التركي الأمريكي الأخير الذي كثر الحديث عنه قبل أيام. حيث إن سماح الأتراك لواشنطن باستخدام قاعدة “إنجريليك” العسكرية القريبة من الحدود السورية بعد أشهر طويلة من الرفض يحمل دلالات كبيرة هنا، حتى ولو قيل إنه سماح محدد ومحدود، لكن الأيام القليلة القادمة سترينا إن كان هذا السماح عربونَ الاتفاق المزعوم بإقامة المنطقة العازلة، أم مجرد تراجع تركي أمام واشنطن بفعل التطورات المتلاحقة داخلياً وخارجياً والتي أضعفت موقف العدالة والتنمية ولو نسبياً ومرحلياً.

شخصياً، لا أعتقد أن الاتفاق النهائي حول المنطقة العازلة قد تم، بل أرى أن خطوة إنجريليك مجرد “نقلة” تركية على رقعة شطرنج المفاوضات مع الولايات المتحدة، وأعتقد أن واشنطن لن تقبل بكافة المطالب التركية، ولن تسرّع عملية تطبيقها على الأرض حتى ولو تم اتفاق بمستوى ما بين الطرفين، ولذلك فليس من المنطقي توقع تغيرات جذرية قريباً، لا بخصوص الموقف التركي ولا فيما يتعلق بتطورات المشهد في سوريا.

شارك الموضوع :

اترك رداً