سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

كل الطرق تؤدي إلى تقسيم سوريا

0

شاركت في شهر أيار/مايو الفائت في مؤتمر “مئة عام على سايكس-بيكو: خرائط جديدة تُرسم” من تنظيم مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، مقدماً ورقة عن الرؤية التركية لسيناريوهات التقسيم في المنطقة، سيما في سوريا والعراق. في الجلسة التي شاركت بها قدم زملاء آخرون أوراقاً عن رؤية وموقف كل من إيران وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من سيناريوهات التقسيم، وقد أجمع الكل – كل على حدة – على أن التقسيم ليس من مصلحة أي طرف. وهنا سأل أحد الباحثين المشاركين بذكاء وتلميح واضحين: إذا كانت كل الأطراف الفاعلة لا تريد التقسيم، فلماذا يسير بخطى واثقة ونتباحث حوله اليوم؟!!

وهو طرح محق وذو وجاهة بلا شك، ذلك أن التصريحات العلنية والمواقف السياسية الداعية إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية لا تجد لها صدى على أرض الواقع، بل لربما رصدنا العكس تماماً.

بداية، لا يبدو أن ثمة أفقاً لحسم الموقف عسكرياً في سوريا لصالح النظام أو المعارضة، بل ثمة حرص دولي واضح على إبقاء حالة “التوازن” في الموقف – كما عبرت عن ذلك هيلاري كلينتون سابقاً – أو بالأحرى استدامة نزيف الدم السوري، على مستوى الشعب والدولة والمكانة والمستقبل. ويبدو الحرص أكبر بخصوص المعارضة السورية التي ما زالت مضادات الطائرات والأسلحة النوعية محظورة عليها من “أصدقاء الشعب السوري” رغم كل التطورات على مدى السنوات الأخيرة ورغم المحرقة الحالية في حلب.

أما على مستوى الحل السياسي الذي تتفق مختلف الأطراف على أنه الوحيدالممكن والمتاح للأزمة في سوريا فليست هناك ملامح واضحة عليه ولا تتفق أو تقترب رؤى مختلف الاطراف حوله. يبدو استمرار الأسد في قيادة البلاد مستحيلاً عقلاً وواقعاً، وليس هناك أفق واضح لحل انتقالي يحفظ وحدة الأراضي السورية بشكل فعلي، بل ليس ثمة قناعة راسخة بضرورته إذ يبدو أنه مجرد ورقة لكسب الوقت والتقدم الميداني سيما من قبل روسيا والنظام.

على مدى السنوات الماضية، تحول المشهد السوري سريعاً من ثورة شعب ضد نظام ظالم إلى ما يشبه الحرب الأهلية ثم إلى نزاع إقليمي ثم أخيراً إلى صراع دولي بأدوات محلية سورية، حيث يدفع السوريون ثمن محادثات كيري ولافروف اتفاقاً وخلافاً بينما هم -وغيرهم – مغيَّبو الحضور والرأي في المحادثات وكل ما يتعلق بمستقبل سوريا الذي يصوغه اللاعبان الروسي والأمريكي.ولئن كان ثمة مسؤولية بدرجة ما على المعارضة السورية خصوصاً في جزئية التعويل على الخارج (بالنسبة للبعض وصل الأمر للارتهان وليس فقط الرهان)، إلا أن المسؤولية الكبرى تقع على الخارج، على مستوى المتدخلين عسكرياً بشكل مباشر وفج كما على مستوى الساكتين والراضين على الإبادة المستمرة للشعب السوري، سواء بسواء.

في ظل هذه الصورة القاتمة أتى التدخل التركي العسكري في شمال سوريا(درع الفرات) كبصيص أمل للمعارضة السورية يمكن أن يعدل الكفة لصالحها ولو قليلاً، خصوصاً أن “الحفاظ على وحدة الأراضي السورية” كان أحد الأهداف الثلاثة المعلنة للعملية من قبل أنقرة.

صحيح أن المبادرة التركية تعيد أحد داعمي المعارض إلى طاولة التفاوض حول مستقبل سوريا وتضعها في قلب المشهد السوري مرة أخرى بعد أن غابت عنه إثر أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، لكن تقييم الخطوة التركية شابه الكثير من المبالغات بحدود ما يمكنها تغييره على مستوى المشهد السوري ككل. فأنقرة لم تدَّع أنها تتدخل لإسقاط الأسد أو لدعم المعارضة (وإن كان ذلك ممكناً لاحقاً من الناحية النظرية) بل لحماية أمنها القومي ومصالحها وحدودها سيما فيما يتعلق بتنظيم الدولة – داعش ومشروع الميليشيات الكردية في شمال سوريا.

وبنظرة سريعة، ثمة عوامل خمسة تدفعنا لهذا التقييم، هي:

أولاً: محرقة حلب المستمرة منذ أيام طويلة في ظل عجز الدول الداعمة عن وقفها أو عدم مبادرتها لذلك.

ثانياً، احتكار الثنائي الأمريكي – الروسي للقرار بخصوص سوريا دون أدنى مساهمة من أي طرف سوري، من خلال رسم المسار والأهداف والمدى الزمني والتصنيفات، بل وتهديد كل من يعارض ذك أو يحيد عنه بممارسة الإرهاب ودعمه.

ثالثاً، صمت الجبهات الأخرى في سوريا واقتصار المواجهات على “الجبهة الشمالية” وخطط تقاسم المنطق في مرحلة “ما بعد داعش”، فالجبهة الجنوبية هادئة بشكل مريب (ثمة تقارير تتحدث عن ضغط أردني بطلب أمريكي لإبقائها ساكنة) ومناطق النظام اليوم أكثر أمناً بعد سنة كاملة من التدخل الروسي، ومناطق سيطرة الميليشات الكردية شرق الفرات لا تحظى بأي تحفظ أو اعتراض حتى من تركيا.

رابعاً، التغييرات الديمغرافية التي تتم بشكل ممنهج من خلال سياسات التجويع وفرض الاستسلام وتفريغ بعض المناطق من ساكنيها بل وإحلال غيرهم مكانهم على أسس جغرافية وسياسية ومذهبية، كما حصل في داريا ويخطط لحي الوعر والمعضمية وغيرهما، وهي سياسات تبلور مع الوقت مشروع “سوريا المفيدة” وفق الرؤية الروسية – الإيرانية.

خامساً، أن التدخل التركي أتى عبر اقتراب أنقرة من الرؤية الأمريكية (مكافحة داعش) وابتعادها في الخطاب والممارسة عن رؤيتها السابقة (ضرورة إسقاط النظام) وهو متغير مهم وذو دلالة وتأثير، سيما وأنه محدود جغرافياً بمناطق محددة ويأتي بطبيعة الحال في ضوء التقارب مع موسكو وكأحد نتائجه. وتجدر في هذا السياق الإشارة إلى تصريحين تركيين مهمين، الأول تحميل الرئيس التركي مسؤولية ما يحصل في حلب للنظام السوري حصراً (لم يأت على ذكر الطرف الروسي)، والثاني إشارة رئيس الوزراء التركي إلى أهمية فهم النظام أخيراً “لخطر الميليشات الكردية ومشروعها السياسي”.

هذه العوامل السابقة وغيرها تقول بشكل واضح إن فكرة “وحدة الأراضي السورية” ليست مطروحة على أجندة الأطراف المختلفة فضلاً عن صعوبة تحقيقها في ظل كل هذه المعطيات. وعليه فالمطروح عملياً هو سيناريوهات التقسيم وليس الوحدة، ولسنا نعني هنا بالضرورة سيناريو التقسيم الرسمي والفعلي بمعنى تقويض الدولة السورية وتأسيس عدة دويلات مكانها على أسس عرقية ومذهبية وغيرها، رغم أنه ما زال أحد الاحتمالات المطروحة.

فسيناريوهات التقسيم أنواع ودرجات ومستويات، منها التقسيم الرسمي سابق الذكر، ومنها سيناريو الفيدرالية، ومنها الحفاظ على مناطق السيطرة الحالية وتهدئة خطوط التماس بمعنى الحفاظ على الأمر الواقع على المدى البعيد، ومنها تقاسم النفوذ والسيطرة والقرار بين مختلف اللاعبين الذين باتوا يعدون بالعشرات – دولاً ومنظمات وميليشيات – على الأرض السورية.

حتى سيناريو الفيدرالية الذي قد يكون مخرجاً للأزمة السورية بتقاسم معين للسلطة مع الحفاظ على وحدة الدولة السورية وأراضيها يبدو اليوم أبعد ما يكون عن صفة “الحل” وأقرب إلى “المشكلة” والتقسيم. أولاً لأنه يُفرض فرضاً على السوريين كمشروع لبعض الأطراف حتى قبل رحيل النظام وليس كخيار يختاره الشعب بعد انتصار الثورة أو باتفاق كافة الأطراف، وثانياً لأنه يأتي على أسس عرقية ومذهبية وطائفية وليس على أسس جغرافية وسياسية فقط، وهذه توليفة صراع وحرب أهلية وليست توليفة توافق داخلي بعد جدران الدم التي نصبت وفي ظل هشاشة التجربة الديمقراطية والثقافة السياسية بطبيعة الحال.

أخيراً، وأهم ما في الموضوع، أن هذه السيناريوهات والخطط ليست قدراً مقدوراً ولا الشعب السوري ومكوناته خارج اللعبة تماماً. فكما أن خرائط سايكس – بيكو قد عدلت لاحقاً لعدة أسباب في مقدمتها “حرب الاستقلال التركية” كعامل محلي/ذاتي، فإن الفاعل المحلي في الأزمة السورية أيضاً يملك أن يفرض نفسه فرضاً على اللاعبين الإقليميين والدوليين، فمهما رسم الخارج خططاً يبقى عاجزاً عن إنفاذها رغماً عن الوضع الميداني ومن يديرنه ويقفون على الأرض.

لكن هذا الأمر لا يأتي اعتباطاً ولا بشكل بدهي، بل دونه الكثير الكثير من العقبات والعديد العديد من المتطلبات، أهمها على الإطلاق امتلاك رؤية واضحة وخطط قابلة للتنفيذ، وإدراك لأبعاد الصراع ومتغيرات الواقع، وتوحيد التمثيل السياسي والعسكري، وإحداث ثغرات في الموقف الميداني، وفهم المعادلة الإقليمية والدولية وأبعادها وانعكاساتها، وزيادة التنسيق مع الأطراف الداعمة، ولكن على قاعدة التعاون لا التبعية والتنسيق لا الذوبان وفي ظل مشروع سوري واضح المعالم والتمثيل والقيادة والمسار يضع نصب عينيه المصلحة السورية العامة على مستويات الشعب والأرض والدولة.

شارك الموضوع :

اترك رداً