سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

حسابات تركيا المعقدة في سوريا

0

بالقصف الجوي التركي لمواقع تنظيم الدولة في سوريا وحزب العمال الكردستاني في العراق، ثم السماح للولايات المتحدة ودول التحالف باستعمال قاعدة إنجيرليك العسكرية ضد التنظيم وانطلاق أولى الطائرات لقصفه قبل أيام، ثم الإعلان عن مواجهة وشيكة وشاملة معه، تكون تركيا قد انتقلت إلى مرحلة جديدة في تناولها لقضايا المنطقة، ونقلت سؤال تدخلها/تورطها في المشهد السوري من نطاق “هل” إلى نطاق “كيف” و”إلى أي مدى”.

 

أسباب التغيير

ذلك أن الحكومة التركية بقيت على خلاف في التوصيف والرؤى مع الإدارة الأمريكية منذ بدء الأزمة السورية، ثم تعمق ذلك الخلاف واتضح أكثر مع تشكيل التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، الذي تمنعت أنقرة عن المشاركة الميدانية الفاعلة في عملياته، واكتفت بالدعم اللوجستي والاستخباراتي إضافة إلى محاولة ضبط الحدود.

ثمة أسباب كثيرة يمكن ذكرها بين يدي هذا التحفظ التركي منذ بدء الأزمة السورية ثم بعد تشكيل التحالف، بعضها نظري متعلق برؤية العدالة والتنمية للصراعات الإقليمية التي قد تحمل أبعاداً عرقية أو مذهبية، وبعضها الآخر واقعي عملي ذو علاقة بموازين القوى على الأرض، وبعض منها استراتيجي مرتبط بالعلاقة المتوترة مع الولايات المتحدة فضلاً عن داعمي الأسد مثل روسيا وإيران، وجزء آخر غير معلن يُغذي توجسها من نوايا واشنطن في المنطقة وخاصة لجهة تغيير تحالفاتها وحلفائها، وبعض أخير متعلق بالمشهد السياسي الداخلي الذي لا يحتمل حروباً ونزاعات ولا يريدها.

تغير موقف أنقرة، أو بتعبير أدق تغير سلوكها على الأرض – رغم عدم تغير هذه العوامل بشكل جذري – متعلق بثلاثة متغيرات استراتيجية، هي:

أولاً: اختلال التوازن الذي كان قائماً في السابق بين تنظيم الدولة وقوات حماية الشعب الكردية.

ثانياً، تفعيل أكراد سوريا لمشروعهم بإقامة كيان سياسي لهم في الشمال السوري.

ثالثاً، تراجع العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وضبابية المشهد السياسي الداخلي، وهو ما أدى إلى ضعف قدرة الحكومة التركية على الصمود وقلل من فرص استقلالية قرارها في السياسة الخارجية.

 

الاتفاق الأمريكي – التركي

منذ تشكيل التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة افترقت رؤيتا كل من أنقرة وواشنطن حول الأزمة، ففين حين لم تخف الثانية نيتها التعامل الضمني مع نظام الأسد من خلال تركيزها على مكافحة التنظيم فقط، كانت الأولى ترى أن التنظيم مجرد نتيجة من نتائج سياسات النظام، وبالتالي فإن مكافحته لن تكون ممكنة ما دامت أسباب نشوئه وانتشاره قائمة بل ومتزايدة.

ومن هنا، اشترطت تركيا ثلاثة شروط للمشاركة الفاعلة في التحالف الدولي هي:

1-  معالجة أسباب الأزمة (استهداف نظام الأسد) وليس مجرد النتيجة (تنظيم الدولة).

2- إنشاء منطقة آمنة على الحدود السورية – التركية، ومنطقة حظر للطيران لحمايتها.

3- تسليح وتدريب المعارضة السورية “المعتدلة”.

ولأن الإدارة الأمريكية لم تتجاوب مع أول شرطين، فقد بقيت أنقرة خارج المعادلة الميدانية للتحالف، بيد أن الطرفين اتفقا على مشروع تدريب وتسليح المعارضة السورية المعتدلة، وهو المشروع الذي تعثر بسبب الخلاف بين البلدين على تعريف “الاعتدال” واختيار العناصر.

من جانبها، ورغم الضغوط الأمريكية المتواصلة منذ شهور، فقد تمنعت تركيا عن الموافقة على فتح قواعدها العسكرية أمام الطائرات الأمريكية، سيما قاعدة إنجيرليك القريبة من الحدود السورية وذات الأهمية الاستراتيجية في خطة مكافحة داعش، قبل أن تسمح بذلك فجأة في إطار اتفاق ثنائي.

سبق هذا الاتفاق سيطرة قوات الحماية الكردية على تل أبيض في الشمال السوري تحت حماية طيران التحالف وما رافقه من تهجير للعرب والتركمان. عدم إخطار أنقرة وحصول الحادث بعد الانتخابات – التي تراجع فيها العدالة والتنمية – مباشرة أذكيا هواجس أنقرة بخصوص تغيير التحالفات الأمريكية وإعطائها الضوء الأخضر للمشروع السياسي الكردي على حدودها، وهو أحد خطوط أمنها القومي الحمراء، الأمر الذي جعلها أقرب للخضوع للضغوط الأمريكية.

وبنتيجة هذه الضغوط والعوامل المذكورة آنفاً، فقد تراجعت تركيا عن موقفها بالتدريج. ففي حزيران/يونيو المنصرم، أعلنت تركيا عن “تواجد” طائرات من دون طيار أمريكية في قاعدة إنجيرليك، ثم أصدرت الخارجية التركية في 24 تموز/يوليو الفائت بياناً أعلنت فيه  عن اتفاق بين أنقرة وواشنطن على محاربة تنظيم الدولة، وفق التفويض ساري المفعول من قبل مجلس الشعب التركي.

بيد أن الكثير من التطورات والقرائن تشير إلى أن الأمر كان أقرب إلى خضوع تركي، أو على الأقل تراجع تكتيكي، منه إلى اتفاق ثنائي تبادلي كامل، ومنها:

أولاً، أن الاتفاق غير معلن ولا مكتوب، وسيخضع بالتالي لتطورات الأحداث، وللتفسير الأمريكي له بطبيعة الحال.

ثانياً، أن الكثير من المصادر الأمريكية أكدت أن منطقة آمنة على الحدود السورية – التركية لن تعلن بشكل رسمي، بل وفق ظروف “الأمر الواقع”، باعتبار أن المنطقة “ستنظف” من تنظيم الدولة وطيران النظام لن يجرؤ على قصف طيران التحالف.

ثالثاً، تحدثت التسريبات الصحافية عن منطقة آمنة بطول 90 كلم بين المعرة وجرابلس (غربي نهر الفرات)، وبعمق يصل في بعض الأماكن إلى 50 كلم، وهو تصور بعيد عن المناطق الآمنة التي تطالب بها تركيا منذ تشرين الأول/أكتوبر 2014 وتمتد على طول الحدود التركية – السورية.

رابعاً، يتضح من التسريبات أن الاتفاق لا يشمل إجلاء قوات الحماية الكردية – الهاجس الأهم لأنقرة – من مناطق نفوذها شرقي الفرات، بل يبدو مثبتاً لها.

 

بين التنظيم والحزب

لطالما كانت العلاقة الملتبسة بين تركيا وتنظيم الدولة مثار جدل كبير، بل وفتحت الباب على اتهام الأولى بالتنسيق مع الثانية وتسهيل دخول أفرادها إلى سوريا، وصولاً إلى دعمها في معركة عين العرب/كوباني مع قوات الحماية الكردية، رغم أن أنقرة استقبلت اللاجئين السوريين (الأكراد) من عين العرب، وقدمت المساعدات الإنسانية واللوجستية للأكراد، ثم سمحت لمقاتلي البيشمركة بالعبور عبر أراضيها إلى المدينة للمشاركة في المعركة.

بيد أن هذه الوقائع لا تدحض أيضاً حقيقة أن تركيا تلكأت في الانضمام الفعلي والانخراط الميداني مع التحالف الدولي، وهو ما يمكن تفسيره وفق عدة أسباب، أهمها:

1- الرهائن الأتراك الذين احتجزهم التنظيم في بداية ظهوره في الموصل.

2- موازنة التنظيم للقوات الكردية في الشمال السوري، وهو ما كانت تستفيد منه تركيا في الحد من الطموح السياسي لأكراد سوريا.

3- خوف تركيا من أن يؤدي استهداف التنظيم إلى تقوية نظام الأسد أو اضطرارها للتعاون معه كأمر واقع.

4- محاولتها تجنب أي هجمات انتقامية على الحدود أو في الداخل من قبل التنظيم، الذي يتمتع بشيء من التعاطف ويتوقع أن يكون له خلايا نائمة في الداخل التركي.

5- رغبتها في أن لا تكون مشاركتها بلا مقابل (المنطقة الآمنة مثالاً).

6- توجسها من حقيقة الأهداف الأمريكية في المنطقة، في ظل حرب ستستمر لسنوات طويلة، قد تتغير خلالها الأهداف والتحالفات أكثر من  مرة.

إذاً، بدا تنظيم الدولة – المصنف منظمة إرهابية في تركيا منذ سنوات – فاعل ذات فائدة تكتيتكية وخصماً غير منضبط يمكن تأجيل الصدام معه، للتركيز على الاهتمام بالمخاطر ذات الأولوية وفق الأجندة التركية، أي حزب العمال الكردستاني وقوات الحماية الكردية. ولعل ذلك ما يفسر أن التحرك العسكري التركي تحت عنوان مكافحة التنظيم بدأ فقط بعد اغتيال شرطيَيْن على يد حزب العمال، وليس مباشرة بعد تفجير مدينة سوروج الذي اتهم فيه تنظيم الدولة، بينما لم يخف على المتابعين استئثار الحزب – وليس التنظيم – على الحصة الكبرى من القصف الجوي.

 

بين الاضطرار والاستثمار

إذاً، تبدو تركيا في المحصلة وسط مشهد بالغ التعقيد، تحتاج أن تحسب فيه كل خطوة من خطواتها فيه مرات ومرات، إذ تبدو على مشارف حرب يتصارع فيها أكثر من خصم/عدو لها، في حين لا تبدو مطمئنة لدعم حلفائها في واشنطن وحلف الناتو.

من ناحية أخرى، تدرك أنقرة بالتأكيد أن هدف إسقاط النظام السوري عبر إعطاء المعارضة السورية موطئ قدم في الشمال ليس أمراً وارداً في الوقت الحالي، في ظل افتقادها لكثير من عناصر القوة والمبادرة، وهي تعلم يقيناً أنها أضعف موقفاً من ذي قبل أمام الضغوط الأمريكية، وهو ما أدى لتراجعها في مسألة إنجيرليك.

والحال كذلك، يمكن فهم التحركات التركية في إطار “الدفاع الفاعل” عن حدودها، ويبدو أن سقف موقفها هو محاولة تثبيت فكرة المنطقة الآمنة. لكن موازين القوى، وتطورات الأحداث، والمعلن من الموقف الأمريكي، وتعقيدات المشهد السياسي الداخلي، واقتراب انتهاء فترة تفويض البرلمان للحكومة (تشرين الثاني/أكتوبر القادم)، والعوائق الميدانية والاستراتيجية العديدة بخصوصها، كلها عوامل تشير إلى أن المنطقة الآمنة ما زالت صعبة المنال، بل ربما مناط نقاش معمق مع الإدارة الأمريكية، وليست اتفاقاً منجزاً بالضرورة كما تشير الكثير من التسريبات التركية.

ختاماً، تبدو تركيا مضطرة لرفع مستوى اشتباكها مع المشهد السوري رغم اقتناعها بخطورة ذلك، لكنها تسعى لتحويل هذا الاضطرار إلى فائدة إن أمكن، عبر تأكيدها المتكرر على أهمية المنطقة الآمنة لها وللاجئين السوريين، وأيضاً – وهو الأهم – خوضها معركتها الرئيسة مع العمال الكردستاني تحت شعار وعنوان مكافحة تنظيم الدولة، وقد نجحت حتى الآن بجمع الطرفين تحت وصف الإرهاب والحصول على الدعم السياسي – اللفظي من واشنطن والناتو والأمم المتحدة في حربها هذه حتى الآن.

شارك الموضوع :

اترك رداً