سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

عبدالله غل من جديد

0

إذا كان ثمة وصف واحد يلخص المشهد السياسي التركي بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة فهو أنه مشهد “جديد” يكسر معظم القوالب والإطارات الجاهزة والثابتة خلال الفترة الماضية على امتداد 13 عاماً من حكم العدالة والتنمية في تركيا، وفي مقدمة هذه التغيرات الجديدة موقع ودور الرئيس السابق عبدالله غل فيه.

فالرجل كان قد ابتعد – أو أبعِد – عن الحياة السياسية بشكل عام والحزبية بشكل خاص بعد انتهاء فترته الرئاسية، بعد أن كان ملء السمع والبصر، رغم أنه ما زال في سن يسمح له بالعطاء وإشباع طموحه السياسي. إذ هو أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وأول رئيس له وأول رئيس حكومة منه، قبل أن يتنازل عنهما لرفيق دربه اردوغان، ليتولى مهام وزارة الخارجية، وأخيراً رئاسة الدولة من 2007 وحتى 2014.

لقد غاب الرئيس غل، أو بالأحرى غيّب، بعد انتهاء فترته الرئاسية، عن مؤتمر حزب العدالة والتنمية الاستثنائي الذي اختار داود أوغلو رئيساً، والذي كان قد نظم قبل يوم واحد فقط من انتهاء فترته الرئاسية، وهو ما أثر التساؤلات عن دلالة التوقيت، وعن وجود أي تقصد لإبعاد الرجل عن دوائر صنع القرار في الحزب. حيث ترددت كثيراً أخبار اختلاف الآراء بين غل واردوغان خلال أحداث “جزي بارك”، ثم خلال أزمة ادعاءات الفساد في كانون أول/ديسمبر 2013 التي اعتبرتها الحكومة انقلاباً قضائياً عليها، وهو ما يعطي بعض المصداقية لافتراضات “إقصاء” الرجل وسد الطريق على عودته لقيادة الحزب.

بعد ذلك صرح غل في أكثر من مناسبة أنه “لا خطة سياسية له في الوقت الحالي” واحتفظ بمسافة واضحة عن الحياة السياسية اليومية، سيما فترة التحضير للانتخابات بكل ما حملته من استقطاب سياسي وما حملته من دلالات واحتمالات وانعكاسات، لدرجة أنه امتنع عن المشاركة في احتفالية إحياء ذكرى فتح إسطنبول، حتى لا يقال إنه شارك في مهرجان انتخابي للعدالة والتنمية.

لكن ذلك لا يعني أن الرجل كان مقتنعاً وراضياً بالجلوس على مقاعد المتفرجين، ولا هذا هو ديدن السياسيين سيما القادرين منهم على الاستمرار، بل ربما يُفهم من ذلك عتبه الشديد، إضافة لتمهله وانتظار الفرصة المناسبة للعودة، ولكن بشروطه هو، وكأنه يقول للعدالة والتنمية “جربوا حظكم من دوني، ثم عودوا إلي إن احتجتموني”.

بعد سويعات قليلة من ظهور النتائج الأولية غير الرسمية للانتخابات، عاد غل فجأة إلى بؤرة الاهتمام ووضع تحت الضوء مجدداً، بعد أن خرج عن صمته وانزوائه، متصلاً بأحمد داود أوغلو ليلتها، ثم بالرئيس اردوغان بعدها بيومين، ثم بلقاء خاص مع أكبر وأقوى أعضاء “الحرس القديم” والمتحدث باسم الحكومة ونائب رئيس الحزب بولند أرينتش، خاتماً ذلك بلقاء خاص مع اردوغان لمدة 50 دقيقة على هامش تشييع الرئيس الأسبق سليمان دميريل، وهو ما شجع ظهور العديد من الشائعات حول احتمالية استقالة/إقالة داودأوغلو كضريبة للتراجع في الانتخابات والبحث عن خليفة له، ربما يكون غل نفسه.

من ناحية أخرى، نشر مستشار غل السابق أحمد سافار كتابه “12 عاماً مع غل” ووضعه في الأسواق صبيحة إعلان النتائج، وتبين أن الأخير طلب منه هذا التأخير حتى لا يعتبر نشره قبل الانتخابات محاولة للتأثير على نتائجها. ولئن كان غل قد صرح أكثر من مرة بأنه غير مسؤول عما كتب في الكتاب، ولا هو راض عنه (دون أن يمنع كاتبه من النشر)، إلا أن الكثير من الدوائر السياسية والإعلامية اعتبرت الأمر مقصوداً، باعتبار أن الكتاب يروي العديد من الأحداث، سيما الخلافات في الرؤى مع اردوغان، ومرارة غل من استبعاده.

اشتراطات الرئيس السابق للعودة للحياة السياسية ترددت في كواليس أنقرة خلال الأيام القليلة الماضية، وهي: طلب اردوغان منه ذلك، وعدم منافسة داودأوغلو في حال رغب في البقاء (بمعنى القبول إذا كان قرار استبدال الأخير قد اتخذ)، وأن يمارس صلاحيات رئيس الوزراء كاملة كما فعل قبله اردوغان.

لكن عودة غل ليست مؤكدة في الوقت الحالي، وتبقى مرتبطة بمصير رئيس الحزب أحمد داود أوغلو، الذي كان قد تعهد خلال الحملة الانتخابية بالاستقالة في حال لم يستطع تشكيل الحكومة منفرداً، والذي كانت من المفهوم ضمناً منذ تسلمه رئاسة الحزب أن الانتخابات هي المحك الرئيس لقيادته له وامتحانَ بقائه على رأسه.

وعليه، ربما تكون أي حكومة ائتلافية يستطيع العدالة والتنمية تشكيلها حبل نجاة بالنسبة للأخير، بينما سيصبح سيناريو أي حكومة ائتلافية بين أحزاب المعارضة نقطة على آخر السطر بالنسبة له، في حين سيكون سيناريو الانتخابات المبكرة عاملاً مشجعاً على التغيير ضمن حسابات عوامل أخرى أخيرة. والحال كذلك، سيكون المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية خلال شهر أيلول/سبتمبر القادم محطة فارقة في مصير داود أوغلو ومستقبل الحزب وقرار غل نفسه.

شارك الموضوع :

اترك رداً