سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

عودة غل .. الكل له حساباته

0

فجأة ودون سابق إنذار وبلا إرهاصات واضحة، تصدرت أخبار الرئيس التركي السابق عبدالله غل عناوين الصحافة بأنواعها، بعد تصريح الرئيس الحالي اردوغان بأهمية عودته للحياة السياسية من بوابة الترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة عن العدالة والتنمية. كان هذا التصريح بمثابة لهيب أشعل موجة من التصريحات من مختلف مستويات القيادة في الحزب الحاكم والحكومة، على رأسها داود أوغلو.

فقد رحب رئيس مجلس الشعب جميل جيجك بالأمر، واقترح نائب رئيس الحكومة بولند أرينج تكليف غل برئاسة برلمان ما بعد الانتخابات، كما اعتبر داود أوغلو ترشحه على قوائم حزبه مصدر سعادة وفخر له وللحزب، بينما اكتفى غل نفسه حتى الآن بالصمت وهو أمر له دلالاته بالتأكيد.

ولم تكن عودة الرجل للحياة السياسية لتثير كل هذا الاهتمام لو أنها أتت بعد انتهاء مدة رئاسته مباشرة، لكن التطورات التي حدثت في تلك الفترة تحديداً هي ما أعطت للأمر أهميته. لقد عُقدت الهيئة العمومية الاستثنائية لحزب العدالة والتنمية من أجل اختيار خليفة لاردوغان في رئاسة الحزب قبل يوم واحد فقط من انتهاء فترة رئاسة غل مما منعه من التواجد والترشح لرئاسته، وهو ما أثار تكهنات حول عدم رغبة اردوغان بعودة غل لمنصب قيادي رفيع في الحزب، وهي تكهنات يدعمها الاختلاف في وجهات النظر بينهما إزاء أحداث 17 كانون أول/ديسمبر 2013 التي اعتبرتها الحكومة انقلاباً قضائياً، ويؤكدها عدم عودة غل حتى اليوم لصفوف الحزب وعدم توجيه دعوة له بهذا الخصوص.

أما الرئيس الأسبق نفسه، فيكتفي حالياً بالصمت والمتابعة، وكأنه ينتظر خطاباً رسمياً أو دعوة من الحزب للعودة إليه، لكن لا يبدو الرجل راغباً بعودة عادية، إذ لم يكن هو يوماً بالنسبة للحزب رجلاً عادياً. إذ هو أحد قيادات التيار الإصلاحي في حزب الرفاه ثم الفضيلة، وأحد قيادات العدالة والتنمية المؤسِّسة، وأول رئيس له وللحكومة قبل التنازل عنهما لصالح اردوغان، ووزير الخارجية الأسبق، ورئيس تركيا لسبع سنوات شارك فيها الحزب الحاكم إنجازات تركيا في مختلف المجالات. ولذلك، فلا يتوقع الرجل ولا يريد أن يكون مستقبله مجرد نائب عادي في البرلمان.

كانت هذه الرؤية ربما ما دفعت أرينج للتصريح بأن الرئيس غل ليس أي مرشح عادي شأنه شأن أكثر من 6000 شخص قدموا طلباتهم للترشح على قوائم الحزب، وأنه يقترح أن تسند له مهمة رئاسة مجلس الشعب، باعتباره منصباً مرموقاً ويتناسب مع شخصيته التوافقية وسيرته السياسية. هذا التصريح – وإن تضمن ترحيباً بالرجل وإجلالاً له – إلا أنه حمل أيضاً معنى مهماً، وهو عدم تصور غل مستقبلاً في قيادة الحكومة أو الحزب، أو على الأقل غياب أي وعد بذلك، وهي إشارة مهمة في هذا الصدد.

أحمد داود أوغلو أيضاً لم يكن بعيداً عن هذه المقاربة، فقد صرح بأن عودة غل أمر طبيعي جداً بل ويسعد العدالة والتنمية، لكنه استبعد مبدئياً فكرة “دعوته” للترشح إذ الحزب “بيته” الذي لا يحتاج لدعوة للعودة إليه، قبل أن يعود ويقبل فكرة الدعوة إذا ما طلب غل ذلك. لكنه رفض فكرة وعده برئاسة المجلس النيابي أو أي منصب آخر من الآن وقبل ظهور نتائج الانتخابات، باعتبار ذلك يتنافى مع احترام الديمقراطية وإرادة الشعب.

أما اردوغان، مطلق الفكرة وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة حتى الآن في المشهد السياسي التركي، فيبدو أن له هو أيضاً حساباته الخاصة به. وفي هذا الإطار يمكن إرجاع دعوة اردوغان لعودة غل – بعد محاولة إبعاده السابقة – لأحد ثلاثة سيناريوهات:

الأول، محاولة إرضاء غل بعد فترة التهميش والحرص عليه وعلى مستقبله السياسي، وربما مبادرة لاستيعابه لقطع الطريق أمام أي تفكير محتمل بالخروج عن العدالة والتنمية وتأسيس حزب جديد أو الانضمام لحزب آخر، رغم ضآلة هذا الاحتمال.

الثاني، الشعور بالحاجة لوجود غل في كتلة الحزب البرلمانية في الفترة القادمة، خاصة وأنه سيحرم فيما بعد الانتخابات من جهد العشرات من قيادات الصف الأول فيه، بسبب نظامه الأساسي الذي يحظر الترشح لأكثر من ثلاث مرات متتالية، وفي ظروف كهذه قد لا يبدو من الصواب التفريط بقامة كبيرة وخبرة عريضة كالرئيس السابق.

الثالث، محاولة إرساء بعض التوازنات داخل الحزب في مواجهة أو إلى جانب داود أوغلو، سيما وأن دعوة اردوغان أتت بعد قرار رئيس الاستخبارات بالاستقالة من منصبه للترشح للبرلمان بالاتفاق مع داود أوغلو رغم معارضته. لا يعني ذلك بالضرورة تفكير الأخير بتغيير رئاسة الحزب أو الحكومة في الفترة القادمة، فصاحب نظرية العمق الاستراتيجي قد أثبت جدارته بالقيادة فعلاً، ولكن قد يكون الرئيس التركي رأى من المصلحة وجود مراكز قوى أخرى في الحزب (مثل غل) تمنعه من التفرد الكامل أو الاستقلاية التامة بالقرار بعيداً عن مشورته.

التسريبات من الدوائر المقربة من الرئيس غل تفيد بأنه غير راغب بالعودة للبرلمان بهذه الطريقة، ويفضل أن يخط لنفسه طريقاً آخر، عبر التفرغ للمشاركة في المؤتمرات الدولية وتقديم المحاضرات المختلفة (أو السعي ربما لمنصب دولي)، وهو أمر قد يصب – مرة أخرى – باتجاه انتظاره “عرضاً” مقبولاً من الحزب. ولكن، بغض النظر عن مدى استعداد قيادة الحزب لتقديم عرض جاذب للرجل، وبغض النظر عن ترشحه للانتخابات من عدمه، إلا أن عودته لصفوف الحزب ستبقى تثار بين الحين والآخر، خصوصاً بعد الانتخابات القادمة حيث تنتظر الحكومة القادمة ملفات بالغة الصعوبة والتعقيد، على رأسها الدستور الجديد وعملية “تسوية” الملف الكردي في البلاد، وهي ملفات تحتاج في المقام الأول إلى شخصيات هادئة وتوافقية وتحوز على احترام الجميع مثل الرئيس عبدالله غل.

شارك الموضوع :

اترك رداً