سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

العدالة والتنمية يقود تركيا من جديد

0

بعد أقل من خمسة أشهر من انتخابات السابع من حزيران/يونيو الفائت، والتي خسر فيها أغلبيته البرلمانية وفقد فرصة تشكيل الحكومة بمفرده، حقق حزب العدالة والتنمية فوزاً صريحاً ومريحاً في انتخابات الإعادة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي.

 

النتائج .. لغة الأرقام

فقد خالف الحزب كل التوقعات، توقعات شركات استطلاع الرأي وتوقعاته الخاصة، وحقق نسبة %49.4 من أصوات الناخبين، وهي نسبة شبه مطابقة لنسبته في انتخابات 2011، بمعنى أنه عاد وكسب الأصوات (%9) التي خسرها في الانتخابات السابقة، وكأن تلك الانتخابات لم تكن.

وهنا للأرقام لغة واضحة ولسان فصيح ينطقان بحقائق الفوز الكبير الذي حققه الحزب والذي يتخطى مجرد الأغلبية في نسبة التصويت. فقد حصل الأخير على نسبة تصويت وعدد نواب يفوقان مجموع الأحزاب الثلاثة المنافسة له والممثلة معه في البرلمان. لقد كان السؤال الأهم وربما الوحيد قبل الانتخابات يتمحور حول مدى قدرته على الحصول على الأغلبية وتشكيل الحكومة بمفرده (وكانت معظم استطلاعات الرأي تقول بعكس ذلك)، بينما تخطاها العدالة والتنمية بأريحية حاصلاً – وفق الأرقام شبه النهائية وغير الرسمية حتى الآن – على 314 من أصل 550 نائباً في البرلمان التركي القادم.

أكثر من ذلك، فقد سجل الحزب زيادة ملحوظة في نسبة التصويت له في الخارج (من %50 في الانتخابات السابقة إلى %55) وفي مناطق البلاد الجغرافية-السياسية السبع ومحافظاتها الـ 81، وكان – مرة أخرى – الحزب الوحيد المنتشر والفائز على طول رقعة البلاد، ففشل في إنجاح مرشحين من قوائمه في ثلاث محافظات فقط من أصل 81.

هذا النصر الكاسح – كما وصفه المراقبون – والذي يمكن اعتباره زلزالاً سياسياً ضرب البلاد وأعادها إلى الاستقرار السياسي مرة أخرى، يعود إلى تصويت حوالي 4.2 مليون ناخب إضافي للحزب الحاكم (إضافة لـ 18 مليوناً) أغلبهم ممن قاطعوا الانتخابات السابقة إضافة للقوميين والأكراد، خاصة الإسلاميين منهم.

وعلى مسافة كبيرة من العدالة والتنمية، حل حزب الشعب الجمهوري ثانياً بنسبة %25 من الأصوات وهي نفس النسبة التي كان قد حصل عليها في الانتخابات السابقة، مخالفاً التوقعات برفع رصيده مثل العدالة والتنمية.

على الجهة المقابلة تراجع حزبا الحركة القومية والشعوب الديمقراطي بدرجة كبيرة، حيث تراجع الأول 4 درجات مئوية ليحصل على %11.93 من الأصوات، وفقد الثاني 3 درجات مئوية تركته أعلى قليلاً من نسبة 10% المطلوبة أصلاً لدخول البرلمان.

 

الحزب العدالة والتنمية

AKP

الشعب الجمهوري

CHP

الحركة القومية

MHP

الشعوب الديمقراطي

HDP

نسبة التصويت (%) 49.41 25.38 11.93 10.7
عدد النواب 316 134 41 59

 

 

الأسباب والتفسيرات

هذه النتيجة الكبيرة والمفاجئة – كما سبق – للجميع بما فيهم الحزب وقياداته، يمكن تفسيرها بأنها النتائج الحقيقية المتناسقة مع الارتفاع المضطرد لنتائج العدالة والتنمية (لناحية نسبة التصويت) منذ انتخابات 2002 التي حصل فيها على نسبة %34، ثم رفعها عام 2007 إلى %46، لتصل عام 2011 إلى %49.5، وهي النسبة القريبة جداً من نسبته في الانتخابات الحالية، وبذلك يمكن اعتبار انتخابات السابع من حزيران/يونيو لاغية أو مجرد رسالة تحذير من الناخبين مرت بسلام.

بيد أن هذا التفسير يبدو نوعاً من الاستسهال وبعيداً عن التعمق في الأسباب والسياقات الكثيرة التي أدت لهذه النتيجة/الصدمة. فقد لعبت عوامل عدة، داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية، أمنية واجتماعية، أدواراً مهمة في تغيير مزاج ورأي الناخب التركي في فترة زمنية قصيرة نسبياً (خمسة أشهر) بهذه النسبة الواضحة، أهمها:

أولاً، احترام رأي الناخب وتقبل رسالته، وهي المقاربة التي قدمها العدالة والتنمية منذ اليوم الأول للانتخابات السابقة، دون لوم للمواطن أو تعال عليه، ثم بنى عليها عدة خطوات عملية مصدقة لهذا التقبل النظري، بدءاً بالخطاب السياسي والشعارات المرفوعة (مثل القيم المؤسِّسة، والعمل بحماسة اليوم الأول) مروراً بتغيير القيادات وقوائم المرشحين (وخاصة في مدن الجنوب الشرقي ذي الأغلبية الكردية) وانتهاءً بالبرنامج الانتخابي الذي لم يكتف كما الانتخابات السابقة بتعداد المنجزات السابقة أو التبشير “بالمشاريع العملاقة” مثل المطار الثالث وقناة إسطنبول والجسر الثالث، بل ركز على ما يهم حياة المواطن اليومية من البنود الاقتصادية مثل رفع الحد الأدنى للأجور ومكافأة نهاية الخدمة وتخفيض نسبة البطالة.

ثانياً، الاستقرار والأمن، وقد فقدتهما تركيا نسبياً ولأول مرة منذ 2002 في هذه الفترة الانتقالية. فقد أدت حالة عدم الاستقرار السياسي إلى تذبذب اقتصادي وتوترات أمنية ساهمت في إقناع الناخب برسالة العدالة والتنمية، والتي مفادها أنه – أي الحزب – ضمانة الاستقرار واستدامة التنمية ونمو الاقتصاد في البلاد، وأن عودته لتشكيل الحكومة منفرداً هي ما ستعيد للمواطن الأمن والاستقرار المفقودين جزئياً.

ثالثاً، قانون الانتخاب التركي، الذي كان قد حرم الحزب من الأغلبية البرلمانية بفارق بسيط جداً (90 ألف ناخب) في الانتخابات الأخيرة بسبب حساباته المتشابكة وبنوده المعقدة. حيث تعتمد النسبة التي يحصل عليها الحزب على نسب الأحزاب المنافسة له وعلى نسبة الإقبال على الاقتراع (بلغت قريباً من %87) وعلى نسبة الإقبال والتصويت بين المغتربين من الأتراك وغيرها من العوامل. ويبدو أن هذه الحسابات التي حرمت الحزب سابقاً قد عادت وأعطته عشرات المقاعد النيابية في ظل تراجع الخصوم وارتفاع نسبة الإقبال.

رابعاً، فشل المعارضة، التي لم تعجز فقط عن إقناع الناخب بأنها بديل ممكن للعدالة حيث لم تزد كتلة أكبرها – الشعب الجمهوري – في البرلمان إلا مقعدين فقط ولم تساو في مجموع أحزابها الثلاثة ما حققه الحزب الحكم لوحده، بل – أكثر من ذلك – تعرض حزبا الحركة القومية والشعوب الديمقراطي لانتكاسة كبيرة كادت أن تفضي بهما – وخاصة الثاني – خارج مجلس الشعب. لقد عاقب الشعب حزب الحركة القومية على سياسته العدمية التي انتهجها خلال الفترة الانتقالية رافضاً المشاركة في أو دعم أي من الحلول السياسية المقدمة إليه، كما عاقب حزبَ الشعوب الديمقراطي على عدم وضعه حداً فاصلاً وواضحاً بينه وبين حزب العمال الكردستاني الذي عاود عملياته العسكرية في البلاد بعد سنوات من العملية السياسية والإصلاحات الديمقراطية التي مُنحت للأكراد. وباعتبار أن العملية الانتخابية عملية حسابية أيضاً من أحد وجوهها، فقد أوضحت الأرقام أن نصف الأصوات التي أضافها العدالة والتنمية في هذه الانتخابات إلى رصيده قد أتت من هذين الحزبين تحديداً.

هكذا، بدا أن العدالة والتنمية ورئيسه أحمد داودأوغلو قد كسبا الجولة بحسن الأداء والخطاب الرصين والمسؤول خلال الفترة الانتقالية، في حين كانت أحزاب المعارضة في عداد الخاسرين حين بددت فرصة ذهبية لاحت لها في حزيران/يونيو الفائت للمشاركة في حكومة ائتلافية مع العدالة والتنمية أو حتى تشكيلها من دونه.

 

الملفات الشائكة

إذن، فقد خرجت تركيا – أو هي على وشك – من غياهب الفترة الانتقالية وأزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتترك وراءها أحاديث الانتخابات والحملات والحكومات الائتلافية، وتركز على تشكيل حكومة مستقرة متآلفة يمكنها التعامل مع مشكلات البلاد ورسم مستقبلها.

ففي المقام الأول تحتاج الحكومة لحسم موجة التصعيد الحالية مع حزب العمال الكردستاني – إنهاءً أو تهدئة – التي بدأت منذ 20 تموز/يوليو الماضي استغلالاً لحالة الفراغ السياسي في البلاد وتطورات الأزمة السورية التي أبرزت الأحزاب الكردية (الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب) لاعباً رئيساً فيها. وعلى هامش تهديد العمال الكردستاني برز تنظيم الدولة – داعش مؤخراً كلاعب خطير على ساحة التفجيرات الداخلية في تركيا أعقبه اعتقال العشرات من مناصريه بتهمة التخطيط لأعمال إرهابية في البلاد، وهو ملف شائك آخر لا يحتمل التأجيل.

وارتباطاً بالتصعيد الأمني والعسكري مع العمال الكردستاني ما زالت المسألة الكردية جرحاً نازفاً يستنزف مقدرات البلاد البشرية والاقتصادية ويعرض نسيجها الاجتماعي لتمزقات تفتح الباب على مصراعيه على التدخلات الخارجية. ولئن كان الحل الأمني هو سيد الموقف مرحلياً، إلا أنه لا غنى عن الحل السياسي بعد صمت البنادق وانقشاع دخان المدافع، وهي قضية يعتبرها العدالة والتنمية محورية واستراتيجية في رؤية ومشروع تركيا الجديدة.

كما يبدو أن الوقت قد حان لتخليص البلاد من “دستور العسكر” الذي صاغه جنرالات الانقلاب عام 1982، وإهدائها دستوراً مدنياً يليق بتجربتها التنموية المعاصرة. ولئن كانت صياغة الدستور الجديد تحتاج إلى توافق وطني وإقرار من برلمان لا يملك العدالة والتنمية أغلبية الثلثين (لإقراره عبر البرلمان) ولا حتى نسبة %60 (لعرضه على استفتاء شعبي) فيه، فلعل ذلك يكون عاملاً مساعداً على خطوات عملية للتلاقي وتخفيف حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي في البلاد، بين الأحزاب السياسية والأطياف المجتمعية، وهي بلا شك مسؤولية الحزب الحاكم قبل أن تكون مسؤولية المعارضة.

أخيراً، لا شك أن السياسة الخارجية ستكون في بؤرة اهتمام العدالة والتنمية والحكومة التركية في الفترة المقبلة، سيما وأنها تعرضت لانتكاسات عدة، أهمها في الملف السوري (بغض النظر عن مدة صحة أو أخلاقية تلك المواقف). وبالتالي تحتاج تركيا في عهدها الجديد إلى تقييم عميق وموضوعي لرؤية وأدوات ونتائج سياساتها الخارجية وخاصة تلك المتعلقة بدول المنطقة وقضايا الأمة، وهو مبحث مستقل ومهم على أي حال، لعلنا نعود له بالتحليل العميق والمسهب في مقال لاحق إن شاء الله.

شارك الموضوع :

اترك رداً